الرؤية- خالد البحيري
في فبراير المقبل؛ وعلى أرضية المصالح التجارية المشتركة يجتمع وزير شؤون الأراضي القارية في تايوان وانغ يو تشي بنظيره الصيني وزير مكتب شؤون تايوان في مجلس الدولة تشانغ تشى جيون، في منحى متطوّر للعلاقات التي بدأت تزدهر بين "جانبي المضيق" كما يطلق عليها الصينيون والتايوانيون متجاوزة الخلافات السياسية التي بدأت منذ انفصال تايوان (الجزيرة) عن الصين (البر الرئيسي) في العام 1949، وما أعقب ذلك من فترة فتور واستعداد من كلا الجانبين للمواجهة العسكرية..
الاستراتيجية الجديدة بين البلدين بدأت مع اعتلاء الرئيس التايواني "ما ينج جيو سدة الحكم في تايوان عام 2008 وانتهاجه ما يمكن أن نسميه سياسة "المنافع المتبادلة" مع الصين والتي اثمرت عن تحول الصين لأكبر شريك تجاري مع تايوان بقيمة 100 مليار دولار.
كما أنّ العلاقات تبدأت تنتعش أكثر مع فتح المجال للتبادل السياحي بين البلدين حيث بلغ في العام 2013 نحو 8 ملايين رحلة بين البلدين.
وخففت بكين من لهجتها تجاه تابيه وسمحت بتأسيس التايوانيين لشركات في الصين مع السماح للعمالة التايوانية الماهرة بالعمل جنبًا إلى جنب مع أشقائهم الصينيين.
وعبّرت الصين عبر رئيسها شي جين بينغ في أكتوبر الماضي أنه لا يمكن تأجيل الحل السياسي للخلاف بين الجانبين إلى الأبد. لكن تايوان قالت في وقت لاحق إنّها لا ترى حاجة ملحة لإجراء محادثات سياسية وأنّها تريد التركيز على التجارة.
ولعلّ الاتفاقية التاريخية التي تم توقيعها بين الجانبين في العام 2010 قد فتحت الباب لـ"تطبيع تجاري" بين الجارتين المتنازعتين سياسيًا وهي الاتفاقية التي اثارت ارتياحًا كبيرًا لدى جمهورية الصين الشعبية والتيار الوحدوي في تايوان.
تكمن أهميّة تلك الاتفاقيات في تجاوز الأطر السياسية المعقدة والمتوترة بين الجانبين منذ أكثر من نصف قرن. إذ تعتبر الصين أنّ تايوان جزءًا لا يتجزأ من الوطن الصيني الكبير، في حين يتمسك بعض قادة تايوان بدولة كاملة السيادة وليست ملحقة بالصين.
وشكلت الاتفاقيات الاقتصادية نقلة نوعية في مجال التقارب بين الدولتين، وفتح صفحة جديدة من العلاقات على جانبي مضيق تايوان ومن أبرز النقاط الواردة فيها: تنظيم وتطوير التعاون الاقتصادي بين جانبي المضيق وفق مضمون هذه الاتفاقيات بصفتها الإطار العام للتعاون والتي تضمّنت ستة عشر بندًا نصّت على الخفض التدريجي للتوتر، وإزالة العقبات التي تواجه التجارة والاستثمار لدى الجانبين، وخلق بيئة صالحة تساعد على تطوير العلاقات من دون أي عقبات.
وهي توفر حماية قانونية للاستثمارات عبر المضيق في إطار الحرص المتبادل على تعزيز توظيف الرساميل المتبادلة في كل من الصين وتايوان.
واتفق الجانبان على تشجيع برنامج "الحصاد المبكر" الذي يعطي الأفضلية بموجب هذه الاتفاقيات للمعاملة التفضيلية في خفض رسوم الجمارك بين الجانبين.
كما نصّت على ضرورة مواصلة الجهود لتعزيز العلاقات بين الجانبين من طريق النقاش الهادئ للاتفاقيات اللاحقة وذات الصلة بتبادل البضائع والخدمات والاستثمار في المستقبل.
هكذا تخطت الصين وتايوان الحاجز النفسي السابق الذي ساده الخوف المتبادل بينهما. فبعد انتصار الثورة الصينية تحت قيادة الرئيس ماوتسي تونغ عام 1949، وقفت الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتحالفة معها ضد تمثيل جمهورية الصين الشعبية في الأمم المتحدة. وحتى تاريخ إعادة العلاقات بين الصين الشعبية والولايات المتحدة عام 1972، بقيت تايوان، أو الصين الوطنية، الممثل الوحيد للصين في الأمم المتحدة. ورفضت الصين الجلوس إلى جانب تايوان كدولتين مستقلتين يتمثلان معا في الجمعية العامة للأمم المتحدة على غرار ما كان قائمًا في تمثيل كوريا، وألمانيا، وفيتنام.
واشترطت على جميع دول العالم التي ترغب في إقامة علاقات دبلوماسية معها أن يتم الاعتراف أولا بوحدة الصين، أرضا وشعبا ومن ضمنها تايوان. على أن تكون جمهورية الصين الشعبية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الصيني. وأعلنت مرارا أنها على استعداد لقطع علاقاتها فورا مع أية دولة تعترف باستقلال جزيرة تايوان، أو انفصالها عن الصين التي تضم الآن أكثر من مليار وثلاثمائة وأربعين مليون نسمة.
وهي تشكل أكبر سوق عالمية لتوظيف الرساميل الوافدة من الخارج، وإنتاج سلع تجارية ممتازة وبكلفة زهيدة. ورغم التبادلات الإيجابية التي شهدتها الصين في الثلاثين سنة الماضية، بقيت لدى بعض قادة تايوان أوهام كبيرة حول تمايز شعبها عن شعب الصين. فهم يرون أن جزيرتهم التي يبلغ تعداد سكانها قرابة 22 مليون نسمة، أكثر تطورا من البر الصيني في مجالات العلوم والتكنولوجيا، والدخل الفردي، وممارسة الحريات الديموقراطية. وأنّ نظامها السياسي مستوحى من الديموقراطية الغربية بعد أن ابتعد كثيرا عن نموذج الدولة الآسيوية التقليدية التي كانت سائدة في الصين، والهند. وكانت مواقف بعض قادة تايوان شديدة التزمت تجاه فكرة الانضمام إلى الصين الموحدة. ومع التطور الإيجابي الذي شهدته الصين منذ بداية حركة الإصلاح والانفتاح عام 1978 ظهرت بلبلة واضحة لدى قادة تايوان تجاه مقولات الانضمام أو الانفصال عن البر الصيني. وبرز تيار توحيدي كبير سعى إلى توحيد الصين مع الاعتراف بالخصوصية المحلية ونوع من الحكم الذاتي لتايوان على غرار هونغ كونغ. فوافقت الصين الشعبية على هذا المنحى في محاولة للتقارب الإيجابي مع تايوان.
وأسست سلطات تايوان عام 1990 "مجلس التوحيد الوطني" الذي عقد الكثير من الاجتماعات وصولا إلى إصدار وثيقة "الخطوط العامة للتوحيد الوطني" عام 1991. والتي نصت على ضرورة التعاوان لبناء وحدة الصين، أرضا وشعبا، ورفض التدخلات الخارجية التي تسيء إلى هذه الوحدة، وتعيق حركة التحديث الجارية الآن في الصين وفق وتيرة نمو سنوي هي الأعلى في العالم. وأقترح المجلس تعزيز العلاقات والعمل على توحيد الصين كمهمة مشتركة لجميع الصينيين. ووضع مخطط طويل الأمد لتحقيق وحدة الصين بصورة تدريجية وبالاستناد إلى خطوات ديمقراطية. ورفض مبدأ إراقة الدم الصيني على أرض الصين، وبأيدي الصينيين أنفسهم. وطالب قادة تايوان بعدم إعلان استقلال تايوان، وألا يتضمن دستورها نصًا يشير إلى وجود دولتين في الصين، وتعهدهم بعدم إجراء أي استفتاء شعبي يهدف إلى الاستقلال أو الانفصال أو إلغاء مجلس التوحيد الوطني وسياسة التوحيد الوطنية.
ختاما، أظهرت الاتفاقيات الاقتصادية مدى نجاح استراتيجية الصين التوحيدية وفق مخطط طويل الأمد، يعتمد الطرق الدبلوماسية دون استخدام السلاح أو التهديد به. وأكدت على أهمية الحل الديمقراطي السلمي مع تايوان عبر تغليب المصالح الاقتصادية المشتركة على المواقف الأيديولوجية المتشنجة.