تدور عجلة الزمان من جديد، وتهل علينا أيامُ شهر رمضان المباركة؛ لتعمّ النفوس سعادةً غامرة، وتتواتر عليها الذكرياتُ الإسلاميّة المجيدة، وما احتواه هذا الشهر الفضيل - على مدار التاريخ الإسلامي- من أحداث ومناسبات، يُكنُّ لها العقل والوعي الإسلامي كل الحب والإعزاز.. ففي رمضان أُنزل القرآن - دستورُ المسلمين- بكل ما يحويه من قيم وأخلاق وسير وعبادات، وعِبر وعِظات عن تلك الأمم التى سبقت الرسالة المحمدية، وكيف جرت سنن الله في الكون بنفس المقياس على الناس جميعا رغم اختلاف الأمكنة والأزمنة والأشخاص؛ فالسعادة كل السعادة لمن امتثل لربه وأناب، والعزة والغلبة لمن كان مدافعًا عن الحق ومرابطًا على الفضيلة، وموصولا بخالقه جلَّ في علاه "يجده حيث أمره، ويفتقده حيث نهاه".
يفرح المسلمون في هذا الشهر الفضيل بالعطايا والمنح الإلهية، التى يغدقها عليهم رب العالمين، بعد أن هيأ ويسّر لهم سبل عبادته والتقرب إليه.
ويتنسم المسلمون عبير الجنة، ويحلقون بأرواحهم مشتاقين لما فيها من نعيم، خاصة وأنّه الشهر الذي "تُفتح فيه أبواب الجنة"؛ فيأتي القرار النابع من الذات مرتكنا إلى أنّ الحياة "نعيم زائل" وأن الآخرة "خيرٌ وأبقى"؛ فيكون الترفع عن الدنايا والصغائر، وكبح جماح النفس عن الشهوات والملذات، والاجتهاد والمثابرة على الطاعات، وتهذيب النفس وإصلاح ما حدث بها من خلل وعوار على مدار العام. فـ"ما عند الله خيرٌ وأبقى".
إنّ ما تنعم به النفس البشرية في تلك الآونة من هدوء النفس وسكينة الروح، لا يضاهيهما اطمئنان، ولم لا وقد تخففت من الزاد المادي (من طعام وشراب)، وتوجهت نحو الزاد الروحي والصفاء النفسي؛ تغترف منه دون خوف من سقم، أو قلق من أوجاع.
فتقبل النفوس الزكيّة على العمل في أوقات النهار غير متلكئة ولا عابسة؛ مستندة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا تصحوا"، فالصيام بالنسبة لها صحة ونشاط، وعافية للبدن والروح، فيعيد إلى النفوس الطاهرة واجهة اهتماماتها وصدر أولوياتها، وهو مفهوم المراقبة الذاتية لله في السر والعلن.. فهي الصائمة دون أن يراقبها أحد غير الله، وهي كذلك تراقب الله في أعمالها وأقوالها.
إنّ تنمية مراقبة الله عزّ وجل في النفوس سبيل تقدم الأمم ورقيها، وبها لن يقصّر صانع في صنعته، ولا حِرفي في حرفته، وسوف يراعى الموظف أدبيات وقواعد وظيفته، دونما محاصرة أو مراقبة من مسؤول أو رئيس.
هكذا الصائمون يفرحون بما وهبهم الله من النعيم في هذا الشهر. شهر صيانة الأرواح والأبدان، وإعادة النفس البشرية إلى مسارها الطبيعي "مطمئنة"، وتخليص البدن من عبء الطعام والشراب طوال العام دون هوادة فـ "بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه".