إضاءة-
مسعود الحمداني-
ليس لـ(ابن حزم) دخل في هذا المقال، فكتابه (الطوق والحمامة) لم يعد ذا أهمية، هناك الآن كتاب جديد يحتل قائمة أفضل المبيعات في العالم، كتابٌ مؤلفه أكثر شهرة من صاحبنا القديم، وهو مؤلف يستحق جائزة (نو..بل) للآداب، حروفه مغموسة بالدم، وهذا يتيح له واقعيه أكبر، ومشاهده تعتاش على جثث طيور صغيرة وكبيرة لا فرق وهذا يعطيه تراجيدية أعنف، وأرض أحداثه هي الأخرى مسجّلة في أطلس العالم باسم آخر، لذلك لا تبحث كثيرًا عن مدينة دون اسم، ولا تكلّف نفسك عناء الترجمة، فكما هو معروف لدى الموسيقيين والراقصين والراقصات أن(الموسيقى لغة عالمية) فكذلك هو الدم لغة كونية لا تحتاج إلى ترجمة.
ولأن الرقابة لا تتيح لي الحديث عن (الطوق)، حفاظاً عليه من (الخدش)، فليس أسهل من الحديث عن (الحمامة)، وهي حمامة عصرية، سوداء اللون وإن بدا أن (بيتها الأبيض) واسع وهادئ وخجول أحياناً، وهي حمامة تتعقب العصافير والصقور وتصطادهم قرباناً لأبنائها، ولأنها حمامة فلا يملك البعض إلا التعاطف معها، حتى وإن رأوا الدماء تلطخ مناقيرها، فهي تتغذى على هذا اللون، وتسبح في بركة منه، صباحاً ومساءً، وهي لذلك ـ ورغم سوادها التاريخي ـ غير أن لونها المنقوع بالدم يعطيها مساحة غير عادية وتناسقاً غير شاذ بالمرة(أحمر مع أسود)!!.
ضحاياها من اليمام البريّ يصل عددهم إلى الآلاف، وسلاحها الطبيعي جدًا لا يفرّق بين صغير وكبير فحقها المشروع في الدفاع عن نفسها يعطيها كل الحق، بل ويتعداه إلى أبعد من ذلك، فالهجوم بالنسبة لها أفضل وسيلة للدفاع، خاصة إذا كان هذا الهجوم للحفاظ على نسلها من الانقراض، وإعطاء صغارها فرصة للحياة واللعب واللهو على قطع أراضِ ممنوحة لهم من التفويض الإلهي!!.
ورغم أن (الطوق) فَهم اللعبة متأخرًا إلا أن الدور راق له كثيرًا، فهو يعمل على منع كل من تسوّل له نفسه (المتوحشة) أن يعكّر صفو لعب (الحمامة)، ولذلك لا يستطيع منع نفسه من التفرّج على موت اليمام الصغير، لأن (العش الأبيض) المتوسط مليء بالقمح، والأرز، والطحين، وهي جائزة مناسبة له في حال استطاع أن ينجح في مهمته.
و(العش الأبيض) الذي يأوي الحمام،ويوفر له ملاذًا آمنًا، اسم غير دقيق حيث يحتل اللونان الأسود والأحمر جزءًا لا بأس به من جدرانه ـ كما هو الحال عند الحمام ـ إلا أنّه يُشاع أن رجلاً متفائلاً أُطلق هذا الاسم عليه كنوع من التنبؤ بالمستقبل الذي يتمناه ساكنوه ذات يوم، وفي رواية أخرى سُمّي بذلك نسبة إلى (الأكفان) التي غض (العش) الطرف عنها في حالة هيجان الحمام، ومحاولته نتف ريش العصافير الصغيرة، الذين يعكّرون صفو ليالي ضيوفه القادمين إلى أرض الإله، الذين أصبحوا بعد حين أرباب المنزل الأصليين بحكم القانون (الحمائمي) والعربي كذلك(يا ضيفنا لو جئتنا..)، ولذلك وفي ظل هذه الغابة الجديدة لا يملك الآخرون من الطبقات الأدنى في الجنس الكوني فرصة إلا للعيش كعبيد مقيدين من أعناقهم في مملكة الحمام الأبدية..وهذا ضد ناموس الطبيعة، وكينونة الأشياء، لذلك وحتى يُعاد تشكيل العالم من جديد، وتعود الحمائم إلى أدوارها السابقة ـ وهذا قد يطول كثيرًا كما يبدوـ، سيظل الوضع على ما هو عليه، غير أن للصقور هجعة لا تستمر، تبدأ بعدها بنهش الحمام، ليعود الكون إلى طبيعته وهدوئه.. وهذا هو الذي يسمونه (التوازن البيئي)!!.
[email protected]
أكثر...