جوهانسبرج- رويترز
شديدة التناقض تلك الحياة التي قضاها نيلسون مانديلا خلال السنوات العشر الأخيرة بعد اعتزاله الحياة العامة، حيث كانت بين قصر في إحدى ضواحي جوهانسبرج الراقية وبين بيت أجداده في قرية كونو في إقليم الكاب الشرقي الفقير.
ففي أحد المسكنين كان جيرانه يتخذون هيئة ملوك التعدين والمصرفيين البيض الذين أنشأوا المدينة الكبيرة وأقاموا أكبر اقتصاد في أفريقيا مستغلين احتياطيات الذهب الضخمة في الصخور تحت أقدامهم. وفي الجانب الآخر، كانوا فلاحين سودا يعيشون في أكواخ صغيرة مسقوفة بالقش ويكسبون قوت يومهم بالكد على سفوح التلال تسفعهم الشمس والرياح في مشهد لم يكد يتغير على مدى مئات السنين فضلاً عن العشرين سنة التي مرت منذ انتهاء الفصل العنصري. ولا يشكك أحد في إنجاز مانديلا إذ ابتعد بجنوب افريقيا عن هاوية الحرب الأهلية في أوائل التسعينات وتوصل إلى وضع نهاية سلمية لهيمنة البيض على مدى ثلاثة قرون لكن التساؤلات تحيط بالوضع الذي خلفه في البلاد بعد رحيله. وما زالت جنوب افريقيا برغم العمل على مدى عشر سنوات لإصلاح خلل التوازن تحت شعار "التمكين الاقتصادي للسود" من بين أكثر بلدان العالم بعدا عن المساواة وما زال البيض يسيطرون على قطاعات ضخمة من اقتصادها. فبنيتها كما وصفها الزعيم النقابي البارز زويلنزيما فافي تشبه القهوة الأيرلندية؛ سوداء في أغوارها وعلى السطح رغوة بيضاء ونثار من مسحوق الشوكولاتة. ويزيد دخل الأسرة البيضاء في المتوسط عن ستة أمثال دخل الأسرة السوداء ويعاني قرابة ثلث السود من البطالة بينما لا تتجاوز نسبتها بين البيض خمسة في المئة. وتمنح مثل هذه النسب مزيدا من الحجج لمنتقدي التسوية التي أسدلت الستار عام 1994 على حكم الأقلية البيضاء ونصبت مانديلا أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا. كما تتفق هذه الأرقام مع ما تراه العين في الضواحي الثرية للمدن - بما في ذلك ضاحية هيوتون التي كان مانديلا يسكن فيها - حيث لا ترى معظم السود إلا خدما في المنازل أو حراسا أو بستانيين. وقال رئيس زيمبابوي روبرت موجابي في فيلم وثائقي بثه تلفزيون جنوب افريقيا في مايو 2013 "لقد تمادى مانديلا في حسن معاملة المجتمعات غير السوداء بل وكان ذلك في واقع الأمر على حساب السود في بعض الحالات... كان هذا إفراطا في النبل.. طيبة تتجاوز الحد".
ويشير المدافعون عن تسوية مانديلا إلى أن استيلاء موجابي بطريقة عنيفة على مزارع البيض في زيمبابوي بدءا من عام 2000 أدى إلى انهيار اقتصادي استمر ثماني سنوات وبعد أن كان يحظى باحترام الأطراف الخارجية كبطل في حركة التحرير صار منبوذا على الساحة الدولية. ومع ذلك يجد انتقاده لمانديلا صدى في بعض جنبات المؤتمر الوطني الأفريقي وهو حركة التحرير السوداء التي نشأت قبل 101 عام وضمت قواها مع النقابات والحزب الشيوعي للإطاحة بنظام الفصل العنصري.
وفي مقابلة عام 2010 مع زوجة الكاتب البريطاني في.إس. نايبول، اتهمت الزعيمة المناهضة للفصل العنصري "أم الشعب" ويني ماديكيزيلا مانديلا زوجها السابق بالتفريط بعد أن حطمه السجن 27 عاما في سجون نظام الفصل العنصري. ونسب إليها قولها "خذلنا مانديلا. فقد وافق على صفقة خاسرة للسود. اقتصاديا ما زلنا على الهامش. فالاقتصاد أبيض إلى حد بعيد. وليس به سوى مشاركة رمزية للسود لكن كثيرا ممن ضحوا بحياتهم في النضال ماتوا دون مقابل لتضحيتهم".
وفي ظل ما تمتع به مانديلا من سمعة رفيعة وشغف منقطع النظير من قبل أبناء جلدته والملايين حول العالم، كان من المحتم في مثل هذا المناخ أن يتم التغاضي عن بعض الأحداث في رئاسته التي استمرت خمس سنوات. فقد أثارت صداقته مثلا مع الزعيم الليبي معمر القذافي انتقادات رد عليها بعنف. كما ألقت شهادة عارضة الأزياء البريطانية ناعومي كامبل بخصوص "ألماس مناطق الصراع" أمام محكمة لجرائم الحرب في لاهاي عام 2010 أضواء كاشفة على حفل عشاء استضافه مانديلا عام 1997 لزعيم الحرب الليبيري تشارلز تيلور الذي شكك وجوده في الحفل في سياسة جنوب افريقيا الخارجية "الأخلاقية". لكن في شوارع مستوطنة سويتو السوداء، التي ما زالت تشهد مواجهات متفرقة بين الشرطة والشبان العاطلين الساخطين واحتجاجات عنيفة على تدني المساكن والخدمات العامة، هناك كثيرون ممن لا يقتنعون بأسطورة مانديلا.