إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سيميائيّة المرثِيَة العمانيّة…الخليليّ يرثي أستاذه نموذجاً

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سيميائيّة المرثِيَة العمانيّة…الخليليّ يرثي أستاذه نموذجاً



    10.jpg



    المكتبة الرقمية العمانية كوكب المعرفة

    http://www.al-kawkab.net/

    في زحام من الشّواغل، وخلال الحدَث الفجائعيّ القاهر، يفرض الشّاعر على نفسه ضرورة التحنّف، ومراجعة النّفس؛ فينأى بها إلى كهف التّأمل والتّفكّر؛ من خلال مجموعة من المتواليَات من صِيَغ الأمر( قف، تأمّل، تدبّر، تبيّن، انظر) يَخِفّ الشّاعر لكتابتها على جبين مرثيته؛ مُضَمّخة بنفحات الفلسفة الرّوحيّة، وإباء النّفس الأميريّة الوثابة؛ تلك الّتي تُسْتَشَفُّ من إملاءات الصِّيَغ الأمريّة المبثوثة في مرثيته، والّتي يحاول عبْرَها أنْ يستغفل الحدَثان؛ مستنزلا بها قدرة خاصّة لإكراه النّفس، وجبْرها على التّأمل، يدفعها إليه واقعُ وفاة أستاذه الجليل؛ الواقعُ المؤثِّر والمثير؛ لاستقدام الاستجابة الشّعوريّة الشّعريّة من صميمه المشبوب!يقف أوّلا وقفة صمت؛ ليصغي إلى خلجات نفسه، وهمسات محيطه الإنسانيّ والكونيّ؛ ليكون صمته هذا عنصرا فاعلا في دفع الحركة المبدعة؛ بتشكيلها الّلغويّ الدّال على واقع جوّه النّفسي؛ لأنّ مرحلة البناء الشّعري تُحْوِج إلى التّخطيط الّلغوي؛ حتّى يتسنّم درجات الإبداع درجة إثر درجة؛ فيعرف مبدأ القول ومنتهاه، وما يصل به بين الجمل، وما يقطع به بينها؛ حتى تكون على نسق ينتمي مبناه لمعناه، وأوّلُه لآخره وظاهره لباطنه:

    " قفْ تأمّلْ طوارقَ الحدَثــــــانِ

    وتدبّرْ نهايةَ الإنســــــــــــانِ

    وتبيّنْ مصارعَ الدّهْرِ للعــــــــا لَمِ تعلمْ حقيقةَ الإيمــــــــــــانِ

    وانظرِ النّاسَ كيف يمْشُون للموْ

    تِ سِراعًا مِنْ كلِّ قاصٍ ودانِ

    أَلِفُوا العيْشَ فاطمأنّوا إليــــــــهِ

    وجِيادُ الحِمامِ بالْمَيْــــــــــدانِ

    تتعادَى بهمْ سِباقًا إلى الغـــــــا

    يةِ والحتفِ غايةِ الفرســــــانِ"(2).

    هي فرصة يرقُب فيها الشّاعر حيَوات الإنسان، من نافذة التّأمّل، بمنظار ملؤه عدسات الأحاسيس الإنسانيّة، ومجسّاتها الفطريّة الّتي تكشف له مطاوعة النّفوس لناموس الحدَثان حيث " يمشون للموت سراعا " وكأن الحدثانَ هُوّةٌ ذات شفير هار تَخْتِل أقدام المشاة الّذين" ألِفوا العيش؛ فاطمأنّوا إليه " فسرعان ما يُمسك بهم فيها مغناطيس الحتْف ولا ثمّة إمهال لهم؛ فجياد الموت مسروجة؛ لتجنّح بهم في سماء الغيب والغياب، إلى عالم البرزخ والحساب ! "وكأنّ الوجودَ ضَرْبٌ مِنَ السِّحْرِ

    عليهِ تَزاحُمُ الأعيــــــــــــــــــانِ

    وكأنّ الإنسانَ فيه خيــــــــــــالٌ طيْفُ رؤيا في مقلتيْ وَسنـــــــانِ

    وكأنّ الحياةَ ثوبٌ رقيــــــــــــقٌ شَفَّ عنه البِلَى لعينِ الرّانـــــــي

    وكأنّ الأعمارَ غمضةُ عيْــــــنٍ ريْثما تنْجلي عنِ الأجفــــــــــانِ".



    أسلوب التّشبيه المكرور هذا نتيجة طبيعيّة لذلك التّأمّل في عُرْعُرَة جبلِ الحياةِ الّذي رقَى إليه مُستغفلا الحدَثان؛ لينظر الأحوال من عل؛ حيث تبدو أوضح وأجلى؛ فلا عائق يعوق إرسال البصر إلى الوجود، ولا شاغل يشغل البصيرة عن التّمعُّن في أسباب الوجود، ولا مزعج يزعج المتحنّف المتّأمّل؛ وليصرف إليها كلّه انصرافَ التّماهي فيها، والّلاهي عن سواها؛ فإذا بأربعة مسارات كبرى تتسلسل في حلقات تشبيهه؛ بحيث تَنشط من مَنْشَط وُجوديّ عامّ هو" الوجود " فتتّصل بكائن " يُدعَى الإنسان " وهو في ثوب رقيق يسمَّى " الحياة" تذعن رقبته لسلطان " الأعمار " فيرى الوجود سِحْرا؛ لأنّه معجز بديع لا يمتلك له أدوات تفسيريّة إلا السّحْر؛ سحْرَ الإعجاب والانبهار، لا سحْرَ الخداع والانجرار.

    ويرى الشّاعرُ الإنسانَ خيالا؛ لأنّه سرعان ما يغيب عن الماديّة الملموسة باليد الطّبيعية؛ أي عن " الحياة " فيعود ذكرى معنويّة تُدرك عن طريق المعنى ولا تُرى بوساطة شكلها؛ وكأنّ حياته تلك غفوة خفيفة مرّت سريعا؛ فأيقظها داعي " البِلَى ".

    هذا الاستهلال استهلال كونيّ لا يتحدّد بحدود قوميّة ولا ذاتيّة، وإنّما هو إنسانيّ النّزْعة، كوْنيّ الانطلاقة يصل به الشّاعر الأمير إلى مِفْصَل حرَكيّ ذاتيّ في المرثية؛ بحيث ينتقل به إلى عالمه النّفسيّ الخاصّ به، إبّان الحدَث المُفْجِع، وكأنّ الاستهلال هو وسيلته الطّموحة الّتي يَستدرّ بها دموعه الغزيرة، ولا تترامَى إلا باستغراق الفكر في جواهر الأشياء، لا باستغلاقه عن التّفكر والإرعواء، وعندما يحصل له الجوّ المثاليّ للتّأمّل، والمدّد الرّوحيّ المنشود؛ سيسقي حينذك الأرض جميعها عِبَرًا وعَبَرات :



    أيّها المُرسِلُ الدّموعَ غِـــــــزارًا

    تترامَى في لونِها الأُرجُوانـــــي

    قلْ لنعْشٍ يمشي على أرؤسِ النّا

    س مسجّى في حُلّتَيْ أحــــــزانِ

    سِرْ رويدًا بمَن حملْتَ فلــــــــــوْ

    أدركتَ معناه لمْ تسِرْ غيْـرَ وانِ

    قدْ حملتَ العِرفانَ والرُّشْـدَ والإر

    شادَ نُورَ الوجودِ شمسَ الزّمــانِ

    حَمَدَ المرتضَى سليلَ عُبيْـــــــــدٍ

    مَنْشَطَ الفكرِ مِن عِقالِ التّوانـــي".

    يستعمل النّداء أسلوبا لطيفا في خطاب قريب منه؛ باستعمال " أي " ثمّ ينبّه بـ " ها " فيجمع تنبيهين في آنٍ معا؛ التّنبيه الحاصل من الأسلوب ذاته، والحاصل من الـ " ها " ذات النَّفَس السّاخن الصّاعد من الأعماق مباشرة الّذي لا يُحْوِجُه إلّا إلى فتْح فيه؛ فيزفر به على هيئة تأوّهات لا يدرك سماعها إلّا ذلك المنادَى القريب بحرف النداء " أي" لأنّ بكاء الأمير يجب أن يكون وقورا بوقار الإمارة.

    وهذا الأسلوب في أصله لا يختلف عن أسلوب الأمر في " قل" وسِرْ" فكلاهما يدلّان على الطّلب إلّا أنّ الأوّل يتفرّد بذائقة التّنبيه الّلطيف الّذي يَسُرّ للأذْن بشيء!

    إذن؛ فروحه الأميريّة الشّاعرة تُملي عليه عاطفة البوح الهادىء، وعاطفة الرّفق والرّحمة على أستاذه في محيط إجلاله وتوقيره " يمشي على أرؤس النّاس " مشيَ الملوك؛ إنّه تعبير الإمارة يطفح على المشهد بهذه الدّوالّ الثّريّة بالجلال.

    وبعدما يُؤبّن أستاذه بما يراه حريّا به من صفات العلم والفكر والبيان يقف مرّة أخرى موقف التّأمّل والتّساؤل؛ فيرجع إلى أسلوب الطّلب في صورة أخرى من صوره وهي صورة الاستفهام الّتي تدل ? أيضا – على الطّلب نفسه؛ قاصدا به بيان منزلة المرثيّ علما ومكانة، مستعملا " أم" ليشرك المتلقي في تعيين مكانة المرثي، وليحمله على تعيين الخيار الأخير حيث يكون بمنزلة الإنس والجنّ:



    " أتراهُ قد ماتَ يومًا فماتَ الـــــــــــــــــعلمُ فيه وشيمةُ الإحســــــــــــانِ

    أمْ تراهُ في الَّلحْدِ وُورِيَ فــــرْدًا

    أمْ ترَى ثَمَّ وُورِيَ الثّقـــــــــلانِ".



    ثمّ يُشرك المتلقي مرّة تالية ? إنْ لم يكن يقصد خطاب ذات نفسه حسْب ? وهو خطاب يُظهر واجب التّلميذ تجاه شيخه، وحقّ شيخه منه عائدا إلى أسلوبه المألوف في المرثية؛ أسلوب الطّلب" خلّني.." الّذي يُلزم النّفس بالواجب حتما؛ ليجعل بعده جواب الطلب مَنْشَطا مطّردا للرّثاء الّذي يتشكك بأنّه لا يُوفيّه ما يَليق به عن طريق استعماله لإشارة " إنْ":



    "خَلنِّي أُنْشِطِ البيانَ رثـــــــــــاءً

    إنْ وفَى بعضَ حقِّهِ تِبياني

    وأناديهِ وهو عني بعيــــــــــــدٌ وأناجيهِ وهو في أجفانـــي"



    وهو في شكِّهِ هذا لذو أسباب تبرهن موقفه؛ فلشيخه عليه فضل كبير؛توجيها ورعاية وتدريبا، فلا عجب بعدها أن يعتذر عن تقصيره؛ فقد شكّك منذ البداية في قدرته على إيفاء الشّيخ حقَّه من " الرّثاء " إجلالا واحتراما، والشّاعر عندئذ أرثَى لحاله من عدم قدرته على الرّثاء الّذي يطمح إليه؛ فعزّ عليه طِلابُه:

    " فلقدْ راضَ فكرتي وهي بِكْــــرٌ

    وغذاها بطيِّبِ الألبـــــــــــــــانِ

    ورعاها حتّى رآها شبابــــــــــا

    طافرَ الفِكْر ثابتَ الأركـــــــانِ

    راضَها للبيانِ حتّى استبانـــــتْ

    سِرَّها في جلالِه الرُّوحانِــــــي

    ………………………………………………………………………..



    إِيهِ علّامةَ الشّريعةِ أَسجِــــــحْ(2)

    عن مدينِ الولاْ عثورِ الّلســــان

    رامَ يَرثيكَ يومَ فقدِكَ لكـــــــــــنْ كان أرثَى لحالـِـه في العِنـــــان

    ……………………………………………………………

    فأقِلْنيْ شيخيْ قصوريْ وعَجْزي

    عنْ أداءِ الحقِّ الّذي يغشانــــي".

    وليكون عتذاره هذا سببا مناسبا؛ لدخوله مفصل الدّعاء في بإحلال معناه في هيكل المرثية؛ ومدخلا يتحوّل به عن المعنى السّابق؛ فيجعل الجهة الّتي تُوَفِّي النّاس حقوقهم، وترعَى لهم مقاماتهم على أكمل وجه، وأتمّ فضل؛ هي جهة المولى ? سبحانه وتعالى ? ومن أجل ذلك يدعو مُقدِّما الجارَّ والمجرور " لكَ" تخصيصا؛ لاسترفاد العطاء من قِبَل الله تعالى؛ فلو كان مِن قِبَل غيره كان في إعطاء العطاء مَظِنة التّقصير، أو النسيان، أو الغَمْط :

    " ولكَ اللهُ خيْرُ جارٍ علَى الـــــــفِرْ

    دوْسِ بين الأزواجِ والوِلْــــــــــدانِ

    في نعيمٍ لا ينقضي وســـــــــــرورٍ

    يتوالَى وغِبطةٍ وتَهــــــــــــــــــانِ".

    ثمّ ينقل الخطاب إلى أبناء شيخه تعزية لهم في المصاب الّذي يسمّيه خُسرانا؛ وليس خسرانا نكرة بل هو "الخسران" معرّفا بالألف والّلام؛ لأنّ المرثيّ أكبر من أن يكون خسرانا عاديّا وإلّا فإن الشّاعر لن يعييَه التّصرّف بإحكام الإيقاع؛ باستعمال خسران وحدَها في القافية. وهو في عزائه هذا يدفع ? أيضا – بأسلوبه المتكرّر؛ أسلوب الطّلب، لكنّه هذه المرّة يستعمل اسما من أسماء أفعال الأمر" إيه " ولو أبدل همزته هاءً على لغة بعض العرب لكان أسخن بوْحا بعاطفته؛ لِمَا للهاء من طاقة خاصّة، وقدرة على النّفْث والزّفير بالآهات الصّدريّة العميقة؛ لا سيَّما وهي تحمل دلالة الزّيادة والمبالغة (3).

    وعندما كان التّعزي مُناطا بما يُتعزّى به؛ يطرح الشّاعر خِصّيصة من خصائص شيخه الّتي طالما كانت حِلية حميدة يلبسها كلما قرعه خطْب آسِر.

    ويمضي في شأنه هذا خاتما مرثيته؛ وهو يقتبس ? ضمنا – من مشكاة القرآن العظيم قوله تعالى حاكيا عن نبيّه عيسى ? عليه السلام -: " والسّلامُ عليَّ يومَ وُلِدْتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيًّا " (4) ليضيء بهذا القبس مصباح وداع، أو قنديل وفاء يعلّقه على شرفة رثاء شيخه الجليل:

    إيهِ أبناءَه عزاءً على مــــــــــــــــا

    قدْ أُصبتمْ به مِن الْخُســــــــــــــرانِ

    فلكمْ فيهِ أسوةُ الصّبرِ إذْ كـــــــــــا

    نَ صبورًا لكلِّ خَطْبٍ عَـــــــــــــانِ

    ………………………………………………………………………..

    فسلامٌ عليهِ حيًّا ومَيْتًــــــــــــــــــا

    وسلامٌ عليهِ وسْطَ الجِنــــــــــــان".

    الإحالات والإشارات

    (1) " قاض، وأديب ناظم للشعر… تتلمذ على يديه كثير من الفقهاء والأدباء منهم… الشيخ عبدالله بن علي الخليلي". السعدي. معجم الفقهاء والمتكلمين الإباضية، ط1، سلطنة
    عمان، 1428هـ – 2007م.

    (2) الإسجاح:" حُسْن العفو. ومنه المثل السائر في العفو عند المقدرة : ملكت فأسجح". ابن منظور. لسان العرب، مادة ( سجح).

    وينظر: العسكري، أبو هلال (ت 395هـ). جمهرة الأمثال، تح: محمد أبي الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش، ط2، ج2، ص248، دار الجيل، بيروت ? لبنان،دت.

    (3) ينظر: ابن منظور. لسان العرب، مادة (أيه).

    (4) سورة مريم، الآية (33).

يعمل...
X