سوْال من الباحثة المغربية فاطمة بوهراكة :
عن دور مجلس الخليلي الذي أسسه الشيخ عبد الله بن علي الخليلي في خدمة الشعر العُماني ؟
جواب الشاعر الشيخ محمد بن عبد الله الخليلي :
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من يهدِه الله فلا مُضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له ..
اما بعد :
فالحمد لله حق حمده ، خلق الخلق وقسّم بينهم الرزق ، وجعلهم شعوبا وقبائل ، وآتاهم من نعمه ما لا يُعدُّ ولا يحصى ، ولا يُدرك ولا يستقصى ، يزيد في الخلق ما يشاء من القدرات ، والمواهب والامكانات ، يختص برحمته من يشاء ويصرفها عمن يشاء ، سبحانه وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
والصلاة والسلام على أكرم خلقه وصفوة أنبيائه سيدنا محمد النبي الاميّ الأمين وعلى آله وصحبه الأكرمين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين ، أما بعد :
فإن الواجب يحتم عليّ أولاً تقديم خالص الشكر وعظيم التقدير والامتنان الى مؤسسة جائزة عبدالعزيز البابطين للابداع الشعري في دولة الكويت الشقيقة على تفضلهم بالاحتفاء بسيدي الوالد شاعراً في مهرجانها الربيعي لهذا العام ٢٠١٥ م وحسن ضيافتهم لنا وإكرام نُزُلنا ، ولا اجد هنا ما يوفّيهم حقهم الا ان ادعو الله لهم بحسن الجزاء دنيا واخرى وأن يجعل عملهم هذا وكل أعمالهم خالصةً لوجهه الكريم .
ولد شاعرنا الذي نحتفي به اليوم وهو سيدي الوالد الشاعر عبدالله بن علي بن عبدالله بن سعيد بن خلفان الخليلي الخروصي في مدينة سمائل مركز ولاية سمائل من محافظة الداخلية بسلطنة عمان وكان ذلك في ٧ محرم عام ١٣٤١ هـ على اقرب الاحتمالات اي حوالي عام ١٩٢٢ م وتوفي يوم الأحد ٢٨ ربيع الآخر ١٤٢١ هـ الموافق ٣٠ / ٧ / ٢٠٠٠ م وقد عاني في أواخر عمره من مرض باركنسون او المرض الرعّاش الذي أقعده وحرمه من القدرة على الحركة والكتابة بل وحتى الكلام وقد تسبب في وفاته في آخر المطاف رحمه الله وعوّضه الأجر عما عاناه وجعله في ميزان حسناته وتكفيراً عن سيئاته انه سميع مجيب .
بدأ بتعلم القرآن الكريم في بلدته سمائل على يدي مقرئ خصصه له والده ثم درس العربية كتابة وقراءة وإعراباً على يدي عدد من العلماء والأساتذة في بلدته ثم انتقل الى جوار عمه الامام محمد بن عبدالله الخليلي في نَزوى عاصمة الإمامة ومجمع العلماء والأدباء والكبراء من أهل الحَل والعَقد وهناك تتلمذ على يدي عمه بمجالسته له ومعايشة واقع حياته اليومية ومخالطته لعلماء وأدباء عصره فأخذ منهم ما أخذ من شتى فنون المعرفة ، ولعل هذه الفترة من حياته هي أهم فترات تكوين شخصيته وتبلورها .
لقد تنقل الوالد في حياته بين سمائل حيث تقيم والدته وهي رَيَّا بنت أحمد بن سعيد بن خلفان الخليلية وبوشر التي انتقل اليها والده علي بن عبدالله بن سعيد بن خلفان الخليلي – بحكم انها كانت موطن جده سعيد بن خلفان الخليلي وآبائه قبل انتقاله الى سمائل – وبين نزوى عند عمه الامام الخليلي ، وبعد وفاة والده في مطرح ودفنه في بوشر عام ١٣٦١ هـ بقي اخوه الأكبر العم هلال في بوشر وبقي هو واخوه الأصغر العم سعود في سمائل ثم انتقل الامام الخليلي الى رحمة ربه في ٢٩ شعبان ١٣٧٣ هـ فانقطعت زيارة الوالد الى نزوى تقريباً وبقي معظم وقته في سمائل مع أخيه سعود وزيارات أخيهما هلال بين بوشر وسمائل ولعل هذه الفترة كانت اصعب ما يكون عليه ولكن المعاناة هي رحم العبقرية ومولدها واذا كان الوالد قد بدأ قول الشعر أيام الإمام الخليلي الذي شهد له بالنبوغ وتنبأ له بالتفوق فقد أنضجت هذه الفترة موهبته ومهدت الطريق أمامه حتى يشق طريق المجد والسؤدد الأدبي وفتحت له أبواب الانفتاح على العالم ولو بشكل ضيّق لكنه أتاح له الإطلالَ ولو من بُعد على العالم الخارجي حيث زار الهند عام ١٩٥٤ م وبعدها زار الكويت فبدأ أفق اطّلاعه بالتوسع نحو عالم جديد كان له الأثر الكبير على شعره من حيث تخلصه من ربقة التقليد وتكراره ونزوعه الى الإبداع والتجديد ، وأخيراً وبعد ان فتح جلالة السلطان قابوس عام ١٩٧٠ م باب عمان على مصراعيه على العالم الخارجي فقد كانت هذه هي الفرصة السانحة امام الطائر الذي لم يغادر قفصه الا لماماً ان يحلّق بعيداً في الفضاء الرحب للكلمة والصورة والخيال والشاعرية خاصة وانه طائر قويّ الجناح نافذ البصر رهيف الإحساس يجيد تحديد الهدف والحوم حوله تمهيداً لاقتناصه ، وهكذا اصبح الشاعر الخليلي يشرف على العالم من شرفة العبقرية ويتنقل بين آفاق البلاغة وسماوات الإبداع التي قلما يستطيع إدراكها إلا صفوة الفحول من الشعراء ولقد اتاحت له قدرته الثقافية الواسعة الابحار في شتى بحور الشعر والأدب وتحت اقسى ظروف التخليق والابتداع للمعاني والصور الجمالية والشعرية التي تضفي على نصوصه تنوعاً وعمقاً وفخامة ورصانة وجلالاً يتفرد به ويميزه .
لقد عايشتُ سيدي الوالد طوال عمري فرأيت منه حتى قبل أن أفْقَهَ او أعيَ الشعر مدى حبه واهتمامه به إذ لا يكاد يشغله عنه شاغل إلا ما لا يسطيع رده فهو يكتب ويقرأ ويراجع ويصحح ، دواوينه لا تفارقه أينما سار ومعها مصحفه الذي يغتنم الفرصة للقراءة منه ما يتيسر من القران الكريم آناء الليل وأطراف النهار وذلك زادُهُ الذي لا يتركه شأنه شأن أوراده وذِكره الذي يخصص له اوقاتاً محددة في الليل والنهار ، اما غير القرآن الكريم فإن الكتب الاخرى التي لا تفارقه هي القاموس المحيط وبالتحديد على ترتيب القاموس وهذه الكتب جميعاً اي المصحف ودواوينه والقاموس موجودة معه دائماً في شنطة خصصها لهذا الغرض ينقلها معه أينما حلّ وارتحل ، ويوجد في مكتبته كمٌّ هائل من كتب العربية وغيرها واحسب انه قد قرأها كلها ووعى الكثير منها خاصة دواوين الشعراء الكبار اصحاب المعلقات واضرابهم من شعراء الجاهلية مثل امرئ القيس وزهير وكعب والاعشى ولبيد وعمرو ابن هشام والحارث بن حلّزة وغيرهم وفي صدر الاسلام مثل حسّان وعمرو بن معدي كرب وغيرهم ومن تبعهم في دولة بني أمية وبني العباس كعمر بن ابي ربيعة والمتنبي والبحتري والفرزدق والمعرّي والعباس بن الأحنف والشريف الرضي وابن دريد وغيرهم وأخيراً شوقي وحافظ والبارودي وعمر ابوريشة وبدوي الجبل ونزار قباني وأبوالقاسم الشابّي وغيرهم ، هذا غير الشعراء العمانيين الكبار مثل ابي مسلم البهلاني والستالي والكيذاوي وسليمان بن سليمان النبهاني وغيرهم كما كان يقرأ للمنفلوطي النظرات والعبرات ويقرأ قصص العرب والأغاني للأصفهاني ..
كان يحب الكتابة كثيراً ويحب تنظيم كتبه وتسطيرها وتزيينها بالخطوط الجذابة بعدة ألوان وكان اذا بدأ كتابة قصيدة وكثيراً ما يحدث ذلك فإنه يعيش في جوّها ولا يحب ان يقاطعه احد فهو لا ينفكّ عنها إِلَّا لأداء صلاةٍ واجبة أو ضرورة ، وكان يكتب القصيدة حتى ينتهي منها ثم يبدأ بمراجعتها وتعديلها وتصحيحها والتأكد من بعض الكلمات من القاموس حتى اذا رضي عنها عرضها على أصحابه من الشعراء الذين يثق بهم ويطمئن اليهم ليسمع آراءهم وانتقاداتهم فيأخذ منها ما يقتنع به او يستسيغه او يستحسنه ثم يطرحها في مجالس الشعر سواء مجلسه او مجلس غيره فإذا عرض عليه احد ولو لم يكن من الشعراء او الأدباء ولكنه ممن يتذوقون الشعر ويفرّقون بين جيده ورديئه كان يستمع الى رأيه وقد يأخذ به اذا رآه حسنا ..
بدأ الوالد عقد مجلسه الشعري في سمائل ولكني لا اعرف بالتحديد متى ولكني أقدّر انه أواخر خمسينات القرن الماضي او أوائل ستيناته وقد استمر على ذلك الحال حتى انتقل الى مسقط للسكن فيها أوائل عام ١٩٧٨ م وكان مجلسه في سمائل غير متقيد بزمان او مكان فقد يكون في بيته في المجلس او السبلة كما كان يسمى او تحت الشجر في حديقة البيت او في الوادي تحت بيته او قد يكون عند احد أصحابه المقربين من الشعراء في سمائل وهم عدة معدودة علي بن منصور الشامسي وهو شاعر رقيق وقارئ عذب الصوت وموسى بن عيسى البكري وهو شاعر وأستاذ في النحو والعربية وابوسرور حميد بن عبدالله الجامعي وهو شاعر وقاضٍ وأستاذ في العربية ثم انضمّ اليهم الشاعر حبراس بين شبيط وهو شاعر قدير وأستاذ وقارئ رخيم الصوت .
هذا ، وبعد انتقاله الى مسقط حدد يوما معيناً وهو مساء الاثنين من كل أسبوع وذلك في بيته بمنطقة القرم وكان يحضره بالإضافة الى المذكورين أعلاه او من بقي منهم عدد من العلماء والشعراء مثل الشيخ العلّامة عبدالله بن سالم اللزامي رحمه الله والشيخ علي بن سالم الحميدي وولده الشيخ صالح والشيخ الشاعر الأديب المؤرخ سليمان بن خلف الخروصي وهو الذي اطلق على الوالد لقب أمير البيان كما كان يحضر أحياناً سماحة الشيخ احمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة بحكم قرابته ومصاهرته للوالد حيث ان سماحته متزوج من احدى بنات الوالد وكان سماحة الشيخ يحب الاستماع الى شعر الوالد ويعجب به ويتمثل به كما يعجب بنثره في رسائله لما تحمله من معانٍ وقيم وما تمثله من لوحة ادبية بليغة السبك رصينة البناء كما كان يحضر فضيلة الشيخ العلّامة سعيد بن خلف الخروصي الذي كان مساعداً للمفتي وهو أيضاً شاعر كبير ، وأحياناً كان يحضر سعادة السفير الشيخ هلال بن سالم السيابي وهو شاعر فحل كبير ولعله الآن هو شاعر عمان الاول وهو ابن الشيخ العلَامة النسّابة سالم بن حمود السيابي وهو احد الذين تتلمذ الوالد على يديهم ، كذلك داوم الحضور في سنوات المجلس الاخيرة الشيخ الاستاذ ابراهيم بن أحمد الكندي وهو احد عمالقة اللغة العربية صرفاً ونحواً كما انه عالم فقيه وشاعر مُفلق وقد راجع معه الوالد كثيراً من شعره لتنقيته من الشوائب حسب تعبير الوالد ، هذا وكان يحضر عدد آخر من الناس بين الفينة والأخرى رحم الله من تقدم منهم وحفظ من تأخر ..
ختاماً فإني استعرض جانباً من الحياة الخاصة لسيدي الوالد رحمه الله في تعامله مع ابنائه وتربيته لهم فقد رزقه الله عز وجل بستة أبناء وسبع بنات حرص على غرس العقيدة الاسلامية في نفوسهم من صلاة وزكاة وصيام وصدقة وعلى حسن الخُلق ومعاملة الناس بالحسنى وعدم التلفظ بغير الكلام الطيب الحسن والتواضع وعدم التكبر والتفاخر بما ليس فيهم كما حرص على تعليمهم بحسب ما واتت الفرص سواء البنين او البنات ولم يكن يفرّق بينهم في المعاملة وكان في غاية اللطف معهم فكل واحد يشعر انه الأقرب والأحب اليه والمميز عنده وكان يدأب على تنمية مهاراتهم الفكرية بطرح الألغاز والاحاجي والقصص التي تحتاج الى إعمال الفكر في مكنوناتها واستخلاص نتائجها وكذلك في العمليات الحسابية وكان يشجعهم على القراءة والمطالعة والكتابة وتحسين خطوطهم وكان يركز على كيفية مخاطبة الناس ومعاملتهم والتودد اليهم في غير تذلل لقويّهم ولا تكبّر على ضعيفهم ويحثهم على إكرام الضيف وإعانة المحتاج وكان كثيرا ما يستخدم اسلوب القصص لبيان مقصده وقال انه تعلّم ذلك من عمّه الامام الخليلي رحمهم الله جميعاً واسكنهم فسيح جناته ووسع مدخلهم وأكرم نزُلهم مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا …
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد أفضل الخلق اجمعين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين وعنا معهم برحمتك يا ارحم الراحمين ، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
محمد بن عبدالله الخليلي
#عاشق_عمان