الرؤية - مركز البحوث
يخشى مراقبون من تعرُّض جنوب السودان -الدولة الوليدة- لحالة من التفكك والانهيار، فيما تتراءى ثلاثة سيناريوهات تشكل تهديدًا مباشرًا لمصالح الخرطوم -الجارة الشمالية- وذلك في أعقاب نشوب صراع على السلطة بين الرئيس الحالي سلفا كير والمنتمي لقبيلة الدنكا، ونائبه السابق ريك مشار من قبيلة النوير، والذي أقيل في يوليو الماضي، على خلفية نزاع الرجلين حول الترشح باسم الحركة الشعبية الحاكمة للانتخابات الرئاسية المقررة في العام 2015، وأعلن مشار رسميًّا بُعيْد إقالته عزمه الترشح للرئاسة.
واندلعت معارك الأسبوع الماضي بين القبيلتين المتناحرتين، وسقط على إثرها مئات الأشخاص، وفرَّ الآلاف من المواطنين من قراهم؛ خشية جرائم مروِّعة تُرتكب بحق المدنيين. وبدأ القتال في العاصمة جوبا وسرعان ما امتد إلى مناطق أخرى في البلاد، تغذيه انقسامات عرقية بين المجموعتين القبليتين الرئيسيتين (الدنكا والنوير).
وإبان سنوات الحرب الأهلية مع الشمال (1983-2005)، خاضت القبيلتان حربًا دمويَّة قدَّر خبراء عدد ضحاياها بأنه يُضاهي عدد ضحايا الحرب مع الشمال التي تجاوزت مليوني قتيل.
وسعى وسطاء أفارقة للاجتماع مع خصوم رئيس جنوب السودان؛ في محاولة لوقف الاشتباكات التي تهدِّد بانزلاق أحدث دولة في العالم إلى حرب أهلية قبلية، لكنه وفيما يبدو أن هذه المحاولات لم يُكتب لها النجاح حتى الآن. والتقى الوسطاء الأفارقة مع الرئيس سلفا كير، وأجروا معه محادثات وصفوها بـ"المثمرة". وقالت حكومة جنوب السودان -عبر حسابها على تويتر- إنها ترغب في إجراء حوار مع أي مجموعة متمرِّدة. وقال وزير خارجية جنوب السودان برنابا ماريال بنجامين: إن الوسطاء حصلوا على الموافقة للمضي قدمًا، والاجتماع مع خصوم كير بمن فيهم مشار وحلفاؤه. وأضاف بنجامين: "دعهم يحصلون أيضًا على تأكيد منهم بأنهم يرغبون في الحوار". وتابع بأن كير ليس لديه أية مشكلة في الحوار مع مشار.
وقالت الأمم المتحدة إن 11 مدنيًّا من قبيلة الدنكا قُتلوا في هجوم شنَّه آلاف من الشبان المسلحين من قبيلة أخرى على قاعدة تابعة لقوات حفظ السلام الدولية بولاية جونقلي. وقُتل جنديان هنديان من هذه القوات. وقال المتحدث باسم الجيش في جنوب السودان فيليب أقوير: إن طائرات هليوكوبتر عسكرية أغارت على بلدة بور التي يُسيطر عليها المتمردون، والواقعة على بعد 150 كيلومترا شمالي جوبا.
فيما دعا الاتحاد الإفريقي إلى وقف فوري لإطلاق النار؛ ووصف الاتحاد -في بيان له- قتل جنود من قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام ومدنيين في معسكر للأمم المتحدة بأنه "جريمة حرب". وقال الاتحاد الإفريقي -في بيان- إن رئيسة المفوضية الأفريقية إنكوسازانا دلاميني زوما "تدعو إلى هدنة فورية لاعتبارات إنسانية بمناسبة عيد الميلاد كعلامة على التزام جميع الأطراف المعنية بصالح شعب جنوب السودان". وقال الاتحاد الإفريقي: إن دلاميني زوما "تشعر بحزن بالغ لمقتل مدنيين أبرياء وجنود من قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في بور بولاية جونقلي في جنوب السودان. وهي تدين أعمال القتل هذه بوصفها جريمة حرب".
ومن جانبه، أطلع فريقُ الأمن القومي الأمريكي الرئيسَ باراك أوباما، على تطورات الوضع في جنوب السودان، بعد إصابة أربعة عسكريين أمريكيين، إثر إطلاق النار على طائرتهم أثناء إجلائها رعايا أمريكيين من جنوب السودان. وقال البيت الأبيض -في بيان بعد اتصال أوباما بسوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي ومساعدين كبار آخرين: "أي محاولة للاستيلاء على السلطة من خلال استخدام القوة العسكرية ستُسفر عن إنهاء الدعم المقدَّم منذ فترة طويلة من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي". ووجَّه أوباما فريقه لضمان سلامة العسكريين الأمريكيين ومواصلة العمل مع الأمم المتحدة لإجلاء الرعايا الأمريكيين من بور. وقال البيت الأبيض إنه بعد المكالمة "أكد (أوباما) أن زعماء جنوب السودان عليهم مسؤولية دعم جهودنا لتأمين الشخصيات والمواطنين الأمريكيين في جوبا وبور". وقالت قيادة إفريقيا بالجيش الأمريكي -في بيان- إن الطائرة الأمريكية -وهي من طراز أوسبريف سي في-22- تعرَّضت لإطلاق نار أثناء اقترابها من مكان الإجلاء.
وفي تطوُّر يعكس عمق الأزمة، هدَّد مشار بإيقاف تصدير النفط من ولاية الوحدة (شمال) بعد إعلان سيطرته عليها، فيما أكدت وكالة أنباء جنوب السودان الرسمية نبأ قصف سلاح الجو الأوغندي "قواعد للمتمردين" في جونقلي شرقي البلاد. وفي تصريحات صحفية، اشترط مشار لاستمرار تدفق النفط أن تُوضع عائداته في البنك الدولي أو في حساب بعيدًا عن الحكومة، في بادرة تُعد الأولى لدخول النفط في الصراع -بحسب ما ذكرته صحيفة سودان تريبيون الخاصة.
ومن جانبه، أكد المتحدث باسم جيش جنوب السودان فيليب أقوير -في تصريحات نقلتها الصحيفة- أن قائد الجيش في ولاية الوحدة الغنية بالنفط شمال البلاد قد انشق وانضم إلى المتمردين التابعين لمشار، وأعلن نفسه حاكماً على الولاية. وأضاف بأن الوالي الحالي لولاية الوحدة جوزيف مانتلوجان لا يزال على ولائه للحكومة في جوبا، لكنه فرَّ إلى منطقة مايوم المجاورة.
وفي سياق ذي صلة، قصفت 3 طائرات على الأقل من سلاح الجو الأوغندي مواقع تابعة للجنرال بيتر جاديت ياك قائد المتمردين في مدينة بور -عاصمة ولاية جونقلي- شرقي جنوب السودان، بحسب وكالة أنباء جنوب السودان الرسمية. ونقلت الوكالة عن شهود عيان بالمنطقة قولهم: إن قوات جاديت أصابت إحدى الطائرات الأوغندية.
وفي الأثناء، قال خبير سوداني إن الوضع في جنوب السودان مفتوح على ثلاثة سيناريوهات ليست في صالح الخرطوم؛ وذلك بعد أسبوع من فشل انقلاب عسكري وما تبعه من نزاع مسلح بين الرئيس سلفاكير ميارديت، ونائبه المقال رياك مشار، الذي اتهمه الأول بالتخطيط للانقلاب.
وقال آدم محمد أحمد عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري بالعاصمة السودانية: "الخرطوم هي التي ضغطت على سلفا كير لاتخاذ هذه القرارت كشرط لتحسن العلاقة وتصدير نفط الجنوب، لكن يبدو أن هذه القرارات ستأتي بنتائج عكسية". وأضاف: "الوضع في جوبا مفتوح الآن على ثلاثة سيناريوهات كلها ليست في صالح الخرطوم؛ أولها: عقد تسوية بين طرفي النزاع تعود بموجبها الوجوه المعادية للخرطوم، والثاني: هو استمرار النزاع المسلح وصولاً للإطاحة بسلفا كير، خصوصًا وأن أبناء قبيلة النوير الموالين لمشار هم الأكثر عددًا وكفاءة داخل الجيش الشعبي". والسيناريو الثالث -بحسب الخبير السياسي- هو دخول البلاد إلى فوضى شاملة، ينتشر معها السلاح، وتمتد إلى المناطق الحدودية التي تشهد نزاعًا بين الجيش السوداني ومتمردي الحركة الشعبية (قطاع الشمال)، بجانب المناطق التي تنتج غالبية النفط في الشمال والجنوب وهي مناطق حدودية.
وتابع أحمد: "الأخطر بالنسبة للخرطوم هو فقدانها للرسوم التي تحصل عليها من نقل وتصدير نفط الجنوب عبر موانيها، وتعطل التجارة الحدودية التي تدر عليها عائدات أكبر من عائدات النفط". وتقدَّر عائدات نقل نفط الجنوب -الذي يتركز إنتاجه في مناطق قبيلة النوير- بنحو 3 مليارات دولار سنويًّا. ونبَّه الخبير السياسي إلى أن "انتقال الانفلات الأمني إلى المناطق السودانية التي تشهد نزاعًا مسلحًا سيُرهق الاقتصاد السوداني المُثقل أصلاً بالميزانية العسكرية". ويقدِّر خبراء حجم الإنفاق العسكري بنحو 65% من الموازنة العامة في السودان، بينما لا تكشف وزارة المالية عن هذه الأرقام لسريَّتها.
ويُعاني السودان من أزمة اقتصادية طاحنة منذ انفصال الجنوب، واستحواذه على 75% من حقول النفط، كانت تمثل أكثر من 50% من الإيرادات العامة.