نايب بن ربيع بيت مبروك-
كثيرًا ما يشد الإنسان الحنين إلى الماضى وذكرياته بكل ما فيها من أفراح وأتراح، ويبقى الكثير من الناس منطويًا فى تلك الذكريات التى لا ينفك عنها، ومتعلقا فيها تعلق قيس بحب ليلى، يبقى أسير الماضى يعزف على أوتاره ويتغنى بأشعاره، فالحياة فى الماضى يراها الكثير من الناس أنها أجمل أيامهم وأحلى أوقاتهم حتى وان كان الماضى هو زمن الحروب والنعرات الجاهلية والقتال والثأرات والطرق الوعرة والظلام والجهل والتخلف، لكنه يبقى زمنًا عظيمًا شعر فيه الكثير من الناس بالسعادة وأحسوا بالسرور. والشخصية التى تقتنع بذلك الزمن يلذ لها الاستغراق ويستهويها عدم الابتعاد عن تلك الذكريات حتى وإن كانت مؤلمة ومليئة بالمتاعب، وبالقياس إلى المجتمع العصرى الحضاري بكل ما فيه من أدوات وكماليات ورفاهية، يبقى الإحباط والشعور بالملل والإحساس بالتوتر قضية تثير الأرق، وتجعل الكثير من الناس لايشعرون بالراحة ولايحسون بالسعادة؛ فالصراع قوي والجري والسباق لتوفير ما يمكن توفيره وحصاد ما يمكن حصاده وجمع المال فى شتى صوره وأشكاله لا يشبع الغريزة الفوَّارة الملتهبة والأنانية، وما يملكه المرء أقل من الطموح إذا لم يحطم المرء الأرقام القياسية ويحقق الأرباح الخيالية؛ فالقليل كان فى الماضى كثيرا، والكثير فى الحاضر قليٌ.. ليبقى الماضى بكل تعاسته وشقائه عند البعض جميلًا ينشر عبيره ومسكه لما له من جوانب نفسية وإنسانية واجتماعية، فقد كان الأخ قريبًا من أخيه، والابن فى خدمة أبيه، والصديق والجار كل يسارع من أجل ضمان المصلحة العامة والخاصة. وعندما يتذكر الناس كيف كانوا قبل عشرات السنين وليس ذلك بالشيء البعيد، وكيف عاشوا؟ وكيف كانت الحياة صعبة وقاسية وظروف المعيشة كانت أصعب بكثير مما هي عليه اليوم؟ إلا أن الرضا كان يغمر النفوس والقناعة تكسو القلوب والوفاء كان هوالصحبة والملتقى الذى يجمع معظم الناس، وعندما زاد الغنى والترف، أصبح لاجدوى للمنافع بدون المصالح التى تقاس بقيم مصطنعة وتقيَّم بالمادة والثراء، فالمجتمعات التى تحولت من فقر وجوع إلى نهضة اقتصادية ومادية، واتسعت فيها رقعة الغنى والتطور، قد تتناسى أمسها وذكرياتها المؤلمة وتنسى أيام الجوع والتعاسة، وما انعدم التسامح وجفت ينابيع الود والأخوة والمحبة وافتقد الناس جوهر التعاون والمودة وانسلخت جذور الروابط والإخاء والألفة إلا بعد أن شهدت الحياة روافد النعمة والغنى والثراء وتوفرت لهم موائد الرخاء والسعة احتفظت المصلحة بكامل حقوقها الاجتماعية، وأصبحت الإنسانية بعد ذلك فقيرة ويتيمة، تشقى بأعباء القيم المثالية، وزهد الجهلة والأميين والحيارى فى الدنيا، وانشغلوا بأتفه الأشياء وتعززت فى أنفسهم قناعة التعساء والأغبياء، وعندما تعطلت القيم وانتهت صلاحيتها صارت عبثا، توترت المفاهيم الأخلاقية وأصيب الضمير بالإعياء احتاج الناس إلى روح التجمعات الإنسانية، وافتقرت إلى الانسجام والتسامح والأخوَّة، ولايزال الكثير من الناس يتذكر كيف كان الابن يقبِّل يد والده وإخوته الكبار، وجميع الناس كانت تتعاون فى تربية أبنائها ويحق لكل رجل كبير أن يؤدب أبناء حارته وجاره ولا يجد الأب حرجا فى ذلك، وإنما يشعر بالفخر بأن هناك رقابة أخرى على ابنه تحرسه وترعاه فى غياب الأب، وقد كان لاجتماع الأسرة نكهة وإحساس جميل حين تجتمع على وجبة الغداء والعشاء والفطور، الكل يتناول الوجبات الأسرية معا وفى وعاء واحد، وكم كانت المرأة خجولة وجميلة يكاد الحياء يغطى كل ملامحها ويستر كل جزء من أجزاء كيانها، كم كانت جذابة ورائعة وهي تمشى بعيدا عن الملابس الشفافة والضيقة، وما يسمى الموضة، وإذا تزوَّجت المرأة تقضى العمر كله إلى جانب زوجها دون أن تنطق باسمه تأدبا وحياءً لشعورها بأن ذلك الشيء يخدش كرامتها وينقص من قدرها فى نظر زوجها، وإنما كانت تنادي عليه هكذا، أبوفلان أو أبوالعيال مع أنه زوجها ويحق لها أن تناديه باسمه، ولكنه الحياء وفطرة المرأة التى فطرها الله عليها سبحانه وتعالى؛ فأي نوع من الحياء كان ذلك، وأي نوع من النسوة كن أولئك النساء، وهنا نتذكر قول الله سبحانه وتعالى: "فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ..." سورة القصص (الآية:25)، إنه الاستحياء الذى يستبق المشي والحركة والحجاب، وليس الحجاب والحركة والمشي الذى يستبق الاستحياء، وهو ذلك الاستحياء الذى يعطى المرأة جاذبية ونظرة وخلقا لا يميل بها هنا ولا تميل به هناك، على استحياء كانت تمشي مشية يحركها الأدب والفضيلة والحياء، وترعاه القيم والأخلاق، بعيدة كل البعد عن الغواية واختلاس النظر والاغراء، ومثلما يقول الأستاذ سيد قطب: "المرأة العفيفة الروح النظيفة القلب السليمة الفطرة لاتستريح لمزاحمة الرجال ولا لتبذل الناشئ من هذه المزاحمة"، ويقول سيد أيضا: "الفتاة القويمة النظيفة المستقيمة تستحى بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم، ولكن لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب الاضطراب الذى يطمع ويغري ويهيج، وإنما تتحدث بوضوح بالقدر المطلوب ولاتزيد"، لقد كان للتربية دور إيجابي وللقيم روح تسمو، انعكست مبادؤها على شخصية الناس. أما اليوم وفى هذا العصر؛ فالمرء يندهش ويتعجب ويصيبه الذهول والحيرة لهول ما يسمعه ويراه ويشاهده. إنها مشاهد عجيبة وغريبة وأكثر غرابة من البدع والخرافات عندما يجد الأب فى نفسه حرج وتأديب ابنه الشاب وتأنيبه أو توبيخه لايستطيع أن يرفع يديه على ابنه مخافة أن يوذيه أو يجرحه بكلمة أو يتسبب فى ألمه، وقد لايستطيع والده العجوز حتى أن ينظر فى عيني ابنه فكيف به إذا رفع صوته أمام ابنه، وصرخ فى وجهه فتلك طامة كبرى؛ إذ لا يحق للأب أن يقوم بتأديب ابنه الشاب الذى أصبح ذا هيبة ووقار، وعلى الأب أن يذل نفسه لابنه الذى قد يقيم عليه دعوة ويطلبه للقضاء بأن الأب صفع الابن وتلك جريمة يعاقب عليها الأب لماذا يفعل ذلك وتلك إهانة فى حق الشاب إذ كيف للأب أن يتجرأ ويقدم على مثل ذلك الفعل، وقد حكى لى أحد الناس حادثة اقشعر بدنى لها. وإليكم جانب منها يقول هذا الرجل: بينما كنت فى المحكمة فى أحد الأيام إذ صدفة رأيت رجلا أعرفه فقلت له ماذا تفعل هنا؟ فقال لى: سل هذا الشاب،. قالها وهو يتنهد حسرة وندمًا. قلت له: من هذا الشاب؟ قال: إنه ابنى. وعلى عجل قلت له: وماذا تفعلان هنا؟ قال: لقد اشتكى بى ابنى فى المحكمة، وتم استدعائى، وها نحن هنا ننتظر الدخول إلى قاعة المحكمة. قال هذا الرجل فاندهشت بل وصُعقت، والتفت الى ابنه وقلت له: ألا تخجل يا هذا؟! كيف تجرؤ وتشتكى أباك؟ ألا تعرف من هو؟ إنه أبوك. يقول الرجل: نظر إلي ابنه نظرة يطير منهما الشرر، ثم قال لى الشاب: اذهب فى طريقك، هذا شيء لايعنيك، لاتتدخل بينى وبينه اتركنا لوحدنا. قال الرجل: تركت الابن، وسألت الأب سؤالًا أخيرا؛ قلت له: ماذا حدث بينكما؟ قال الأب وعيناه تكاد تقطر بالدموع: لدى ابنى قطعة أرض وثمنها غال يريد أن يبيعها بأبخس الأثمان وملكية أرضه معى طلبها منى فرفضت أن أعطيها له؛ لأنه لن يجد قطعة أرض أخرى غيرها، وهو شاب صغير، ولا يعرف من أمور الدنيا شيئا بعد، وكما سمعت ورأيت أريد أن أحفظها له حتى لايندم عليها فيما بعد، فغضب منى وقال سأشكو بك إلى المحكمة، لم أصدقه إلا عندما جاءنى بالاستدعاء، وطلب منى الحضور إلى المحكمة، وها نحن هنا كما ترانا.. أيُّ مشهد مخزى هذا؟!! وأي ابن عاق مثل هذا!!.. لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، ألم يتذكر ذلك الشاب والابن العاق قول الله سبحانه وتعالى: "ولاتقل لهما أف ولاتنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربى ارحمهما كما ربيانى صغيرا؟!! ألم يتذكر ذلك الابن الضال والأحمق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لشاب عندما جاء يشكو بأبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أباه يأخذ من مال ابنه بدون اذنه، فماذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"؟!!.. إن التأثيرات والثقافات البعيدة عن التربية الأخلاقية والإسلامية والتقاط الأفكار من هنا وهناك، لاشك أنها تلعب دورا سيئا وسلبيا، وتجعل الشباب ينحرف فى قيمه وسلوكه خاصة الابتعاد عن الدين والتزود بأفكار تزرع بذور الفساد والانحراف عند الشباب، الشيء الذى تنعكس فيه الأمور وتنحط فيها القيم ويفقد الناس بذلك أعظم الفضائل وأجمل الخصائص التى ترفع من قدر الانسان، وتعينه على طريق الخير والايمان، ومعرفة الصواب من الخطأ ولا أدرى هل هكذا تكون الحرية؟ وهل هكذا يكون التطور؟ أم هو الانحراف بكل آفاته ونزعاته وشهواته، إننا بحاجة إلى عودة القيم والإنسانية والضمير، وبحاجة إلى مصالحة حقيقية مع الله سبحانه وتعالى، وهذه الثقافات لن تأتى دون الرعاية والاهتمام بالشباب من خلال برامج تعليمية ومناهج تربوية وعلوم ثقافية واستغلال المسرح ليقوم بدوره وتقديم كل ما هو جيد ومفيد للأطفال والشباب، وان ينهض قطاع التعليم بوضع الاستراتيجيات والبرامج الثقافية وتقديم المقترحات والملاحظات، وأن تقوم اللجان التعليمية بالتوصيات ورفعها للجهات المختصة والبحث عن كل ما هو جديد ومفيد يثري المجتمع، والبعد عن البرامج المستنسخة التي تبثها التلفزة وما تقدمه من أفلام ومسلسلات، خاصة المسلسات المدبلجة بعدة لهجات عربية وما تبثه من قصص وروايات تخل بكثير من الآداب والسلوكيات، والتي تأثر بها الكثير من المشاهدين، واللافت للنظر كثرة المسلسلات الخليجية وما تقدمه من قصص عن الأسرة وأغلبها قصص معادة أو معاد تطويرها والتي لاتبتعد كثيرا عن سابقاتها من المسلسلات، خاصة قصص الحب والطلاق، ونشر عقلية الجفاء والتباغض بين أفراد الأسرة، وافتعال المشاكل وخلق أجواء من الفوضى اللا أخلاقية بين أفراد الأسرة الواحدة بدلا من وضع حلول سليمة لكل مشكلة، وما أكثر تلك القصص التى لا تقدم فكرًا أو علمًا وأدبًا، ولا تحل قضية وإنما تفاقمها وتؤججها بطريقة عجيبة.. وكل ما تقدمه تلك المسلسلات هو كثرة البكاء والحزن والدموع والنحيب والصراخ والإغراء؛ للتأثير على المشاهد، خاصة المراهقين وكبار السن، وكيفية تعليم الشباب الخروج إلى الشوارع واللهو والسهر والمجون، وكيف يخرج الابن عن طاعة والده والبنت كيف تفكر فى لقاء من تحب، وكيف تصبح عبقرية فى الحب، والأكثر من ذلك أن هذه المسلسلات تنفر النساء من الرجال وتقبح أفعالهم وتبغضهم حتى تتطور المشكلة بين الرجل والمرأة إلى أزمة ومنها إلى عقدة، ومن يذهب إلى المراكز التجارية أيام العطل سوف يشاهد ما لم يشاهده من قبل، والهيئة التى يكون عليها الشباب؛ كل ذلك بفضل الأفلام والمسلسلات العربية والأجنبية والفيديو كليب، وكثرة الإغداق والإطناب على هيجان وفوران المشاعر والعواطف، والعزف على قلوب الشباب وغرس الجرأة سلبا فى أذهانهم، وكيف يتمرد الشاب والفتاة على القيم والآداب والأخلاق الإنسانية، وياليت هناك دروس مستفادة أو عظة تقدمها تلك المسلسلات أو فكرة علمية ونقلة نوعية أو حل يستفيد منه المشاهد، لكنها مجرد قصص خالية وجافة من العطاء والغذاء الروحى والإنسانى والاجتماعى والدينى، وفارغة من أي ذوق أو منفعة، ولايظن أحد من الناس أننى أحارب الحرية أو أصادر فكر الشباب، أو أننى أدفعهم الى التراجع وأرتد بهم إلى الزمن الماضى، وربما أننى ضد التطور والحضارة.. كلَّا أبدا ولكننى أرى أن الشباب فى خطر داهم، إذا لم يتوفر لهم العمل والرعاية والأجواء التى تحتضنهم وتستغل طاقاتهم وتستكشف إبداعاتهم لكي يحققوا طموحاتهم أو على الأقل حمايتهم من الشتات والضياع والفراغ قبل فوات الأوان وإلا سوف تلتهمهم نيران الإحباط واليأس والبطالة، ويصبحون ضحية للإهمال وعرضة للفساد والمخدرات، وأنا على يقين بأن الوطن أحرص على أبنائه وبهم يصنع زمنًا جديدًا.
[email protected]
أكثر...