لكل شعب مساحته الخاصة التي يؤمن بضرورة التواجد فيها في الوقت المحدد وهي التي تولد فيه شعورا بأنه لا وجود له خارج تلك المساحة في ذلك الوقت وإن كانت هذه المساحة مجرد شارع.
hلشوارع كانت بمثابة الحجر الذي سقط في المياه الآسنة التي أحاطت بالجميع وأصر البعض على صفائها حتى تصاعدت فوراتها من الداخل حتى شكلت دوائر على السطح,ووصلت إلى مرحلة أنها خلقت تنافسا ابداعيا فيمن يستغل أرصفتها و مساراتها وحواجزها وجدران قريبة منها ليكون التظاهرة والمسيرة الأجمل تنظيما والأكبر زخما والاكثر عددا ولم يمنع ذلك من ظهور حالات شوهت حقها الأصيل و المتجدد والدائم والمطلوب,والمكفول في دساتير العالم الحر فبدلا من ريشة الفنان ولافتة الاعتراض والمطالب وصوت هنا يحترم الصوت الآخر هناك حل محلها الحجر المتراشق والدخان والقنابل والرصاص المطاطيّ ومنصّات الاقصاء وخطابات التخوين.
كل هذه الأحداث شكلت لدي فكرة أن الشوارع تحولت من شيء مهمل إلى رائد و من شيء محايد إلى طرف في كل مسيرة أو تظاهرة تخرج, وأصبحت تملك من القوة لدرجة أنها تمتص منك مخزن الصور في ذاكرتك وتزيل صور الوجوه التي غصت بها دون أن تتذكر سوى وجها واحدا منتشيا يجمع تلك الوجوه!وحوّلت المتظاهرين إلى عائلة تعيش في جو صاخب,وأظهرت كلمات كانت في معجم الهمس للمواطن البسيط و غزلت حكايات جديدة وتجاوزت أسئلة ظلت مطروحة وطرحت في المقابل أسئلة جديدة وأجزم أن من الحضور من لم يكن يفهم ما يقال من نداءات وهتافات لكنه كان يشعر بالحياة والحيوية بعد حالة انعزال وتوحش و فردانية حاصرته لعقود ومن هم البيت الصغير إلى هم البيت الكبير..لقد جعلتنا نعيد صياغة الوطن و جماداته فيه مما يصفه الأطفال: كل الأشياء تتنفس..كل الأشياء تشعر بنا كما نشعر بها, لا مما يصفه الكبار: أنت لوح!
من يتأمل من يخرج للشوارع يجعله يتساءل عن الالهام الذي جعلهم يحولونها إلى كائن جميل يتفاعل معهم ويتساءل كيف تولدت لديهم هذه الفكرة بتحويل هذا الاسفلت إلى كائن يصهل كلما قهروا صوت الخوف بداخلهم وكنت أظن في طفولتي أن الشوارع ليست سوى للعبور,ليست سوى خط ينظم حركة السيارات واستراحة لرصد المارين وتسجيل ايقاعات مختلفة لحركة سياراتهم وكأن ثمة قوة تأسرها بين سطرين لا ينطبق عليهما الدرس الاول في الكتابة: عليك أن تبقى دائما على السطر بل هنا عليك أن تقف دائما بين السطرين واحذر أن تتجاوزهما,وتنطبق عليهما قاعدة:اترك مسافة بين كل كلمة وافصل الكلمات عن بعضها حتى لا يصاب قارئها باختناق وشرود حين يحاول قراءتها وكأنها محاكاة للاختناق المروري تماما!
الشوارع في طفولتي لازمتني بموقف يتعلق باختيار اسمي الذي أصر والدي أن يكون على اسم الشركة التي عمل بها لفترة حين مهدت الطريق الذي يتغلغل في حارتنا التي تصطف مع غيرها من الحواري لتبدأ بطابع زراعي ثم بيوت تحتضن بعضها لتتوسع حتى تنتهي في البحر وكأن كل الأشياء لدينا يجب أن تنتهي في البحر:مياه الأمطار,الهموم,الرسائل,الأساطير!لم توافق أمي على “ستراباك”واستهجنته!,فأي ذل سيلحق بهذا الطفل حين يكبر ويعيره أقرانه بأنه يحمل اسم شركة لشق الطرق وأسفلتها ولم أكن لأرفض الاسم لموسيقاه ورمزيته وتمنيت لو بقيت أحمله حتى كاسم حركيّ التصق بي حتى اذا حانت لحظة يريدها والدي أو أريدها لنفسي أنسى معها اسمي الحقيقي واستبدله بالحركيّ ذاك حتى أهرب إليه من حاضري!تبقى أجمل الشوارع من نستعيد فيها أشلائنا وحواسنا واحساسنا ببعضنا وانسانيتنا,وفي علاقتنا بالمكان وجمالياته,و في جسر يعبر بالانسان إلى الانسان قبل أن يعبر بالانسان إلى الطبيعة و أشيائها,وأن يضع الأشياء والأحداث على بساط الدراسة والبحث والتحليل وأن يفصل عنها قدر ما يستطيع محاور التقديس وأن يتوقف عن التسويق لهذه المحاور لنعبر عبورا عظيما إلى المستقبل.
http://moosa84.blogspot.com/2012/10/blog-post_23.html