وأنتَ تحزم حقائبكَ وتتركنا قبل ساعات قليلة من الآن، بعد أربعين يوما من حدادٍ على عظيم من البشر، فإنه لم يكن لي إلا وأن أكتبَ لك رسالة لتحملها معك ولولدك وحفيدك، ونحن نحملها لولدنا وحفيدنا وهم يرون أولادك يحلون ضيوفا ثقيلين عليهم، لا يجدون من ذلك بُدًا ولا مفرا.
عندما نزلتَ قبل أربعين يوما في أرضنا قد أسلتَ جروحا وأدمَيْتَ مقلا، وأنت تتخطف من بيننا رجلَ السلام والمحبة والوئام، رجلًا قد وعد فأنجز، فلم يدخر حتى آخرَ قدرة وقوة لجسده على تلبية روحه الوثابة، لم يدخرها لراحةٍ أو تخفيفِ ألم، بل انخرط في إنجاز ما وعد شعبه وأرضه وأهل بلده، “أيها الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء” ولو برؤية محياه الذي طالما أسعدت طلته شعبه وناسه، لذلك كان يقف شامخا كالجبل، رغم جسده المنهل، الذي أضناه المرض وأتعبه..
رغم كل ذلك الألم الذي أحدثتَ أيها الضيف، ورغم كون عيوننا رطبةً بذكر تلكم النفس المحبة، فلا يخطر على القلوب في لحظة هدوءٍ في سياق حياة صاخبة، إلا ويقدح طيفُه في العيون، فتنهلَّ خاشعة باكية، لا فرق بين رجل وامرأة، ولا صغير وكبير، بل لا فرق بين تلك العيون الدامعة، والقلوب المنفطرة بين إنسان وإنسان على وجه المعمورة.
رغم كل ذلك إلا أنه كان لكَ فضل كبير لا يمكن إنكاره، فقد أظهرتَ لنا جليًا كم كان الرجلُ عظيمًا، وقد تبَدَّى غرسُه، وظَفُرَ به، وطنًا كريمًا راسخًا، فقد صدَق عمانَ الحبيبةَ وعده، فصدَّقته حبها، فأنجبتْ له بنين وبناتٍ من رَحِمِها، من مختلف الأعمار، ومختلف التوجهات والأفكار، بل ومن رَحِمِ غيرها، طيفَ حب يحاكي محبة الكون بأسره ومحوريةَ الإنسان، لحظةَ ميلاده وخَلقِه الأول، والله ينفخ فيه من روحه، والملائكةُ تسجد له تحية وتقديرا..
لقد أبَنْتَ كيف إن الحكمةَ عظيمة، وكيف إن الحكيمَ أين كان، كان الخيرُ العميمُ له ولمن يحيط به، ليتجلى للعالمين عِظَمُ الآية ” يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثير وما يذكر إلا أولوا الألباب” تجليًا ساحرًا، يدعو أولي الألباب من العالمين إلى دراستها وتدريسها.
لقد كان لحِلولكَ الذي لا يرحبُ به البشر -وأنتَ فناءُ دنيا لهم، وانقطاع أحبة وأهل- فضلُه في إظهار كم باتت عمانُ عظيمةَ البنيان، راسخةَ القدم، شامخة الأنف، لا تخون صديقا، ولا تغفل عن عدو، فيَدٌ ممتدة بسلام الأعزاء، والأخرى ممسكةٌ على زناد الأقوياء، تحمي السلام وتنافح عنه..
لقد تجلت الفخامةُ في هذا الشعب وردود فعله، وأين بلغ فضلُ الله وكرمُه عليه بالذاكر الشاكر السلطان الراحل، الذي لم يَصْدُر عنه خطابٌ إلا واستهله بذكر ربه، والثناء عليه، حتى خطابه الأخير المكتوب بوصيته بسلطان دولته الجديد المختار (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير)، فكانت فخامةٌ منقطعةُ المثال من أبناءِ وطنٍ وسلطانٍ وتاريخٍ، وُعَاةٍ كرماء، أثبتوا أنهم غرس زاكٍ، لم يخبْ ظنُّ سلطانهم بهم، فهم على العهد والوعد منذ اللحظة الأولى التي حللتَ بها، ملتحمين عسكريين ومدنيين، سياسيين ومواطنين، صغارا وكبارًا، نساء ورجالا، وعياً بلغ المثل بين الأمم..
ها هو العَلَمُ الذي نكس قبل أربعين يوما يعود ليعانق السماء، ويرفرف معلنًا استئناف المسيرة المباركة، بقيادة امتداد الحكمة، والرأي الرصين، المختار الأمين على النهضة المباركة، جلالة السلطان هيثم بن طارق، الذي عُقدت عليه الآمال، في حمل الراية والارتقاء بها عاليا، بحكمة رصينة، منشؤها ذلكم الرجلُ الذي تخطفته المنونُ من بين أيدينا غيرَ مختارين، بانيَ النهضة، وصاحبَ الرسالة، رسالةِ الوفاء والصدق والمحبة، وذي الحكمة البالغة، والتي باتت سيرته بها آيةً من آيات الله الظاهرة في هذا العصر المضطرب، وعظيمِ نعمة الله بها على عباده، كيف هي وكيف تكون نتيجتها متى تحلى المرء بها بكريم الله وفضله.
لِيرقدْ إذن السلطانُ قابوس في سلام من الله، ورضى من عباده، وقبولٍ منهم ومنه، وليشمرْ خليفتُه ومنتقاه، ومحلُّ ثقته، ومُتوسَّمُه السلطانُ هيثم عن الجد، وهو أهله، وليصطفَّ العمانيون صفا واحدا خلفه، يدا تعمر وتستأنف البناء بوتيرة عالية، وأخرى تمتلك المبادرة في وجه أي مخل لأمنٍ وأمانٍ وطمأنينةٍ امتنها الله سبحانه، وهندسها باني النهضة، وأنبتتها التربة العمانية الزاكية بتراثها وتاريخها، ولتقفْ صروحُ العلم اليوم عالية في انطلاقة جديدة وجدية نحو الهدف والغاية من رخاء هذا الشعب وتقدمه، ولتحفظْ الجهات العسكرية فناء هذه الدولة، وتردَّ عنها كل غَرُور، ولتعملْ جميعُ المؤسسات متحدة على تجويد مشاركتها ومضاعفتها في بناء الدولة المدنية المتقدمة، وليعملْ الشعب على تمكين الألفة والحب والسلام داخليا وخارجيًا كما تركهم عليها باني نهضتهم الحديثة، وليحافظوا على صورتهم الزاكية بين عموم الشعوب، وفاءً له ولروحه الزاكية المحبة لوطنه وشعبه، وتجديدا للعهد لسلطان البلاد هيثم بن طارق في استئنافه وانطلاقته المجيدة، نورا على نور..
لتأخذ هذه الرسالة لك وللتاريخ “أن رحمة الله قريب من المحسنين” وأنه كما أحسن السلطان قابوس النهضة، فسيحسن السلطان هيثم الحفاظ عليها والإكمال والبناء، وكما أحسن اللهُ لفقيد الأمة الشعبَ والتفافَهم حوله، فسيحسنها لخليفته من بعده، وأن الله مع المتقين، وستمضي عمانُ مهما حلَّ أولادك وأحفادك وارتحلوا -وهم حالون كرهًا لا محالة- على نهج ما اختار لهم سلطانهم الراحل، واتبع من حكمة ربه، ونبيه، وإنسانيته، متحدين ملتفين حول بعضهم، عمان أولهم وآخرهم، زاكين مترَقِّين، ما كان الله وكان السلام والصدق موئلهم، وكل مقيم على هذه الأرض الطيبة له منها مدد وقيام…
لترتقِ عمانُ عاليا أبد الآبدين، وليحفظ الله شعبها الكريم… ولتكن لنا بعدكَ أيها الضيف الثقيل المرتحل نشأةٌ أخرى كريمة، مَنًّا من الله ورضى، تصلح وتسدد، وترتقي وترفع، وتحفظ وتمنع..(ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير…)
عبدالحميد بن حميد الجامعي
صباح الخميس
٢٦ جمادي الآخرة ١٤٤١ هـ
٢٠ فبراير ٢٠٢٠ م
#عاشق_عمان