الرؤية - محمد بن رضا اللواتي-
يختلف الباحثون حول تحديد مصدر المهارات القيادية بين نظريتين رئيسيتين، الأولى ترى بأنّ مهارات القيادة ينالها الناس من خلال الوراثة، ثم تعمل الأسرة والبيئة والمدرسة على إبرازها وصقلها أو الحد منها، بينما ترى النظرية الأخرى أنّ الأسرة والبيئة والمدرسة بل المؤسسة التي يعمل فيها المرء، كل هذه مصادر تمد المرء بالقابليات القيادية وتعمل على إبرازها وصقلها مع مرور الوقت، لكن على الرغم من اختلاف النظريتين، إلا أنّهما يتفقان على أنّ الأسرة والبيئة والمدرسة تبرز الموهبة القيادية وتصقلها أو تحد من توهجها.
الفرق بين القيادة والإدارة
ويلفت المختصون الانتباه إلى وجود فرق دقيق قلما يُلتفت إليه بين الإدارة والقيادة، فالإدارة تعنى بممارسة مجموعة من الأعمال وفق تصور أولي لأجل تحقيق أفضل نتائج مرجوة، بينما القيادة هي إدارة مجموعة من الأعمال أو الأشخاص دون تصور أولي، دون الإخلال بمبدأ تحقيق أفضل النتائج المرجوة، لذلك فإنّ القائد يصلح لأن يكون مديرًا، ولا يصلح المدير أن يكون قائدًا. والقيادة بهذا التعريف هي عملية إدارة الدفة بحنكة بالغة وموهبة تؤدي إلى بلوغ الأهداف المرجوة في غياب التصورات الأولية التي تمنح للعمل وجهته وترسم خطته، وبعبارة أدق: في الأوقات التي لا نتملك فيها خطة للعمل، ولا رؤية مسبقة للانطلاقة، ونضطر لاتخاذ موقف ما، فإنّ المدير الذي عليه إدارة العمل طبق خطط مرسومة لن يجدي هنا ما لم يكن قائدًا. فالقائد هو الذي يتخذ في الأوقات العصبية القرارات التي تمتاز بعاملين: أنها قرارات تلزم الجميع بالالتفاف حولها، وأنها قرارات إن لم تؤدِ إلى النتائج المرجوة فإنّها تؤدي إلى أقل ضرر وخسائر ممكنة، وهو ما يتضح معه أهمية وجود القيادة في بيئة العمل الذي يتعرض دائمًا لمواقف لا خطط مسبقة لها، وتتطلب مقدرة عالية على إدارتها.
القيادة في بيئة العمل
وينبه الباحثون إلى خطأ من يظن أن الخطط المرسومة والأهداف المعلن عنها تفي بإدارة العمليات لأجل تحقيق الغايات المرجوة، لأنّ العديد من المواقف التي يتطلب فيها اتخاذ قرارات غير متوقعة، ولا توجد تجاهها خطط قبلية موضوعة بعناية، لا تحتمل التأجيل في البت في شأنها، ولن يجدي عندها إلا الحنكة القيادية التي تقود الدفة نحو المواقف المحمودة، وبالنحو الذي يمتد تأثيرها إلى كافة الإرادات والآراء المختلفة حول ما ينبغي فعله، فالقيادة توجه كل هذه الآراء المختلفة صوب اتجاه واحد.
تجربة جونسن آند جونسن
وتعد شركة Johnson & Johnson من أكبر شركات صناعة منتجات العناية بالصحة، ومنتجات الطفل، وكانت هذه الشركة تتألف في عام 1998 من 180 شركة تابعة تدار على مستوى العالم من قبل الشركة الأم. وتطور لاحقا دخلها السنوي من 10 مليارات دولار إلى 22 مليار دولار في أواخر الثمانينات. وزاد عدد العاملين في هذه الشركة الضخمة من 83500 موظف إلى 90500 موظف خلال نفس الفترة. وأمام هذه الحالة، وجدت الشركة أنها غير قادرة على إدارة هذه الموارد البشرية الهائلة عبر دول العالم، ما حدا بها إلى اتخاذ قرار اللامركزية بمنح المكاتب التابعة لها استقلالا إداريا، واصطدم القرار بمعضلة توفير مديرين على مستوى القيادة، أي أؤلئك الذين يتمتعون بمواهب قيادية وليس فحسب مديري ادارة ذوي شهادات في Management بالمعنى الكلاسيكي فحسب. ونظراً لأن الحصول على هذا العدد الكبير ليس أمرًا سهلاً، فقد أخذت الشركة العملاقة على عاتقها توظيف كل من مر وإن بدورة في مجال القيادة Leadership كما وجهت إدارات الموارد البشرية لأجل تغذية البيئة العملية بأنماط من الأوضاع التي تؤثر في المواهب القيادية وتبرزها، حيث آمن مجلس إدارة الشركة بأنّ المدير وحده لا يكفي لإنجاح عملياتها الدولية بل لابد من وجود كوادر تتمتع بمواهب قيادية.
القيادة في الحياة اليومية
ويقطع الخبراء بأنّ كل إنسان يتمتع بموهبة مغمورة في القيادة، لأنّ أغلب المواقف الحياتية الاعتيادية التي تمر بأيّ شخص تدعوه لاتخاذ مواقف ما كان يدري كيف ينبغي أن يتصرف تجاهها، غير أن الفارق في الموقف القيادي بمعناه المهني وتصرفات الأشخاص تجاه مختلف ما يواجههم من مواقف، هو أن الموقف القيادي المهني يتطلب إدارة دفة أشخاص وقيادتهم إدارة ناجحة من أجل مصلحة عامة. وعلى الرغم من ذلك فإنّه ليس عسيرا توفير بيئة مناسبة تضخ أوضاعا من الممكن أن تبرز المواهب القيادية في الأفراد تدريجيا، وهذا كان التحدي الحقيقي لشركة Johnson & Johnson الذي تغلبت عليه.
المنطقة العمياء
ويقول باحثو التنمية البشرية إنّ القيادة تتعلق بالأشخاص، فلا قائد بلا فريق يقوده، كما تتعلق بقرارات المنطقة "العمياء" التي لا توجد مخططات مسبقة تجاهها، ويشبهون ذلك بحالة قيادة شخص لسيارة، "تتخذ بعض السيارات موقعًا على يمين سيارتك أو يسارها ولا تستطيع حساسات الاكتشاف والمرايا الجانبية اكتشافها، وتعرف هذه المنطقة بالمنطقة العمياء، كذلك فإنّ ثمة أحوالا نضطر فيها إلى اتخاذ قرار ما دون الاستناد على معطيات واضحة، والحنكة القيادية هي التي تستطيع في هذه المنطقة العمياء لملمة الآراء المختلفة والمتبعثرة، وتوجيهها في اتجاه واحد، بأقل خسائر ممكنة"، وعلى الأساس يقول الباحثون إن "لدينا مجالان لبروز القيادة، أوله مجال إدارة الناس في الأوضاع العصيبة، والثاني اتخاذ القرارات الجيدة في غياب المعطيات والتصورات الأولية عن الموضوع المراد اتخاذ قرار بشأنه".
أنواع القيادة
ويقسم الخبراء القيادة إلى نوعين، القيادة المباشرة: حيث يتولى القائد قيادة فريقه مباشرة، والقيادة "عبر": وهي القيادة عبر قائد أو مدير أو مسؤول أو ربما منسق تنفيذي كما في بعض المؤسسات. وتعد القيادة عبر وسيط هي النموذج المتبع في أغلب المؤسسات إذ يتعذر على فرد واحد أن يدير إدارة مباشرة بكافة أقسام المؤسسة، خصوصا المؤسسات الضخمة، فضلاً عن أنّ هذا ينافي المنهج المتبع في الإدارات الحديثة. إلا أنه لا توجد قيادة عبر وسيط إلا ومعها قيادة مباشرة، حيث إن فريق كبار المسؤولين يخضع لإدارة الرئيس التنفيذي، كما إنّ الوسيط يدير فريقه بالنيابة عن الرئيس التنفيذي، ومن هنا يتسع نطاق الاحتياج إلى موهبة قيادية ليس فحسب في المناصب العليا وإنما في المناصب الوسطى التي تتولى إدارة فرق العمل، ومن المتوقع مرور هذه الفرق بأزمات وتحديات قد لا يكون من السهولة بمكان الرجوع فيها إلى القيادات العليا دائماً.
اكتشاف المواهب القيادية
ويشير الخبراء إلى أنّ البيئة العملية التي تحتضن المواهب القيادية وتبرزها وتصقلها تمتاز بخمسة عوامل، هي: أولاً، تخويل المسؤوليات: من غير المتوقع بروز القيادات في إدارة تتسم بالمركزية ولا تؤمن بتسليم المهام والمسؤوليات. البيئة الواعدة لصقل المهارات القيادية محتاجة إلى تخويل المسؤوليات تخويلاً حقيقيًا فلا تتدخل الإدارة العليا في طريقة إدارة المسؤوليات لدى رؤساء الفرق بل وتحترم قرارتها. ثانيًا، قاعدة "ينبغي" في حالة غياب المعرفة المسبقة: ثمة فرق دقيق بين "ما أفعله وفق ما أعرفه" وبين "ماذا ينبغي الآن فعله"، والأول لا يولد القيادات وإنّما الثاني توكل إليه مهمة تلك الصناعة. والثاني له علاقة جيدة "بابتكار الإجراء الفوري" حيث تغيب المعرفة بالنمط الأفضل الذي ينبغي ممارسته. لذلك فإنّ تدريب المسؤولين ورؤساء الأقسام على ابتكار الحلول للأزمات والسيطرة على الأوضاع المنفلتة من أقوى وسائل إبراز وصقل المواهب القيادية. ويتم ذلك من خلال افتراض أحوال معينة ثم الطلب من المسؤولين بأنواعهم بل وحتى الموظفين بابتكار الحلول والتوصل إلى أفضل المقترحات وفي وقت قياسي للغاية. ثالثاً، السيطرة على التصرفات والانفعالات: تربية صفة السيطرة على الذات تعد من الركائز الأساسية التي تعمل على إيجاد مقدرة عالية على السيطرة على الآخرين وتوجيههم. يبدأ التدريب من أسلوب الاستماع إلى الآخر وتعلم كيف يكون التعقيب والتعليق والرد والنقد وطرح فكرة مختلفة. وفي التدريب العملي يُطلب من أحد المشاركين التكلم بطرح نظرية أو أطروحة أو رأي لا يكاد يكون مقبولاً، ثم يبدأ المراقب بتأمل ردود الفعل. الردود الصحيحة ينبغي أن تصدر بصوت هادئ وواضح، لا يتّسم بالعنف أو الكلمات غير اللائقة في البيئة العملية، وترتكز على احترام الرأي الذي طُرح قبل قليل ثم طرح رأي مختلف. رابعا، المقدرة على تحمل المخاطرة: إحدى مكنونات بيئة خلق القادة هي تحفيز موهبة تحمل المخاطرة. ومن الواضح أن الاستراتيجيات في هذا الصدد تقيس المخاطرة وتضع شروط تحملها وكيفية التعامل معها، ولكن يتميز القائد بأنّه يستطيع فعل ذلك كله بلا استراتيجية مسبقة. إذ إنّ كل مدير ناجح لن يفوته التخطيط الاستراتيجي وقياس الخطورة، ولكن المهارات القيادية هي وحدها التي تساعد المدير على تحمل المخاطرة عند فقدان أدوات التخطيط والقياس. خامسًا، الشخصية اللولب: لاحظت الدراسات المعتبرة أن بعض الأطفال يكونون في شللهم اللولب بالنسبة إلى بقية أفراد الشُلّة. فهم بمجرد تواجدهم في مجموعة، يستقطبون اهتمام جميع أو أغلب أعضائها ويصبحون في وقت قياسي القائد أو النقطة المتوهجة فيها. هذه الحالة عدها البعض موهبة توجد في الأشخاص حين ولادتهم. إلا أنّ نقلها أو محاكاتها أو تدريب الآخرين على اكتسابها ممكن أيضًا. ومن الأمور المساعدة على تولد هذه الحالة: التركيز العالي وقلة المزاح والصدق وعدم التردد والثقة العالية والأداء بتعابير الوجه وحركات اليد والتقليل التام من حالة افتعال الأوضاع المنفلتة.