المرضُ، على اختلاف درجاته وشدته، يتطلب، إضافة إلى العلاج، نوعاً من التعاطي الاجتماعي، يترك أثراً كبيراً على صاحب المرض الذي يجد في عيادة أي من معارفه أو أهله، أملاً في عافية أو إحساساً بنوع من الدعم والتضامن، يؤثر قطعاً، على تحسّن حالته.
لكن عيادة المريض عندما تصبح “زيارة” له، تكون كارثة، بحسب مأثورات عربية هامة، نظراً لما اشتملت عليه من تفريق عميق الشأن، بين عيادة المريض وزيارته، حيث الأولى هي المطلوبة، أما الثانية، فتكون وبالاً على صاحب المرض، بحسب ما نقله إخباريون لغويون عرب في مصنفاتهم القديمة.
المريضُ لا يُزار
وجاء في الأمهات القديمة، أن رجلاً وقع بمرض، فأتاه بعض الناس لعيادته، إلا أنهم أطالوا الجلوس، وحوّلوا العيادة إلى زيارة. فأحس المريض بالضيق فقال: المريضُ يُعادُ، والصحيحُ يُزار! ورد في (التذكرة الحمدونية) التي تحدثت عن رجل قد اعتلَّ، فعاده أحد أصدقائه وكان كاتباً، وقد كان من النوع المتخفف، فيعود ولا يثقل، ولا يزيد في عيادته عن السؤال والدعاء. وكان غير هذا الرجل يطيل الجلوس ويحوّل العيادة إلى زيارة، فلمّا أفاق المريض من علّته، قال عن الكاتب: ما عادني في علّتي هذه، إلا هذا!
لأنه لم يطل المكث، وما حوّل العيادة زيارة، فاختصّه وحده، بالفعل.
ومن المأثور في هذا السياق، ما روي عن رجل أطال في عيادته حتى أصبحت زيارة، فلمّا همّ بالمغادرة وسأل العليل عن أي شيء يطلبه، فقال له: نعم، بترك العودة. ذلك أنه أطال في مكثه، فيما المريض لم يكن في حاجة إلا لعيادة، وفي العربية هي من العود، وهو تثنية الأمر عوداً على بدء، والعودة المرةُ الواحدة، وعادَ فلانٌ، في معروف، زادَ وأكثر. والعيادة للمريض. ولأن فيها عوداً على بدء، فهي قابلة للتكرار، إنما بغير إطالة، بل هي أشبه بسرعة اختلاس نظرة عين، وفيه يقول الشاعر:
حقّ العيادةِ يومٌ بعد يومينِ
وجلسةٌ مثل خلس اللحظ بالعينِ
لا تبرمنّ عليلاً في مساءلةٍ
يكفيك من ذاك تسآلٌ بحرفينِ
ومن عيوب الإطالة في عيادة المريض إذ تتحول زيارة، ما حدث مع الأعمش، إذ عادهُ رجلٌ وأطال عنده، فسأل الرجلُ الأعمش: يا أبا محمد، ما أشدّ شيء مرّ عليك في علّتكَ هذه؟ فقال له: دخولكَ إليّ، وقعودك عندي!
عيادة الملوك.. من لطائف العربية
وورد لدى بعض الإخباريين اللغويين العرب، أن العيادة من آداب السلوك مع الملوك. وذكروا أن عيادة الملوك لها طابع خاص، كما في ما نقله الأبشيهي في مستطرفه فيقول: “إذا دخل العوّاد على الملك، فحقّهم ألا يسلموا عليه، فيحوجوه إلى ردّ السلام، ويتعبوه، فإذا علموا أنه لاحظهم، دعوا له وانصرفوا”. وهي مستمدة، بالأصل، من آداب العيادة ذاتها، حيث إن تحولت زيارة، أطبقت على أنفاس العليل، والزيارة لا تكون إلا للصحيح، فإن كانت للملوك وجب الإيجاز فيها حدّ الصمت وحدّ الامتناع عن إلقاء السلام كيلا يزيد من تعب الملك بالرّد، وهي من لطائف آداب الملوك العربية.
وحدد الإخباريون اللغويون العرب، عيباً آخر في العيادة، وهو التشكّي أمام المريض، ما يمكن أن يزيد من تدهور صحته ويضيّق عليه. إذ ورد في بعض المرويات: أي شيء تكره في العُوّاد؟ قال: الشكيّة.
وكان بعضهم مشهوراً في ثقله، زائراً أو في عيادة، أو مقيما في بيته، بدون أي فارق. فإن عبّر عن رغبته بتكرار عيادة مريض، قال له: أنتَ تثقل عليّ وأنتَ في بيتك، فكيف في بيتي؟! وردت في التذكرة الحمدونية. فالزيارة، نفسها، يطلب لها القلّة في المكث، فكيف بالعيادة التي يفترض أن تكون قلّة القلّة؟
ومن مأثورات الشعر العربي في هذا السياق:
أقللْ زيارة من تهوى مودّته
فالناس من لم يؤاثرهم أجلّوهُ
فالغيثُ وهو حياة الناس كلّهمُ
إن دام أكثر من يومين، مَلّوهُ!
وكذلك قيل:
عليك بإقلال الزيارة إنها
إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكا
وينقل الإخباريون قصة عن الخليل صاحب كتاب العين والعروض، لدى عيادته مريضا يعمل في النحو، وعندما دخل كان شقيق المريض يتكلّم ويلحن أشد اللحن فقال: افتح عيناك [عينيك] وحرّك شفتاك [شفتيك] فإنّ أبو محمد جالساً [أبا محمد جالس] فقال الخليل له: “إني أرى أن أكثر علّة أخيك، من كلامك!”.
المصدر: العربية.نت – عهد فاضل
#عاشق_عمان