عصا وكاميرا و"لابتوب".. تؤنس وحشتي في أعالي الجبال
أحاكي حياة مخلوقات الجبل بأفلام وصور على "اليوتيوب"
العزلة عامل مهم لحفز الإبداع
اتطلع الآن إلى الاستقرار في السفح
صعدت إلى الجبل مغاضبًا بسبب خديعة!
أدين ببقائي حيًا طوال سنين لنبتة الزعتر وشجرة العتم
السعادة تكمن في سر التأقلم وبرمجة العقل على الرضا بحياة لم يكن أمامنا سوى اختيارها
آخر ما أتذكره هو أنّي تركت أعمالي يسكنها النمل
الرؤية - مالك بن أحمد الهدابي
تصوير- فريق عمان أمانة -
عبدالله المقبالي.. أربعيني عشق صعود الجبال منذ الثامنة عشرة.. واتخذها مقامًا ومأوى في العقد الثالث من عمره بعد أن صعدها هذه المرة مغاضبًا..
أكثر من 10 أعوام، والمقبالي يصعد إلى أعالي جبال الرستاق، ليمكث الأسابيع الطوال على قمتها برفقة أغنامه، ومتسلحًا بعصا "يهش بها على غنمه "، وكاميرا يسجل بها حياة الكائنات من حوله، وجهاز كمبيوتر محمول يستعين به على إنتاج أفلامه عن تلك الحياة..
عزلة مجيدة يعيشها المقبالي في قمة الجبل، وعندما ينزل إلى السفح، يهرع إلى المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي ليبث حصاد العزلة من أفلام وصور رائعة تحاكي حياة الجبل، وترصد حركة وسكنات ما يعيش فيه من حيوانات وطيور، بعضها نادرة، وقد عرف المقبالي كيف يتعايش مع هذه المخلوقات، ولم يعد يخيفه فحيح الأفاعي، ولا تزاحم العقارب من حوله..!
المقبالي .. موهوب بالفطرة في اقتناص اللحظات النادرة لحياة الكائنات التي يعج بها الجبل، وبصورة تضاهي أبرع مصوري "ناشونال جيوغرافيك"..
يرى المقبالي في العزلة عاملا مهما لحفز الإبداع.. إلا أنّه ومع التعاقب اللاهث لسنين العمر، يتطلع الآن إلى الاستقرار في السفح، ويطمح إلى أن تأخذ بيده إحدى الجهات الحكومية ليعمل مصورًا لديها، ليتمكن من فتح بيت وتكوين أسرة ليس على رأس الجبل بل على السفح..
"الرؤية " قامت برحلة إلى جبال الرستاق بالتنسيق مع فريق عمان عمان التطوعي بمحافظة الظاهرة للالتقاء بالمبدع عبدالله المقبالي، حيث كانت رحلة استثنائية على الرغم من صعوبة الصعود إلى الجبل ولأكثر من ثلاث ساعات.
الطفولة.. والدراسة
أبدى المقبالي سعادته بالزيارة، وقال: أنا سعيد جدًا بزيارتكم لي وأشكركم على هذه المبادرة الطيبة.. ومضى متحدثًا عن طفولته بالقول: طفولتي كانت عادية مثل بقية الأطفال، فأنا من مواليد 1973 من بيت القرن، ولدي 12 أخًا، وأنا الوحيد من إخواني الذي لديّ هواية حب صعود الجبال. في طفولتي لم أكن أحب صعود الجبال واكتشفت هذه الموهبة عندما كان عمري 18سنة، وكانت طفولة تتسم بالشقاوة في المدرسة، فكما أسلفت، وعندما بلغت سن الثامنة عشرة بدأت أميل إلى الاستماع إلى سيرة حياة الزهاد، وكانت تؤثر عليّ وأحببت أن أعيش حياتهم. ومن ضمن هذه القصص التي كانت تعجبني قصة سيدنا موسى الذي كان يرعى الغنم، وبعد ذلك أحببت حياة الجبال لأن هنا في الرستاق الجبال أمامنا فأصبح ذلك حلمي، وتمنيت أن أحققه يوما بعد يوم وأعيش حياة الزهد، رغم أنّ والديّ لم يتقبلا فكرة حبي للعيش بالجبال وواجهت معارضة شديدة منهما.
ويواصل عبد الله حديثه قائلا: درست في المدرسة إلى الصف الثالث الإعدادي، ثمّ انتقلت إلى معهد العلوم الشرعية (معهد القضاء سابقا) فدرست به الصف الأول الثانوي، ثمّ قررت بعدها عدم مواصلة المدرسة.. كنت أشتري الأغنام من مصروفي الخاص، وكنت أحب تربيتها؛ ولأنّ السوق كان قريبًا منا فقد جمعت حوالي 9 أغنام.. وذات يوم فتحت باب حظيرتها فإذا بالأغنام فجأة تجري هاربة نحو الجبل؛ فقمت بملاحقتها إلى أن وصلت إلى جبل شمس.
حبي للجبال سببه الاطلاع الثقافي الذي كنت أحرص عليه دائمًا من خلال الكتب المختلفة التي أطلع عليها، ومن الكتب التي أحب مطالعتها التي تتناول سيرة الصالحين، والزهاد؛ لذلك أحببت حياة الجبال.
السبب الرئيسي لترك حياة المدينة هو أنّي كرهت العيش في المدينة، وعندما صعدت إلى الجبال أحببت الحياة أكثر بين الحيوانات.. فالحياة في المدينة لا يوجد بها تجديد فهي مملة بالنسبة لي بعكس حياة الجبال، فأنت تشاهد الطبيعة الخلابة، والهواء النقي فأنا أحب الانتقال من جبل إلى آخر.
ويتابع المقبالي: أصعد إلىجبل سوني. وكنت أصعد إلى جبل شمس من وادي بني غافر، حيث كنت أقضي وقتًا طويلا مع أغنامي.. وأول خروج لي من المنزل استغرق أسبوعين في الجبل، وعندما عدت إلى المنزل وجدت الجميع مستاءً ويسأل عني.. حاولوا إقناعي بأنّ حياتي ليست مع الغنم، وإنّما في المدينة فحاولت إقناعهم بأنّ هذه حريّة شخصيّة حتى تمكنت من إقناعهم بذلك، ولكن طلبوا مني أن أتحمّل مسؤولية قراري، واستمررت في صعود الجبال إلا إنني لم أنقطع عنهم كنت أزورهم بين الحين والآخر.
مواهب.. وصعوبات
وعن طعامه خلال فترة غيابه عن المنزل، يقول المقبالي: أتناول التمر كثيرًا، والقاشع هي وجبتي المفضلة والرئيسية، وأحيانًا آكل البوت، وهو نوع من أنواع التوت، وأشرب من البرك المائية العذبة.
وعن الصعوبات، يقول: لم أواجه أي تعدٍ من الآخرين ولكن أسمع أحيانًا صوت الأفاعي خصوصًا خلال الليل؛ لأنّي كثير المشي ليلا وعندما أحس بحالة الخطر، أقرأ أية الكرسي، أمّا العقارب فلا توجد بها مشكلة، المشكلة تكمن في الأفاعي.. وعن الفيديو الذي سجله مع الأفاعي والعقارب؛ يقول: لم تكن عقارب سامة فعندما تكون سامة يكون الرأس كبيرًا والفك أيضًا، وقد اعتدت عليها ولم أعد أخافها.
وعن مواهبه تحدث عبدالله قائلا: لديّ موهبة النحت على الخشب والجبس؛ فهي لديّ قبل الصعود إلى الجبال، ففي المدرسة بالمركز الصيفي أول مشروع قمت به هو مجسم لبرج الصحوة، وقد شاركت في مسابقة دولية للرسم بمناسبة عيد الشجرة؛ ففزت بالمركز الأول على مستوى جنوب الباطنة عندما كنت بالصف الرابع، وأصدقائي وزملائي في الفصل كانوا يشجعونني دومًا على الرسم ولكن بعد التوقف عن المدرسة أهملت هذه الموهبة للأسف.
وعن التصوير يقول المقبالي: عندما أحببت حياة الجبل؛ أردت أن أنقل ذلك للجمهور العماني العاشق والمحب لحياة الجبل، فمن خلال صوري أو قناتي على يوتيوب؛ أريد إيصال رسالة للنّاس مفادها أنّ حياة الجبل جميلة ولها رونق خاص ومميز؛ لأنّ لديّ أعجاب شديد جدًا بالجبل؛ وبدايتي مع التصوير كانت من خلال كاميرا قديمة يملكها إخوتي وكانت في ذلك الوقت تعمل بنظام تحميض الفيلم، ثمّ اشتريت كاميرا شخصية، وكانت بخمسين ريالا عمانيًا، ولاحقًا اشتريت كاميرا رقميّة وما زلت محتفظا بها الآن واستخدمها للتصوير حاليًا.
مشاركات
عن مشاركاته في مسابقات التصوير، يقول المقبالي: لا أحبذ حاليا المشاركة في المسابقات؛ فذلك ليس هدفي؛ كل ما أطمح إليه أن أوصّل رسالة لجميع الناس أنّ حياة الجبال جميلة، وفي هذه المرحلة من العمر أنا أشجع الشباب على المشاركة في هكذا مسابقات..
ويبيّن أنّه كان يستخدم الشبكة العنكبوتية خصوصًا google earth حيث إنّه من عشاق الخرائط على الانترنت.
ويقول: كل مرة أنزل من الجبل أول خطوة أقوم بها اتصفح الانترنت حيث لديّ جهازا كمبيوتر محمول واحد للعمل، والثاني للانترنت فقط ومن ثمّ أصبحت لديّ العديد من المواهب في الإنترنت؛ فكل ما أريد معرفته هو أن أقوم بالبحث عنه في محركات البحث العديدة ومنها غوغل.
أمّا مسألة التصوير والتعليق فعنها يقول المقبالي: هي مهارة اكتسبتها من البحث الذي أمكث عليه وقتًا طويلا، فمن خلال الانترنت أيضا تستطيع أن تنافس من لهم شهادات عليا، ولديّ حساب على فيس بوك وقناة في اليوتيوب، إلا أنني لا أفضل استخدام مواقع التواصل الاجتماعي كثيرًا؛ لكن أحب أن يطلع المشاركون فيها على أعمالي ويستمتعوا بالجمال الذي أصوره، كما أتمنى أن أجد يومًا مشتريًا للأفلام التي أنتجها.
أدوات الدفاع عن النفس
وعن صناعته لأدوات الدفاع عن النفس، يروي المقبالي: بداياتي مع ذلك، كان لديّ "سكتون" اشتريته من سوق سناو بالشرقية بـ 150 ريالا، وهو كما يعلم الجميع جهاز ثقيل؛ لذا قررت صنع سلاح خفيف أستطيع حمله في الجبال بعد أن قمت ببيع السكتون، ثمّ ذهبت إلى دبي؛ لشراء لحامة، ومنشارة للحديد، وبدأت في صناعة أول مسدس، والعملية كانت بسيطة والآن توقفت.
وعن سبب توقفه، يقول المقبالي: توقفت لأني سجنت أكثر من مرة، فأول اعتقال لي كان في جبل شمس، ثم صدر مني تعهد بعدم صنع السلاح، ثمّ اعتقلت مرة ثانية في الرستاق لمدة ثلاثة أيام، ثمّ تمّ إعفائي من الحكم مقابل عدم صنع أي سلاح وهذا ما فعلته وتوقفت.
فصاحة وبلاغة
وعن فصاحته في اللغة العربية عند التعليق على أفلامه التي ينتجها، يجيب المقبالي: عندما كنت في معهد العلوم الشرعية وعلى الرغم من أنّها كانت فترة قصيرة، إلا أنّ مادة البلاغة كانت المادة المحببة لي، وكانت تستهويني لدرجة أني أحب الكلمات الفصيحة؛ لهذا استخدم أسلوب البلاغة عند التعليق على أفلامي.
وعن الموقف الذي تعرض له وسبب صدمة له مما جعله يترك المدينة ويصعد إلى الجبل، قال المقبالي: كنت في الجبل الأخضر وتلقيت اتصالا من أحد إخوان الولاة وطلب مني رقم بطاقتي الشخصية؛ ففرحت فاعتقدت أنّها وظيفة؛ فأعطيته رقم البطاقة الشخصية، ولم يخبرني حينها لمَ يريد الرقم، فتواصلت معه بعد أسبوعين وأخبرته بأنه أخذ رقمي ولم يبشرني بشيء، فأخبرني قائلا: كانت هناك وظيفة مساعد للوالي وإن لم نسجل بها سوف تذهب فقمنا بتسجيلك.
ويواصل المقبالي حديثه: فأخبرته بأنّه تصرف غير حضاري، فأخبرني إنّها فترة مؤقتة إلى أن نجد شخصا يعمل لضيافة الوالي؛ مما سبب لي الضيق والحزن، ومن حينها قررت الصعود إلى الجبل وقد مرت على تلك الحادثة 10 سنوات.
العودة إلى الجبل
ويواصل المقبالي حديثه قائلا: كنت حينها دخلت إلى موقع سبلة عمان وتعرّفت إلى موسى الفرعي، وساعدني في الوصول إلى الجهات المعنيّة، ومن ثمّ تحدثت إليهم بأنّ لديّ شكوكًا بأنّ أحد الولاة يستخدم اسمي بصفة مستمرة، وبعد أسبوع حصلت على الرد بأن اسمي موجود ومسجل في وزارة الداخلية فسألته: فأخبروني بأنّ الموضوع تمّ رفعه إلى الجهات العليا وهي وزارة الداخلية فانتظرت شهرين ولم أتلق على أي رد، فقررت التواصل مع الادعاء العام بالرستاق وحصلت على الرد بأنّ هذه القضية بين المواطن والوزارة ولا يمكن أن نتدخل بها، وطلبوا مني التواصل مع وزارة الداخلية، وتواصلت مجددًا مع الادعاء العام وأخبرني بأنّ موضوعي لا يوجد به أي دليل ولذلك لا نستطيع القيام بأي شيء في هذه القضية فأخبرته بأنّ الموضوع تمّ كشفه من قبل جهاز الرقابة المالية والإدارية، ولم يصلني أي رد بعد ذلك.
ويستطرد عبدالله: زارني بعض الوسطاء لإقناعي بنسيان الأمر فقاموا بكتابة تعهد بأني أتنازل عن القضية، مقابل أن يساعدني الوالي فيما بعد في إيجاد وظيفة مناسبة؛ ففرحت كثيرًا واستبشرت خيرًا وقررت التنازل، ومنذ ذلك الحين وإلى الآن لم يعرني أحد أي اهتمام ولم أجد أي وظيفة.
وعن أجمل الجبال يقول المقبالي: الجبل الأخضر هو الأجمل، بسبب وجود الحياة البرية وهي سيح مسبت وأحب مشاهدة الغزلان وأنواع الطيور..
ولأنني أجد نفسي في مثل هذه البيئات، أتمني من الجهات المعنيّة أن يتم تعييني مصورًا لتصوير الطبيعة والبيئة التي تكون بها الحيوانات كالمحميات أو الجبال، كما أتمنى من الجهات المعنية أن تدعمني بكاميرات احترافية HD وسأتكفل بتصوير أجمل وأفضل الأفلام الوثائقية لبلادنا الحبيبة سلطنة عمان.
حياة جميلة
ويضيف عبدالله: حياتي عشتها مع النباتات والحيوانات فلم أشعر بالغدر أو الخداع أو النصب.. وعن عدم بيعه للأفلام التي يعرضها على قناته باليوتيوب، يقول من لهم اهتمام بأفلامي يريدونها أن تكون حصرية، وأنا أفلامي تعرض في جميع وسائل التواصل الاجتماعي لذا قيمتها المادية لن تكون مرتفعة.
وعن فائدة العزلة للفنان يقول المقبالي: العزلة ساهمت بشكل كبير في الفن والإبداع، والفنان دائمًا يكتسب فنّه من الشيء المفقود.
وعن قضاء وقته في الجبال يقول المقبالي: ليس هناك جدول معين، وأفضل وقت للتصوير هو فترة العصر؛ لأنّ الحيوانات بمختلف أنواعها تبدأ في الخروج من أماكنها أمّا خلال النهار فأقوم بطبخ الدال وأخبز بنفسي.
ويتطلع المقبالي في الخطوة المقبلة إلى الاستقرار، وتكوين أسرة، وأن يجد الوظيفة المناسبة..
ويختتم المقبالي حديثه معنا بتوجيه رسالة إلى الشباب مفادها: "أنّ من يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر".
من انا ؟يرسم عبد الله المقبالي إطارًا عامًا لملامح شخصيته في أحد أفلامه الوثائقية بالقول:من أنا؟ ولمَ أنا هنا؟ يا إلهي.. يبدو إنّي قد نسيت اسمي، بل يكاد لا أتذكر كيف ومتى سكنت هنا؟ ربما أتذكر أنّي كنت أعيش في عصر حديث، عصر مليء بالفرص.. عصر يتصف بالثراء من خيرات تستخرج من تحت رمال الوطن، فيكون نصيبك منها أن تشم رائحة التلوث بلا قيود وبدون أن تدفع درهمًا، إنّي كنت طموحًا لأن أصبح فنانًا عظيمًا، أتذكر أنّي كنت أنحت أعمالا جميلة؛ ربما لأنّ العالم الذي أعيش فيه والعصر الذي أنتمي إليه هو عصر الانفتاح على حساب الوطن.. آخر ما أتذكره هو أنّي تركت أعمالي يسكنها النمل ورحلت عن المدينة.. هذا كل شيء.. اليوم أعيش تجرتي في الحياة الثانية.. أعيش وحيدًا بين الصخور والأشجار بعيدًا عن التلوث، بعيدًا عن الإزعاج والخداع والأكاذيب التي أصبحت هي الفن عند البشر.. لا أدري لماذا أحكي لكم اليوم تجربتي.. حسنا ربما تحبون معرفة ما يوجد هنا في هذه النبتة التي أحرص دائمًا على إبقاء عروقها لتنمو من جديد؛ فهي ما أنقذت حياتي من الفقر، وبها بدأت حياتي الثانية التي أنا اليوم مازلت هنا في عصر عجيب.. فحبي لها جعلني كالمجنون أبحث عنها وكأنها امرأة تختبئ بين الصخور؛ بل وغروري بها جعلني أنسى أنّ الإنسان معرض للسقوط عندما تطأ أقدامه أطراف الدروب، كيف لا وهي التي تشبع غرائزي في كسب يكفيني لشراء لباس ومأكل يبقيني حيًا طول السنين.. إنها نبتة الزعتر المعروفة بعطرها السحري الشافي من الألم، والتي لا تنمو إلا حيث ما يضرب الضباب أعلى الجبل.. ليس بالصعب عليّ العثور على مخبأ أجفف فيه الزعتر، فقد مضى عليّ من الزمن ما يكفيني لأن أكون ملمًا بطول الجبل وعرضه ودروبه ومخابئه، فقبل بيعه أقوم بتجفيفه بعيدًا عن الشمس؛ ليصبح زعترًا يتصف بلونه الأخضر الثمين، ليس الزعتر هو الوحيد الذي انتشلني من فقري المحتوم؛ فهنا في قمم الجبال توجد شجرة "العتم" وهي شجرة تشبه شجرة الزيتون، وأقوم بصنع العصي منها، فهي مفضلة لصلابتها ولونها الجميل، بل لها تاريخ عريق فمنها صنعت أبواب ونوافذ مضادة للنبال والرصاص في زمن الحصون.يا إلهي حرارة الشمس حارقة أسفل الجبل.. ولكن برمجت عقلي على تحمل الصعاب، في حر أو في شتاء.. ليل أو نهار، شقاء أو هناء.. الحال هو الحال، فالجسم يتفاعل حيثما يكون القدر قد اختار له الحال، والوجه يبتسم حيثما ترسم النقود أملا لحال أفضل من الحال.. قد تتساءلون: كيف عثرت على هذا الماء العذب المالح؟ إنّها قصة طويلة من التجوال والترحال؛ فما أن تشرق الشمس في صباح مليئ بالنسمات الجميلة الباردة حتى يبدأ شقائي في البحث عن السعادة.. سعادة الوجود في الحياة.. سعادة الاستمرار بها.. سعادة مليئة بالمفاجآت التي تمنحك رؤية طير أو حيوان نادر، فتشعر أنّك تعيش في عالم يختلف عن عالم البشر؛ سعادة تبذل الجهد والمشقة والصبر والتحمّل من أجل الوصول إليها رغم تعرّج الدروب وصعوبة الوصول، ومخاطر المصير.. السعادة التي تجعلكم تستغربون: كيف لهذه الحياة الجبلية الشاقة أن تكون بها سعادة؟ إنّه سر الحياة، وسر التأقلم، وسر برمجة العقل على الرضا بحياة لم يكن أمامه من مجال سوى اختيارها والاندماج معها، والاكتفاء بما يتوفر فيها من رزق وزّعه الخالق للجميع؛ بعضه يذهب للغني وبعضه الآخر للفقير.