مسقط - الرؤية
أسدل مهرجان جرش للثقافة والفنون الستار على دورته الثامنة والعشرين، وسط مشاركةٍ واسعةٍ ومميزةٍ للجمعية العمانية للكتاب والأدباء، تعتبر هي الأبرز على مستوى الوطن العربي، من خلال مشاركة ثلاثة من شعراء السلطنة، والتي تركت بصمة واضحة وحضورًا ثقافيًّا متجليًا في المحفل الفني والثقافي الكبير.
فعلى مدرج أرتيميس الشهير بجرش، اعتلى المنصة الشاعر مسعود الحمداني، فارداً جناحية بانتشاء، فحلّق في سماوات الخيال والحب والجمال، حاملاً على جناحيه الفارهين أرواح الحاضرين، متحكماً بأعنّة قلوبهم، باحثاً عن مساحاتٍ روحية، وصوفيةٍ شاعرية من نوعٍ آخر، محركاً بشعره الفصيح رواكد المشاعر، مستفزاً بذلك العواطف وباعثاً لها من سباتٍ قد أطفئها لحين، لكنه لم يحرص على تأجيجها وتفجير الأحاسيس من دون مراعاةٍ لتحولات الحياة الأخرى، مرمزاً في بعض القضايا ومصرحاً في شؤون الحياة في تنفسٍ ممتلئٌ حناناً.
الكتابة هي هاجس ربابنة الكلمة، لذا لم يغفل الحمداني هذا الهاجس، فتوهج به لحظة صعوده المسرح، وهو يمتطي حصان الروح، مغرداً بإلقاءه المثير:
ما تكتبين؟.. فقالت: (بعض ما حملت
كفُ الرياح، وما غابوا.. وما حملوا
أنقاض شعرٍ كتبنا عجزَه زمنا
واسّاقطت حوله الأيام والمللُ
واطّاولت في غياب الوقت غصتنا
حتى بدت نخلةُ الأحلامِ تنفسلُ)
ها قد بقيتُ على جرفٍ ينازعه
بعضُ الحنينِ.. وتاهت دونيَ السبلُ
مثلما حلّق بخياله لم يكد يخفِ رسائل "اليمام" ويبعثها في صورٍ يريدها وحده ليصل بها إلى دواخل دفينة مشرقة على ربواتٍ خضر محملة بروائح الياسمين، لكنها مغلفة بالسدر والكافور فهي في أثواب الكفن، ولحظة الجرح تذيب أنبل العواطف الإنسانية، بيد أن الحزن هي اللحظة الأكثر صدقاً لدى الإنسان، عابراً كل الفجاج بقوله المتنشج:
صلّى اليمامُ على أجداثِهم.. ومضوا
وأسّارعوا في تخومِ الغيبِ وانصرفوا
كانوا ثُماماً فصارَ الغيمُ يتبعُهم
حتى تواروا على الأخشابِ، وانجرفوا
صاروا فَرَاشاً يقصُّ الموتُ غيبتَهم
واسّاقطوا في مروجِ الضوءِ واختلفوا..
ستونَ جرحاً وما كانوا سوى وثنٍ
عُبّادُهُ: الرملُ والغاباتُ والخزف
..كل شيءٍ يذوب على تراتيل القصيد، والقمر يغيب، ونصف العمر ينجلي، وحبر الكتابة يختفي، لكنما الليل هو بداية الحكاية.. هكذا ظل الحمداني يسبح في ملكوت المحبة.
وقد كان لمشاركة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالغ الأثر في الوسط الثقافي، وهذا ما تجلى عبر الإشادة بالمشاركين والحركة الثقافية العمانية والمستوى المتصاعد للحضور العماني الثقافي على لسان العديد من النقاد والأدباء والشعراء العرب، كما لاقت ورقة الدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسية النقدية "الصحراء في السرد العماني" تفاعلاً مثيراً، وهي تضع لبناتها الفنية على روايتي الراحل علي المعمري "ابن سولع" و"بين الصحراء والماء" لمحمد العريمي.
وقفت الدكتورة على الرموز والأدوات المستخدمة في هاتين الرواتين، منطلقةً من خصوصية الصحراء وتأثيراتها وانطباعيتها على العملين، مع إيضاح الخصوصية للبيئة الصحراوية ومدى العمق الوجداني الكتابي الهائل الذي خلفته الصحراء على نفسية الكاتبين وأثرت في أدواتهم الكتابية، متتبعة في ورقتها الصورة التي رسمها بطل رواية بن سولع للصحراء والتي ظلت تعيش في ذهنيته طويلاً بعد سفره إلى لندن، مستطرداً في تساؤلات الوجود والكون والسياسة وتفرعاتها والحياة المدنية وتفصيلاتها.
وبصوتٍ متناغمٍ يُعبر بانسجامٍ عن ارتياح، تقول الفارسية: الرواية تحدثت عن فترة تكاد تكون مسكوت عنها في جزيرة العرب وهي مرحلة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وهي الفترة التي كانت فيها رجال من المخابرات الأوروبية يزورون هذه الصحراء تحت ذرائع "الرحلة" او "مكافحة الجراد" وغيرها مما هو معروف في السياق الاستشراقي. وكان سريدان يرسم تلك الشخصيات بشكل كاريكاتوري لا يخلو من احتجاج على تشويه معالم الصحراء التي يعشقها.
كما احتفت الدكتورة سعيدة خاطر بالصحراء في مذكرات محمد العريمي "بين الصحراء والماء" والتي كشف فيها عن الكثير من قيم الصحراء وعاداتها، الصحراء الصحراء كما قالت الدكتورة سعيدة وليست البادية التي تشبه بادية الشام.
الشاعر حسن المطروشي قرأ مجموعة من قصائده التي سبرت أغوار البعد الإنساني في الاعماق، وتراقصت معها النسائم التي تعانقت مع الغيوم في لوحة فنيةٍ قاربت إبداع الطبيعة في اللون والحس والجمال والعذوبة، فكاد يسلب الألباب وهو يقول:
تَبَسَّمَ،
أهدى إلى زوجِهِ قُبْلَةً،
ثُمَّ صَفَّقَ للخُطْبةِ المَلَكِيَّةِ،
لكنَّهُ كالمجاذيبِ
سرْعانَ ما عاد يَهْذي،
تَأَمَّلَ ما حَوْلَهُ مِنْ وُجوهٍ
وأَمْطَرَها بالبُصاقْ!
وفي قصيدة "سواد" قال المطروشي:
البحارُ قميصي المُذَهَّبُ
عَلَّقَهُ الظاعنونَ الأوائلُ
في مِشْجَبِ الريحِ
واقْتَتَلوا تَحْتَهُ نَحْو مائة عامٍ
فَكُنْت وَصِيَّ الحِدادْ
لقد تمكن المطروشي من أن يحول صخب المهرجان إلى عاصفة من التصفيق والإنتشاء، لا تهدأ في مقطعٍ، حتى تنفجر في آخر، فتتعالى الصيحات والبسمات، وتنهمر المشاعر كغيثٍ هتونٍ يزداد شوقاً كلما تم استحضاره. حضر المطروشي فحضر الشعر العماني ببهائه المعهود، وقالبه الإنساني العظيم.