يرى أن الوطن حالة ذهنية وليس مجرد جغرافيا ونشيد-
الحرب الأهلية في لبنان دمرت جيلا بأكمله.. ودفعت آخرين للعيش في المهجر-
حلم العودة إلى الوطن "ضرب من الرومانسية"-
الحياة الأكاديمية في فرنسا مختلفة عن نظيراتها في الولايات المتحدة-
نجاحي في نفض التراب عن الصورة الخاطئة للحضارة الإسلامية أبرز إنجازاتي-
الحضارة الإسلامية منفتحة على الآخر.. ونهلت من علوم اليونان وفارس بصدر رحب-
"معاداة" الغرب للحضارة الإسلامية سياسية.. والخبراء يدركون فضل العرب في تطور العلوم-
إيماني ودفاعي عن الشعب الفلسطيني المظلوم وراء اتهامي بـ"معاداة السامية"-
المأساة الفلسطينية تؤكد وفاة الضمير العالمي.. ومن لا يدافع عن المظلوم ليس إنسانا-
الرغبة في دراسة الحضارة الإسلامية تتزايد في الغرب-
الاستعمار الغربي للعرب والمسلمين خلق "عقدة نقص" لدى المفكرين-
أجرى الحوار- محمد رضا-
أعده للنشر: مدرين المكتومية- أحمد الجهوري-
يؤكد الدكتور جورج صليبا أستاذ العلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية أن الغرب يجهل حقيقة الثقافة العربية والإسلامية، نتيجة للصراع السياسي الذي بدأ منذ الاستعمار وتواصل حتى الآن، بهدف هدم حضارة تمثل الجذر والأساس للحضارة الأوروبية التي يتباهى بها.
ويرى المفكر اللبناني الأصل والمقيم بالولايات المتحدة الأمريكية أنّ الوطن حالة ذهنية وشعورية كاملة وليس مجرد جغرافيا ونشيد، وهو ما يدفعه للتأكيد على أنه لم ينس لحظة وطنه الأول لبنان، الذي هاجر منه بعد حالة من الانكسار النفسي في العالم العربي بعد نكسة 1967، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى أن حلم العودة إلى الوطن "ضرب من الرومانسية".
وتحدث صليبا في حوار خاص مع "الرؤية" عن دور الثقافة العربية والإسلامية في بلوغ أوروبا عصر النهضة، ونشأة التقدم الغربي وأصوله والجذور التي نهل منها. ولم يغفل صليبا الحديث عن حياته الأكاديمية في الولايات المتحدة أو في أي بلد آخر، مؤكدا أنّه يعشق مهنة التدريس، التي يعتبرها مهمة إنسانية قبل أن تكون مصدرًا للدخل.
كيف تصف شعورك عن أول زيارة لك لعمان وتقديم ندوة فكرية؟
عندما تلقيت دعوة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لإلقاء ندوة فكرية وافقت مباشرة، حيث إنني لم أزر عمان من قبل، ويتعين على كل مواطن عربي أن يزور كافة البلدان العربية للتعرّف على ثقافته وحضارته.. لم أكن أعرف عن عمان الكثير، لذلك انتهزت الفرصة للمجيء إلى السلطنة للتعرف على ما لم تذكره الكتب. واعتقد أنّه من المفيد جدا الاحتكاك المباشر مع الحضارات، بعيدا عن قراءة الكتب التي قد تكون غير مطابقة للواقع، لذلك قررت استكشاف الواقع بنفسي والسير في الدروب وبين الناس، وحقيقة وجدت الواقع ممتعًا جدًا، فالشعب العماني يتميز بالطيبة ودماثة الخلق.
ما بين السفر والتنقل والاستقرار في نيويورك، دواع وأسباب تقف وراء ذلك، هل لنا التعرف عليها؟
هناك شقان في هذه الرحلة الحياتية، الأول أن سبب رحيلي عن لبنان وتوجهي لأمريكا كان العمل بالدرجة الأولى؛ حيث إنّي تخرّجت من الجامعة الأمريكية في بيروت ولم تكن تمنح الدكتوراة آنذاك، وكان السقف التعليمي ينتهي بالماجستير، وهو ما يجعل المرء يختار بين طريقين، إمّا أن يقنع بهذه الدرجة العلمية، أو أن يتوجه للعمل والتوظيف، إلا إنني كنت امتلك طموحا ورغبت في دراسة الدكتوراه وهو ما لم يتوفر في لبنان في تلك الفترة، وكان يتعين على كل لبناني أن يبحث عما يريد لتحقيقه، لذلك كانت الهجرة من لبنان متكررة لكثير من أبناء الوطن، حيث لم يكن هناك سقف في الحصول على تعليم أكبر، والطموح اللبناني طموح يتجاوز الحدود وينتقل خارج التخوم الجغرافية للوطن. وكانت تلك الفترة هي ما بعد نكسة 1967، وكان الوعي الجمعي للعرب يعاني من انكسار نفسي وخذلان اجتماعي، فضلا عن الندم على ضياع المقدرات الإنسانية، وكل هذه الأمور دفعتني بالدرجة الأولى لنيل الدكتوراة، وكانت هذه من بين الأسباب العملية هي التي دفعت جيلا كاملا للرحيل والتحليق في آفاق أخرى، فلم يكن هناك ما يجذبك للبقاء.
وبعد أن انهيت دراسة الدكتوراه، اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان، وفي ذلك الوقت كان يراودني شعور بالرغبة في العمل الأكاديمي في لبنان، ولم أسع على الإطلاق للحصول على إقامة دائمة بالولايات المتحدة، وخلال هذه وتلك وعلى مدار 15 عاما من الحرب، خلفت في نفوسنا معاني مختلفة عن الوطن، دفعت بجيلنا للنظر إلى لبنان (الوطن) من منظور مختلف وزاوية رؤية جديدة، فليس من الضروري أن يتواجد الإنسان داخل الوطن ليتمكّن من خدمته، فالوطن نخدمه من أي مكان، وخدمة الوطن تعكس جوانب نفسيّة، وتستطيع أن تقوم به أينما حلّ المرء أو ارتحل، وبأي طريقة كانت. وعلى الرغم من هجر الوطن، إلا أنّه كان الغائب الحاضر، لم يغب لحظة عن ذواتنا أو عقولنا وقلوبنا، وقررت آنذاك أن أعمل في بلاد المهجر بعيدًا عن الأرض، واتخذت قراري بالتركيز على دراسة الحضارة دون إمكانية الرجوع، وحينما انظر في المرآة الآن بعد 42 عامًا من الغربة والارتحال، أرى أنّ حلم العودة أصبح ضربًا من الرومانسية، لا أنكر أنّ الدوافع في البداية علميّة ثم زادت عليها ظروف الحرب التي دمرت العديد من الشباب في ذلك الوقت من أبناء جيلي، وكانت النتيجة صدمات جراء الحرب.
ولماذا اخترت الولايات المتحدة وتحديدًا نيويورك للاستقرار، لماذا لم تفضل ألمانيا أو فرنسا أو غيرها؟
الاختيار ليس بهذه السهولة، وهناك فروق جوهرية، فالحياة الأكاديمية في الولايات المتحدة والحياة الاجتماعية في الدول الأوروبية والغربية مختلفة ومتباينة، لذلك عندما يعتاد الإنسان على نمط معين من الحياة، يكون من السهل البقاء والعمل في هذا النظام، على أن يبدأ المرء من جديد في مكان آخر، لذلك عندما قررت أن اذهب إلى ألمانيا كان يتعين عليّ تغير لغة التدريس ولغة الدراسة ولغة العلاقات وحتى نظام الجامعة نفسها، كما أنّ علاقة الطلاب بالأساتذة تختلف كليا عمّا هي في أمريكا، وكذلك فرنسا، ويجب أن نضع في الحسبان أنّ فرنسا لديها تراث أكاديمي قائم بذاته، ونظام التدريس على سبيل المثال في فرنسا مختلف عن الولايات المتحدة، ومنذ حوالي 10-15 سنة تلقيت دعوة للتدريس في فرنسا، لكني عندما ذهبت هناك وجدت أنّ طريقة تعامل الطلاب مع الأساتذة مختلفة تمامًا، فعلى سبيل المثال إذا كنت ألقي محاضرة في أمريكا والطالب لم يفهم شيئًا يستوقفني ويسأل، أمّا في فرنسا فخلال العام الذي قمت فيه بالتدريس هناك، لم يسألني أي طالب ولم يستوقفني، كل الأشياء التي أتفوّه بها تصبح وكأنّها مقدّسات وبعد أن تمضي سنة أو سنتان يعودوا ليسألوك، الطالب الفرنسي يتعامل مع الأستاذ كأنّه منزه عن السؤال لا يجوز أن يقاطعه ولا يجوز أن يتحدث معه، كل هذا نمط أكاديمي غريب.
خلال فترة عملك في الولايات المتحدة، ماذا أنجز الدكتور صليبا تجاه الإسلام والعلوم الإسلامية، وهي مادة التخصص لك؟
الإنجاز الحقيقي أن أترك علمًا يستفيد منه الآخرون، وأن يعمل المرء بكل جد واجتهاد، والتاريخ هو من سيحكم علينا في النهاية، واعتقد أنّ ما أقوم به من تدريس للعلوم الإسلامية والعربية يبرز مشكلة واقعية، وهي أنّ الحضارة العربية هي الحضارة الوحيدة التي أنتجت فكرًا من منطلق الفكر الإسلامي، لكنها ليست حضارة دينية في الأساس، بل انطلقت إلى العالم من مفاهيم الدين المنفتح على الآخر، أي الدين الذي لا يقيد المرء، ويسمح لكل من يعتنقونه بالتفكير خارج إطاره، دون قيود، والعمل في بلدان الاغتراب خاصة في نيويورك يشبه العمل فيما يمكن تسميته خلف خطوط العدو، فالإنسان في هذه البلدان يعمل في مجال قد لا يهتم به به الكثيرون، وهي حضارة مختلفة عن حضارتهم، فعندما أقوم بالتدريس مثلا لمادة عن تطور العلوم، كان الطلاب في الدول الأوروبية يأتون إلى المحاضرات بشغف التعلم والنهل من المعارف، ومثل هذا الإقبال للتعرف على الثقافة العربية والإسلامية يختلف تماما عما هو سائد من أفكار عامة فضفاضة من أنّ العربي لا يفكر ولا يتعاطى مع العلوم والمعارف، وهو إنسان متطرف ومتعصب لأفكاره، ولا يعرف سوى القتال والجهاد. كل هذا الترويج الخاطئ للفكر العربي الإسلامي بدأ يتكشّف في الغرب، وأدرك كثيرون أنّ كل ذلك ليس سوى ترويج سياسي منظم من قبل أشخاص يطمحون إلى تحقيق أهداف خفية، وفي هذا الجانب اعتقد أنّ إنجازاتي الشخصية أني فتحت نافذة أو بابًا صغيرًا للطلاب المهتمين بدراسة هذه المعارف والعلوم العربية والإسلامية، وأني أشركتهم في النظر إلى هذه الحضارة، وقمت بإهالة التراب عمّا يعتري الثقافة العربية الإسلامية من أكاذيب وادعاءات خاطئة، وبهذه الطريقة ننجح في نزع الصورة القاتمة عن هذه الحضارة العظيمة.
وهل يمكن من هذا المنطلق، القول إن هناك رؤية جديدة تتبلور حول الإسلام في الغرب تقوم على الوضوح والحقيقة؟
لا شك في ذلك، ومن خلال خبراتي المتواضعة أظن أن الانفتاح على الآخر هو جوهر الحضارة الإسلامية، لأنها دائمًا كانت تتعاطى مع الحضارات الأخرى بنوع من الانفتاح، كما لم يكن هذا الانفتاح لأجل الانفتاح وإنما لمحاولة فهم الآخر ومحاولة تحفيز الآخر للاستفادة من هذا لأغراض هذه الحضارة العريقة، والحضارة الإسلامية لم يثبت أنّها رفضت النهل من العلوم أو المعارف الأخرى، بل استفادت من الكتابات القديمة واستعانت بالعلوم والمشارب المختلفة، وخلال 500 سنة من تطور الحضارة العربية والإسلامية استعانوا بأفكار من الفكر السريالي واليوناني والفارسي، وحتى في عصر النهضة، نهلوا من المعارف بكل رحابة صدر، أمّا ما يحدث الآن من ظواهر تبدو معادية للحضارة الإسلامية لم تكن موجودة من قبل، وهي أمور مستحدثة وتنبع من منطلقات سياسية بحتة، ولا علاقة لها بالفكر أو العلوم.
إذن يمكن القول إن انفتاحك على العلوم كان دافعا لاتهامك بما يسمى "معاداة السامية"؟
بكل تأكيد.. لكن حقيقة ما حدث في كولومبيا عام 2005 كان يتعلق بالمبادئ، وموقفي من القضية الفلسطينية، وأنا لا أتردد عن إعلان موقفي تجاه قضية ما أو التأكيد على مبدأ أؤمن به، وأعلم جيدا أن هناك شعبا في فلسطين يعاني من ظلم تاريخي، ولا يزال ولا يبدو أنّ هناك رغبة في رفع هذا الظلم عنه، لذلك يسميني البعض "معاديا للسامية"، لكن ذلك لن يثنيني عن الدفاع عن شعب فلسطين، وأن أمارس كل صنوف التعبير عن الرأي لدفع العالم إلى تبني المشكلة الفلسطينية وكشف الغمة عن هذا الشعب المكبوت والمحتل، وهو شعب مظلوم يعاني من التهجير، فهناك أكثر من 4 أو 5 ملايين فلسطيني مهجرين، ولا أحد يتحدث بصوته أو يدافع عنه، والحل الوحيد هو أن يسعى المجتمع الدولي للاعتراف بحق هذا الشعب وحق العودة إلى أرضه، وأن يعود إلى شجرة الزيتون التي زرعها أجداده ويأكل من ثمرها. إنّ هذه المأساة يجب أن يدافع عنها كل من يتمتع بالإنسانية، وكل من يملك ضميرًا حيّا في داخله، وبالنسبة لي لن أتخلى عن ضميري، وليتهموني بما يشاؤون وليقولوا عني ما يحلوا لهم.
هل كانت لمواقفك وآرائك دور في عرقلة عملك في أمريكا، أو التضييق عليك؟
إطلاقًا، فمواقفنا السياسية والادعاءات ضد الحضارة العربية والإسلامية لم تمنع الطلاب من الوفود إلى محاضراتنا بل على النقيض من ذلك، ارتفع عدد الطلاب المنتسبين إلى الصفوف التي أدرسها بعد ذلك، واستطيع القول إنّ هذه الحملة فشلت وارتدت على صاحبها، فالآن على سبيل المثال أقوم بتدريس مادة "مقدمات إلى الحضارة الإسلامية"، حيث أعتقد أنّه من الإجحاف عدم ذكر الحضارة التي احتضنت كافة العلوم في العصور الماضية، حينما يدرس الطالب مواد الحضارة بشكل عام، ويشمل منهج هذه المادة على نواحي الحضارة التي سهلت لها أن تنشأ، وهذه المادة كان يدرسها 50 طالبًا أو ما يزيد، وحينها بدأت الحملة ضدي، لكن في الفصل الذي أدرس فيه الحضارة الإسلامية المعاصرة بلغ عدد الطلاب فيه 155 طالبًا، وهو ذات العدد الموجود في مواد مثل الرياضيات أو الفيزياء، وهؤلاء الطلاب لديهم شغف حقيقي بدراسة هذه الحضارة، ويقنعون زملاءهم من الطلاب إلى المشاركة في محاضراتي.
كيف ترى استقبال الغرب لكتابك "العلوم الإسلامية وقيام الحضارة الأوروبية"، وما الذي يميزه؟
كان التركيز في الكتاب ينصب على عدة نقاط؛ النقطة الأولى تمثلت في الفصلين الأولين اللذين سميتهما "قضية البدايات"، وتناولت فيه بداية العلوم في الحضارة الإسلاميّة وماهي الدوافع، والمؤثرات التي سمحت لهذه العلوم بالانتشار، وقمت بطرح عدة أسئلة أجبت عنها، وساهمت في طريقة التفكير والنظر إلى الحضارة، كنا نقول دائمًا إنّ الحضارة الإسلامية لم تأت بجديد إلا عندما احتكت بالحضارة اليمنية، ولكن عندما تنظر إلى الإنتاجات العلمية نفسها، يتضح أنّه منذ مطلع الحضارة الإسلامية والعصر الأموي وحتى بداية العصر العباسي، كانت هناك أعمال علمية وإنتاج علمي، فالعرب احتكوا ببقايا الحضارة اليونانية.
والسؤال المهم الذي ينبغي الإجابة عنه هو كيف لهذه الحضارة الإسلامية الناشئة التي تستكشف طرقها، تنهل من حضارة أخرى شبه منتهية ثم تقوم بإنعاشها بشكل جذري، فتعيد اليونانية والفكر اليوناني إلى النقاش مجددًا، وتنتقد هذا الفكر اليوناني ثمّ تأخذ منه ما يناسبها. لذا من المؤكد أنّ هذا التفاعل الحضاري الذي حدث آنذاك يعكس عمق هذه الحضارات. وقد انتهى الاهتمام الغربي بالحضارة الإسلامية عندما تمت ترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية، فانتشرت بعدها في أوروبا وصنعت عالمها الجديد.
فيما أنّ الجزء الخامس والسادس من هذا الكتاب، فقد اهتم بذكر الجوانب العلميّة والنتائج التقنية بشكل دقيق، وهي تلك العلوم المرتبطة بالرياضيات والفلك، وفي هذا الصدد نتحدث الآن عن التكامل الحضاري بين الحضارات والشعوب، بعد القرون الوسطى وحتى العصر الحديث. وبالاطلاع على حضارة القرن السادس عشر في أوروبا يمكن استكشاف النصوص والنظريات العلميّة التي نقلت عن العربية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هو كيف يمكن للإنسان أن يفهم الفكر اليوناني والفكر الأوروبي دون استكشاف مصادر هذا الفكر، وهي الآن باتت واضحة المعالم وبكل تأكيد تعود إلى جذورها الإسلاميّة، ما يفرض ضرورة دراسة الحضارة الإسلامية قبل التعرف على الحضارات الأوروبية الحديثة باعتبارها الأصل، ولا ينبغي النظر إلى ذلك كنوع من الشيفونية (ادعاء الاختلاف والتميز عن الآخرين)، حيث إنّ النقطة الأهم في ذلك هو أنّ أي علم ينشأ في إطار تاريخي ووفق ظروف مختلفة، وهذا يفرض معرفة الجذور.
ماذا لو قمنا بتقييم فترة ازدهار الحضارة الإسلامية، كيف ننظر إليها؟
كانت الترجمة الوعاء الأساسي والحقيقي للعلوم، التي نقلت من العربية إلى اللاتينية خلال القرون الوسطى، وكانت الأصول معلومة المصدر، فالجميع كان يعرف أنّ كتاب الجبر للخوارزمي تمت ترجمته من خلال روفر شستر، وهناك نص عربي ونص لاتيني. لكن مع بداية عصر النهضة لم يكن التواصل على هذا المستوى، وتراجعت الترجمة. لكن هناك تعاطٍ بين الحضارات، وليس من الضرورة أن يكون ذلك من خلال الترجمة، حيث بدأ العديد من علماء الغرب تعلم اللغة العربية ليأخذوا الفائدة منها، ويمكن مشاهدة ملاحظاتهم على هوامش الكتب اللاتينية أو على هوامش الكتب العربية كذلك، وهو دليل واضح على أنّ الذي يكتب تلك الهوامش يقرأ اللغة بشكل جيد، ومعظم تلك الكتب لم تترجم إلى اللاتينية، وهناك أشخاص يقرأونها باللغة الأصلية للكتاب ويكتبون ملاحظاتهم، ويذهبون إلى أرقى الجامعات الأوروبية ويقومون بتدريس هذه المادة.
ومما يثار في هذه النقطة أنّ الفكر العلمي انغلق في الحضارة الإسلامية بسبب كتابات الأمام الغزالي في كتابه "تهافت التهافت"، لكن هذا كان من الممكن حدوثه، حتى لو لم يظهر الغزالي، فهناك العشرات من العلماء ممن ألفوا كتبًا لا تزال قائمة حتى الآن، وحينما ندرسها بطريقة مختلفة نجد أنّها أكثر عمقًا عمّا كتبه الغزالي.
ولا يمكن في هذا السياق نكران وجود انحاط في الحضارات، وتراجع تدريجي لدور أي حضارة، لكن ذلك لم يكن بسبب كتابات الغزالي، ولم تتراجع الحضارة الإسلامية في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، لكن بدأ التراجع تدريجيًا مع مطلع القرن السادس عشر، وهو ما يشار إليه في كتابي في الفصل الأخير، وأقول بكل وضوح إنّ هذا التراجع كان نتيجة مباشرة للحالة الاقتصادية التي عمّت ليس فقط الحضارة الإسلامية وإنما جميع الحضارات غيرالأوروبية، وبشكل أدق أقول إنّ هذه الفترة بدأت في القرن السادس عشر والتي تمّ فيها اكتشاف العالم الجديد (أمريكا) من خلال كريستوفر كولومبس.
إذن.. ما هو التأثير الناجم عن انتقال طرق التجارة من العالم الإسلامي إلى المحيط الأطلنطي؟
أي حضارة تضع مالها في دعم العلوم والثقافة، وبالتالي تنتج، ولذلك عصر النهضة ليس عصر الرسم فقط، وإنّما عصر العلوم والثقافة، وكان هناك من يمول هذا، وكان التمويل نابعًا من اكتشافات العالم الجديد، لذلك شكل القرن السادس عشر حقبة تاريخية مهمة.. وتلك الفترة لم تأت بهذا القدر الهائل من ما يسمى "رأس المال" الآن، إنّما أفقرت الحضارات الأخرى، لأنّها حوّلت خطوط التجارة، فقد كانت حركة التجارة قبل القرن السادس عشر تمر عبر العالم الإسلامي، وأي تجارة تمر من مكان ما تترك أثرًا من خلال المادة والفكر ورأس المال وغيرها من الأمور. ومع انتقال الخطوط التجارية من العالم الإسلامي إلى المحيط الأطلنطي وإلى ما حول إفريقيا، تُرك العالم الإسلامي في منطقة جغرافية فقيرة، وعانى من فقر على كافة المستويات، في الإنتاج العلمي والديني والادبي والاقتصادي.
وبشكل عام كان تأثير هذا التراجع الاقتصادي واضحًا على كافة الحضارات البعيدة عن أوروبا والعالم الجديد منذ القرن السادس عشر، وهو الأمر الذي حُدّثت فيه الحضارة الصينية، التي كانت تنافس الحضارة الإسلامية، وتنافس العلم الأوروبي، لكن أيضًا أفل نجم الحضارة الصينية، على الرغم من أنّها لم يظهر لديها الإمام الغزالي ولم تكن تدين بالإسلام، إذن كان السبب هو التراجع الاقتصادي وتحول طرق التجارة، وهو ما يفرض على الباحثين دراسته بكل عمق.
وسأقوم في كتابي المقبل، بتسليط الضوء على الأسباب وراء نشأة العلوم الأوروبية، وكيف نشأت بعد القرن السادس عشر، وكيف افتقر باقي العالم وظل يعاني الفقر منذ ذلك الحين حتى الآن، بل إنّ الدول الأخرى تسعى للوصول إلى ما وصلت إليه أوروبا وتكافح لاقتفاء الأثر، والعودة إلى السباق الذي خسره من قبل، وهذا هو الجانب المهم الذي ينبغي أن تدرسه بشكل جيد وأن نتوقف عن البحث في أسباب تأليف الغزالي لكتابه أو كيفية تعاطيه للفلسلفة. ويجب في هذا السياق التأكيد على أنّ الإمام الغزالي كان فيلسوفًا كبيرا يفوق ابن سينا والفارابي وغيرهم كثيرين، ووضع العديد من المؤلفات المعنية بالفلسلفة والفلاسفة، والسبب في أن الغرب اتهم الغزالي بأنّه من المتزمّتين عدم قراءتهم لكتاب "تهافت التهافت" بل قرأوا فقط "مقاصد الفلاسفة"، وهو الأمر الذي أشار إليه ابن تيمية. وبخصوص كتابي الجديد لا أستطيع أن أحدد وقتا معينًا لإصداره، لعدم وجود وقت فراغ وانشغالي بالتدريس وهي المهنة التي أعشقها.
كيف ترى مستقبل العلاقات الفكرية والعلمية بين الحضاره الإسلامية والأوروبية؟
من بعد القرن التاسع عشر الميلادي وهو عصر الاستعمار، كان المستعمر الغربي محتلا بهدف إذلال هذه الحضارة، ومن تأثيرات ذلك أنّه خلق في النفسية العربية نوعا من "عقدة النقص"، وأصبح المفكرون العرب المحدثون ينظرون إلى الحضارة الإسلامية من عيون المستعمر والمستشرق الغربي، وهذا هو التأثير العكسي والتأثير السيء للاستعمار، إنّه قتل هذه الشخصيّة، وجعلها تشعر بعقدة النقص، ولا تشعر بالتأكد من المعلومة إلا إذا حصلت عليه من الفكر الغربي.
لذا يتعين علينا العمل بشكل جيد وقراءة النصوص بتمعّن، وأن نفصّل النصوص بتجرد، ونفعّلها دائمًا، وغير ذلك يعتبر مضيعة للوقت.
هل هناك رسالة تريد توجيهها للجمهور العماني؟
أولا لا ينبغي اعتبار أنّ هناك فئة مثقفة وأخرى غير ذلك؛ لأنّ المثقف له دور، والشخص العادي كذلك له دور مختلف، وهذه الأدوار تتباين بيننا، وكلٌ يقوم بما يستطيع به حتى الحرفي الذي يعمل بالسوق عندما يقوم بعمل جيّد يخدم هذه الحضارة ورسالتها، لذا علينا أن نأخذ الأمور بجدية، وأن نقوم بأي عمل بمنتهى الجدية، وكأننا نعيش من أجله فقط، وعندها سنتمكن من بناء حضارة مختلفة وإحياء الحضارة القديمة، وأن نفهم دلالات الأمور ونتمعن فيها.
ماذا عن أحلام العودة إلى الوطن؟
ما دام الوطن دائمًا في الذهن فهذا يعني أنك دائمًا مهمومًا بالوطن، وهي حاله ذهنية، حيث يعيش المرء داخل الوطن، كما أنّ الوطن يعيش فيه، والوطن ليس جغرافيًا أو نشيدًا وطنيًا يتردد في الاحتفالات الوطنية، لكن الوطن هو الوضع النفسي الذي تمارسه كل يوم.
أكثر...
الحرب الأهلية في لبنان دمرت جيلا بأكمله.. ودفعت آخرين للعيش في المهجر-
حلم العودة إلى الوطن "ضرب من الرومانسية"-
الحياة الأكاديمية في فرنسا مختلفة عن نظيراتها في الولايات المتحدة-
نجاحي في نفض التراب عن الصورة الخاطئة للحضارة الإسلامية أبرز إنجازاتي-
الحضارة الإسلامية منفتحة على الآخر.. ونهلت من علوم اليونان وفارس بصدر رحب-
"معاداة" الغرب للحضارة الإسلامية سياسية.. والخبراء يدركون فضل العرب في تطور العلوم-
إيماني ودفاعي عن الشعب الفلسطيني المظلوم وراء اتهامي بـ"معاداة السامية"-
المأساة الفلسطينية تؤكد وفاة الضمير العالمي.. ومن لا يدافع عن المظلوم ليس إنسانا-
الرغبة في دراسة الحضارة الإسلامية تتزايد في الغرب-
الاستعمار الغربي للعرب والمسلمين خلق "عقدة نقص" لدى المفكرين-
أجرى الحوار- محمد رضا-
أعده للنشر: مدرين المكتومية- أحمد الجهوري-
يؤكد الدكتور جورج صليبا أستاذ العلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية أن الغرب يجهل حقيقة الثقافة العربية والإسلامية، نتيجة للصراع السياسي الذي بدأ منذ الاستعمار وتواصل حتى الآن، بهدف هدم حضارة تمثل الجذر والأساس للحضارة الأوروبية التي يتباهى بها.
ويرى المفكر اللبناني الأصل والمقيم بالولايات المتحدة الأمريكية أنّ الوطن حالة ذهنية وشعورية كاملة وليس مجرد جغرافيا ونشيد، وهو ما يدفعه للتأكيد على أنه لم ينس لحظة وطنه الأول لبنان، الذي هاجر منه بعد حالة من الانكسار النفسي في العالم العربي بعد نكسة 1967، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى أن حلم العودة إلى الوطن "ضرب من الرومانسية".
وتحدث صليبا في حوار خاص مع "الرؤية" عن دور الثقافة العربية والإسلامية في بلوغ أوروبا عصر النهضة، ونشأة التقدم الغربي وأصوله والجذور التي نهل منها. ولم يغفل صليبا الحديث عن حياته الأكاديمية في الولايات المتحدة أو في أي بلد آخر، مؤكدا أنّه يعشق مهنة التدريس، التي يعتبرها مهمة إنسانية قبل أن تكون مصدرًا للدخل.
كيف تصف شعورك عن أول زيارة لك لعمان وتقديم ندوة فكرية؟
عندما تلقيت دعوة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لإلقاء ندوة فكرية وافقت مباشرة، حيث إنني لم أزر عمان من قبل، ويتعين على كل مواطن عربي أن يزور كافة البلدان العربية للتعرّف على ثقافته وحضارته.. لم أكن أعرف عن عمان الكثير، لذلك انتهزت الفرصة للمجيء إلى السلطنة للتعرف على ما لم تذكره الكتب. واعتقد أنّه من المفيد جدا الاحتكاك المباشر مع الحضارات، بعيدا عن قراءة الكتب التي قد تكون غير مطابقة للواقع، لذلك قررت استكشاف الواقع بنفسي والسير في الدروب وبين الناس، وحقيقة وجدت الواقع ممتعًا جدًا، فالشعب العماني يتميز بالطيبة ودماثة الخلق.
ما بين السفر والتنقل والاستقرار في نيويورك، دواع وأسباب تقف وراء ذلك، هل لنا التعرف عليها؟
هناك شقان في هذه الرحلة الحياتية، الأول أن سبب رحيلي عن لبنان وتوجهي لأمريكا كان العمل بالدرجة الأولى؛ حيث إنّي تخرّجت من الجامعة الأمريكية في بيروت ولم تكن تمنح الدكتوراة آنذاك، وكان السقف التعليمي ينتهي بالماجستير، وهو ما يجعل المرء يختار بين طريقين، إمّا أن يقنع بهذه الدرجة العلمية، أو أن يتوجه للعمل والتوظيف، إلا إنني كنت امتلك طموحا ورغبت في دراسة الدكتوراه وهو ما لم يتوفر في لبنان في تلك الفترة، وكان يتعين على كل لبناني أن يبحث عما يريد لتحقيقه، لذلك كانت الهجرة من لبنان متكررة لكثير من أبناء الوطن، حيث لم يكن هناك سقف في الحصول على تعليم أكبر، والطموح اللبناني طموح يتجاوز الحدود وينتقل خارج التخوم الجغرافية للوطن. وكانت تلك الفترة هي ما بعد نكسة 1967، وكان الوعي الجمعي للعرب يعاني من انكسار نفسي وخذلان اجتماعي، فضلا عن الندم على ضياع المقدرات الإنسانية، وكل هذه الأمور دفعتني بالدرجة الأولى لنيل الدكتوراة، وكانت هذه من بين الأسباب العملية هي التي دفعت جيلا كاملا للرحيل والتحليق في آفاق أخرى، فلم يكن هناك ما يجذبك للبقاء.
وبعد أن انهيت دراسة الدكتوراه، اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان، وفي ذلك الوقت كان يراودني شعور بالرغبة في العمل الأكاديمي في لبنان، ولم أسع على الإطلاق للحصول على إقامة دائمة بالولايات المتحدة، وخلال هذه وتلك وعلى مدار 15 عاما من الحرب، خلفت في نفوسنا معاني مختلفة عن الوطن، دفعت بجيلنا للنظر إلى لبنان (الوطن) من منظور مختلف وزاوية رؤية جديدة، فليس من الضروري أن يتواجد الإنسان داخل الوطن ليتمكّن من خدمته، فالوطن نخدمه من أي مكان، وخدمة الوطن تعكس جوانب نفسيّة، وتستطيع أن تقوم به أينما حلّ المرء أو ارتحل، وبأي طريقة كانت. وعلى الرغم من هجر الوطن، إلا أنّه كان الغائب الحاضر، لم يغب لحظة عن ذواتنا أو عقولنا وقلوبنا، وقررت آنذاك أن أعمل في بلاد المهجر بعيدًا عن الأرض، واتخذت قراري بالتركيز على دراسة الحضارة دون إمكانية الرجوع، وحينما انظر في المرآة الآن بعد 42 عامًا من الغربة والارتحال، أرى أنّ حلم العودة أصبح ضربًا من الرومانسية، لا أنكر أنّ الدوافع في البداية علميّة ثم زادت عليها ظروف الحرب التي دمرت العديد من الشباب في ذلك الوقت من أبناء جيلي، وكانت النتيجة صدمات جراء الحرب.
ولماذا اخترت الولايات المتحدة وتحديدًا نيويورك للاستقرار، لماذا لم تفضل ألمانيا أو فرنسا أو غيرها؟
الاختيار ليس بهذه السهولة، وهناك فروق جوهرية، فالحياة الأكاديمية في الولايات المتحدة والحياة الاجتماعية في الدول الأوروبية والغربية مختلفة ومتباينة، لذلك عندما يعتاد الإنسان على نمط معين من الحياة، يكون من السهل البقاء والعمل في هذا النظام، على أن يبدأ المرء من جديد في مكان آخر، لذلك عندما قررت أن اذهب إلى ألمانيا كان يتعين عليّ تغير لغة التدريس ولغة الدراسة ولغة العلاقات وحتى نظام الجامعة نفسها، كما أنّ علاقة الطلاب بالأساتذة تختلف كليا عمّا هي في أمريكا، وكذلك فرنسا، ويجب أن نضع في الحسبان أنّ فرنسا لديها تراث أكاديمي قائم بذاته، ونظام التدريس على سبيل المثال في فرنسا مختلف عن الولايات المتحدة، ومنذ حوالي 10-15 سنة تلقيت دعوة للتدريس في فرنسا، لكني عندما ذهبت هناك وجدت أنّ طريقة تعامل الطلاب مع الأساتذة مختلفة تمامًا، فعلى سبيل المثال إذا كنت ألقي محاضرة في أمريكا والطالب لم يفهم شيئًا يستوقفني ويسأل، أمّا في فرنسا فخلال العام الذي قمت فيه بالتدريس هناك، لم يسألني أي طالب ولم يستوقفني، كل الأشياء التي أتفوّه بها تصبح وكأنّها مقدّسات وبعد أن تمضي سنة أو سنتان يعودوا ليسألوك، الطالب الفرنسي يتعامل مع الأستاذ كأنّه منزه عن السؤال لا يجوز أن يقاطعه ولا يجوز أن يتحدث معه، كل هذا نمط أكاديمي غريب.
خلال فترة عملك في الولايات المتحدة، ماذا أنجز الدكتور صليبا تجاه الإسلام والعلوم الإسلامية، وهي مادة التخصص لك؟
الإنجاز الحقيقي أن أترك علمًا يستفيد منه الآخرون، وأن يعمل المرء بكل جد واجتهاد، والتاريخ هو من سيحكم علينا في النهاية، واعتقد أنّ ما أقوم به من تدريس للعلوم الإسلامية والعربية يبرز مشكلة واقعية، وهي أنّ الحضارة العربية هي الحضارة الوحيدة التي أنتجت فكرًا من منطلق الفكر الإسلامي، لكنها ليست حضارة دينية في الأساس، بل انطلقت إلى العالم من مفاهيم الدين المنفتح على الآخر، أي الدين الذي لا يقيد المرء، ويسمح لكل من يعتنقونه بالتفكير خارج إطاره، دون قيود، والعمل في بلدان الاغتراب خاصة في نيويورك يشبه العمل فيما يمكن تسميته خلف خطوط العدو، فالإنسان في هذه البلدان يعمل في مجال قد لا يهتم به به الكثيرون، وهي حضارة مختلفة عن حضارتهم، فعندما أقوم بالتدريس مثلا لمادة عن تطور العلوم، كان الطلاب في الدول الأوروبية يأتون إلى المحاضرات بشغف التعلم والنهل من المعارف، ومثل هذا الإقبال للتعرف على الثقافة العربية والإسلامية يختلف تماما عما هو سائد من أفكار عامة فضفاضة من أنّ العربي لا يفكر ولا يتعاطى مع العلوم والمعارف، وهو إنسان متطرف ومتعصب لأفكاره، ولا يعرف سوى القتال والجهاد. كل هذا الترويج الخاطئ للفكر العربي الإسلامي بدأ يتكشّف في الغرب، وأدرك كثيرون أنّ كل ذلك ليس سوى ترويج سياسي منظم من قبل أشخاص يطمحون إلى تحقيق أهداف خفية، وفي هذا الجانب اعتقد أنّ إنجازاتي الشخصية أني فتحت نافذة أو بابًا صغيرًا للطلاب المهتمين بدراسة هذه المعارف والعلوم العربية والإسلامية، وأني أشركتهم في النظر إلى هذه الحضارة، وقمت بإهالة التراب عمّا يعتري الثقافة العربية الإسلامية من أكاذيب وادعاءات خاطئة، وبهذه الطريقة ننجح في نزع الصورة القاتمة عن هذه الحضارة العظيمة.
وهل يمكن من هذا المنطلق، القول إن هناك رؤية جديدة تتبلور حول الإسلام في الغرب تقوم على الوضوح والحقيقة؟
لا شك في ذلك، ومن خلال خبراتي المتواضعة أظن أن الانفتاح على الآخر هو جوهر الحضارة الإسلامية، لأنها دائمًا كانت تتعاطى مع الحضارات الأخرى بنوع من الانفتاح، كما لم يكن هذا الانفتاح لأجل الانفتاح وإنما لمحاولة فهم الآخر ومحاولة تحفيز الآخر للاستفادة من هذا لأغراض هذه الحضارة العريقة، والحضارة الإسلامية لم يثبت أنّها رفضت النهل من العلوم أو المعارف الأخرى، بل استفادت من الكتابات القديمة واستعانت بالعلوم والمشارب المختلفة، وخلال 500 سنة من تطور الحضارة العربية والإسلامية استعانوا بأفكار من الفكر السريالي واليوناني والفارسي، وحتى في عصر النهضة، نهلوا من المعارف بكل رحابة صدر، أمّا ما يحدث الآن من ظواهر تبدو معادية للحضارة الإسلامية لم تكن موجودة من قبل، وهي أمور مستحدثة وتنبع من منطلقات سياسية بحتة، ولا علاقة لها بالفكر أو العلوم.
إذن يمكن القول إن انفتاحك على العلوم كان دافعا لاتهامك بما يسمى "معاداة السامية"؟
بكل تأكيد.. لكن حقيقة ما حدث في كولومبيا عام 2005 كان يتعلق بالمبادئ، وموقفي من القضية الفلسطينية، وأنا لا أتردد عن إعلان موقفي تجاه قضية ما أو التأكيد على مبدأ أؤمن به، وأعلم جيدا أن هناك شعبا في فلسطين يعاني من ظلم تاريخي، ولا يزال ولا يبدو أنّ هناك رغبة في رفع هذا الظلم عنه، لذلك يسميني البعض "معاديا للسامية"، لكن ذلك لن يثنيني عن الدفاع عن شعب فلسطين، وأن أمارس كل صنوف التعبير عن الرأي لدفع العالم إلى تبني المشكلة الفلسطينية وكشف الغمة عن هذا الشعب المكبوت والمحتل، وهو شعب مظلوم يعاني من التهجير، فهناك أكثر من 4 أو 5 ملايين فلسطيني مهجرين، ولا أحد يتحدث بصوته أو يدافع عنه، والحل الوحيد هو أن يسعى المجتمع الدولي للاعتراف بحق هذا الشعب وحق العودة إلى أرضه، وأن يعود إلى شجرة الزيتون التي زرعها أجداده ويأكل من ثمرها. إنّ هذه المأساة يجب أن يدافع عنها كل من يتمتع بالإنسانية، وكل من يملك ضميرًا حيّا في داخله، وبالنسبة لي لن أتخلى عن ضميري، وليتهموني بما يشاؤون وليقولوا عني ما يحلوا لهم.
هل كانت لمواقفك وآرائك دور في عرقلة عملك في أمريكا، أو التضييق عليك؟
إطلاقًا، فمواقفنا السياسية والادعاءات ضد الحضارة العربية والإسلامية لم تمنع الطلاب من الوفود إلى محاضراتنا بل على النقيض من ذلك، ارتفع عدد الطلاب المنتسبين إلى الصفوف التي أدرسها بعد ذلك، واستطيع القول إنّ هذه الحملة فشلت وارتدت على صاحبها، فالآن على سبيل المثال أقوم بتدريس مادة "مقدمات إلى الحضارة الإسلامية"، حيث أعتقد أنّه من الإجحاف عدم ذكر الحضارة التي احتضنت كافة العلوم في العصور الماضية، حينما يدرس الطالب مواد الحضارة بشكل عام، ويشمل منهج هذه المادة على نواحي الحضارة التي سهلت لها أن تنشأ، وهذه المادة كان يدرسها 50 طالبًا أو ما يزيد، وحينها بدأت الحملة ضدي، لكن في الفصل الذي أدرس فيه الحضارة الإسلامية المعاصرة بلغ عدد الطلاب فيه 155 طالبًا، وهو ذات العدد الموجود في مواد مثل الرياضيات أو الفيزياء، وهؤلاء الطلاب لديهم شغف حقيقي بدراسة هذه الحضارة، ويقنعون زملاءهم من الطلاب إلى المشاركة في محاضراتي.
كيف ترى استقبال الغرب لكتابك "العلوم الإسلامية وقيام الحضارة الأوروبية"، وما الذي يميزه؟
كان التركيز في الكتاب ينصب على عدة نقاط؛ النقطة الأولى تمثلت في الفصلين الأولين اللذين سميتهما "قضية البدايات"، وتناولت فيه بداية العلوم في الحضارة الإسلاميّة وماهي الدوافع، والمؤثرات التي سمحت لهذه العلوم بالانتشار، وقمت بطرح عدة أسئلة أجبت عنها، وساهمت في طريقة التفكير والنظر إلى الحضارة، كنا نقول دائمًا إنّ الحضارة الإسلامية لم تأت بجديد إلا عندما احتكت بالحضارة اليمنية، ولكن عندما تنظر إلى الإنتاجات العلمية نفسها، يتضح أنّه منذ مطلع الحضارة الإسلامية والعصر الأموي وحتى بداية العصر العباسي، كانت هناك أعمال علمية وإنتاج علمي، فالعرب احتكوا ببقايا الحضارة اليونانية.
والسؤال المهم الذي ينبغي الإجابة عنه هو كيف لهذه الحضارة الإسلامية الناشئة التي تستكشف طرقها، تنهل من حضارة أخرى شبه منتهية ثم تقوم بإنعاشها بشكل جذري، فتعيد اليونانية والفكر اليوناني إلى النقاش مجددًا، وتنتقد هذا الفكر اليوناني ثمّ تأخذ منه ما يناسبها. لذا من المؤكد أنّ هذا التفاعل الحضاري الذي حدث آنذاك يعكس عمق هذه الحضارات. وقد انتهى الاهتمام الغربي بالحضارة الإسلامية عندما تمت ترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية، فانتشرت بعدها في أوروبا وصنعت عالمها الجديد.
فيما أنّ الجزء الخامس والسادس من هذا الكتاب، فقد اهتم بذكر الجوانب العلميّة والنتائج التقنية بشكل دقيق، وهي تلك العلوم المرتبطة بالرياضيات والفلك، وفي هذا الصدد نتحدث الآن عن التكامل الحضاري بين الحضارات والشعوب، بعد القرون الوسطى وحتى العصر الحديث. وبالاطلاع على حضارة القرن السادس عشر في أوروبا يمكن استكشاف النصوص والنظريات العلميّة التي نقلت عن العربية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هو كيف يمكن للإنسان أن يفهم الفكر اليوناني والفكر الأوروبي دون استكشاف مصادر هذا الفكر، وهي الآن باتت واضحة المعالم وبكل تأكيد تعود إلى جذورها الإسلاميّة، ما يفرض ضرورة دراسة الحضارة الإسلامية قبل التعرف على الحضارات الأوروبية الحديثة باعتبارها الأصل، ولا ينبغي النظر إلى ذلك كنوع من الشيفونية (ادعاء الاختلاف والتميز عن الآخرين)، حيث إنّ النقطة الأهم في ذلك هو أنّ أي علم ينشأ في إطار تاريخي ووفق ظروف مختلفة، وهذا يفرض معرفة الجذور.
ماذا لو قمنا بتقييم فترة ازدهار الحضارة الإسلامية، كيف ننظر إليها؟
كانت الترجمة الوعاء الأساسي والحقيقي للعلوم، التي نقلت من العربية إلى اللاتينية خلال القرون الوسطى، وكانت الأصول معلومة المصدر، فالجميع كان يعرف أنّ كتاب الجبر للخوارزمي تمت ترجمته من خلال روفر شستر، وهناك نص عربي ونص لاتيني. لكن مع بداية عصر النهضة لم يكن التواصل على هذا المستوى، وتراجعت الترجمة. لكن هناك تعاطٍ بين الحضارات، وليس من الضرورة أن يكون ذلك من خلال الترجمة، حيث بدأ العديد من علماء الغرب تعلم اللغة العربية ليأخذوا الفائدة منها، ويمكن مشاهدة ملاحظاتهم على هوامش الكتب اللاتينية أو على هوامش الكتب العربية كذلك، وهو دليل واضح على أنّ الذي يكتب تلك الهوامش يقرأ اللغة بشكل جيد، ومعظم تلك الكتب لم تترجم إلى اللاتينية، وهناك أشخاص يقرأونها باللغة الأصلية للكتاب ويكتبون ملاحظاتهم، ويذهبون إلى أرقى الجامعات الأوروبية ويقومون بتدريس هذه المادة.
ومما يثار في هذه النقطة أنّ الفكر العلمي انغلق في الحضارة الإسلامية بسبب كتابات الأمام الغزالي في كتابه "تهافت التهافت"، لكن هذا كان من الممكن حدوثه، حتى لو لم يظهر الغزالي، فهناك العشرات من العلماء ممن ألفوا كتبًا لا تزال قائمة حتى الآن، وحينما ندرسها بطريقة مختلفة نجد أنّها أكثر عمقًا عمّا كتبه الغزالي.
ولا يمكن في هذا السياق نكران وجود انحاط في الحضارات، وتراجع تدريجي لدور أي حضارة، لكن ذلك لم يكن بسبب كتابات الغزالي، ولم تتراجع الحضارة الإسلامية في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، لكن بدأ التراجع تدريجيًا مع مطلع القرن السادس عشر، وهو ما يشار إليه في كتابي في الفصل الأخير، وأقول بكل وضوح إنّ هذا التراجع كان نتيجة مباشرة للحالة الاقتصادية التي عمّت ليس فقط الحضارة الإسلامية وإنما جميع الحضارات غيرالأوروبية، وبشكل أدق أقول إنّ هذه الفترة بدأت في القرن السادس عشر والتي تمّ فيها اكتشاف العالم الجديد (أمريكا) من خلال كريستوفر كولومبس.
إذن.. ما هو التأثير الناجم عن انتقال طرق التجارة من العالم الإسلامي إلى المحيط الأطلنطي؟
أي حضارة تضع مالها في دعم العلوم والثقافة، وبالتالي تنتج، ولذلك عصر النهضة ليس عصر الرسم فقط، وإنّما عصر العلوم والثقافة، وكان هناك من يمول هذا، وكان التمويل نابعًا من اكتشافات العالم الجديد، لذلك شكل القرن السادس عشر حقبة تاريخية مهمة.. وتلك الفترة لم تأت بهذا القدر الهائل من ما يسمى "رأس المال" الآن، إنّما أفقرت الحضارات الأخرى، لأنّها حوّلت خطوط التجارة، فقد كانت حركة التجارة قبل القرن السادس عشر تمر عبر العالم الإسلامي، وأي تجارة تمر من مكان ما تترك أثرًا من خلال المادة والفكر ورأس المال وغيرها من الأمور. ومع انتقال الخطوط التجارية من العالم الإسلامي إلى المحيط الأطلنطي وإلى ما حول إفريقيا، تُرك العالم الإسلامي في منطقة جغرافية فقيرة، وعانى من فقر على كافة المستويات، في الإنتاج العلمي والديني والادبي والاقتصادي.
وبشكل عام كان تأثير هذا التراجع الاقتصادي واضحًا على كافة الحضارات البعيدة عن أوروبا والعالم الجديد منذ القرن السادس عشر، وهو الأمر الذي حُدّثت فيه الحضارة الصينية، التي كانت تنافس الحضارة الإسلامية، وتنافس العلم الأوروبي، لكن أيضًا أفل نجم الحضارة الصينية، على الرغم من أنّها لم يظهر لديها الإمام الغزالي ولم تكن تدين بالإسلام، إذن كان السبب هو التراجع الاقتصادي وتحول طرق التجارة، وهو ما يفرض على الباحثين دراسته بكل عمق.
وسأقوم في كتابي المقبل، بتسليط الضوء على الأسباب وراء نشأة العلوم الأوروبية، وكيف نشأت بعد القرن السادس عشر، وكيف افتقر باقي العالم وظل يعاني الفقر منذ ذلك الحين حتى الآن، بل إنّ الدول الأخرى تسعى للوصول إلى ما وصلت إليه أوروبا وتكافح لاقتفاء الأثر، والعودة إلى السباق الذي خسره من قبل، وهذا هو الجانب المهم الذي ينبغي أن تدرسه بشكل جيد وأن نتوقف عن البحث في أسباب تأليف الغزالي لكتابه أو كيفية تعاطيه للفلسلفة. ويجب في هذا السياق التأكيد على أنّ الإمام الغزالي كان فيلسوفًا كبيرا يفوق ابن سينا والفارابي وغيرهم كثيرين، ووضع العديد من المؤلفات المعنية بالفلسلفة والفلاسفة، والسبب في أن الغرب اتهم الغزالي بأنّه من المتزمّتين عدم قراءتهم لكتاب "تهافت التهافت" بل قرأوا فقط "مقاصد الفلاسفة"، وهو الأمر الذي أشار إليه ابن تيمية. وبخصوص كتابي الجديد لا أستطيع أن أحدد وقتا معينًا لإصداره، لعدم وجود وقت فراغ وانشغالي بالتدريس وهي المهنة التي أعشقها.
كيف ترى مستقبل العلاقات الفكرية والعلمية بين الحضاره الإسلامية والأوروبية؟
من بعد القرن التاسع عشر الميلادي وهو عصر الاستعمار، كان المستعمر الغربي محتلا بهدف إذلال هذه الحضارة، ومن تأثيرات ذلك أنّه خلق في النفسية العربية نوعا من "عقدة النقص"، وأصبح المفكرون العرب المحدثون ينظرون إلى الحضارة الإسلامية من عيون المستعمر والمستشرق الغربي، وهذا هو التأثير العكسي والتأثير السيء للاستعمار، إنّه قتل هذه الشخصيّة، وجعلها تشعر بعقدة النقص، ولا تشعر بالتأكد من المعلومة إلا إذا حصلت عليه من الفكر الغربي.
لذا يتعين علينا العمل بشكل جيد وقراءة النصوص بتمعّن، وأن نفصّل النصوص بتجرد، ونفعّلها دائمًا، وغير ذلك يعتبر مضيعة للوقت.
هل هناك رسالة تريد توجيهها للجمهور العماني؟
أولا لا ينبغي اعتبار أنّ هناك فئة مثقفة وأخرى غير ذلك؛ لأنّ المثقف له دور، والشخص العادي كذلك له دور مختلف، وهذه الأدوار تتباين بيننا، وكلٌ يقوم بما يستطيع به حتى الحرفي الذي يعمل بالسوق عندما يقوم بعمل جيّد يخدم هذه الحضارة ورسالتها، لذا علينا أن نأخذ الأمور بجدية، وأن نقوم بأي عمل بمنتهى الجدية، وكأننا نعيش من أجله فقط، وعندها سنتمكن من بناء حضارة مختلفة وإحياء الحضارة القديمة، وأن نفهم دلالات الأمور ونتمعن فيها.
ماذا عن أحلام العودة إلى الوطن؟
ما دام الوطن دائمًا في الذهن فهذا يعني أنك دائمًا مهمومًا بالوطن، وهي حاله ذهنية، حيث يعيش المرء داخل الوطن، كما أنّ الوطن يعيش فيه، والوطن ليس جغرافيًا أو نشيدًا وطنيًا يتردد في الاحتفالات الوطنية، لكن الوطن هو الوضع النفسي الذي تمارسه كل يوم.
أكثر...