كتب : عبدالعزيز الكيومي
الجمعة، ٢٠، مارس ٢٠٢٠
ينتابني العجز عن خط الكلمات التي تصف هذه المغامرة، فهي مكتملة الأركان، والتفاصيل إن صح التعبير، فالجبل المجهول الذي سنعتليه يضمن لنا اطلالة لن نجدها فوق غيره، ولندرة مرتاديه بسبب دروبه الشقفة ستحتويك طبيعة بكر لم تألف الإنسان خلال العقود الماضية.
رغم أنني للمرة الثانية أعتلي هذا الجبل إلا أن الدرب التي سنسلكها مغايرة عن سابقتها فقد قرر القائد “هلال البسامي” أن نسلك مسار الأخطار لنجد معنى الحياة ولذتها، فطالما نحن على قيد الحياة حتمًا ستكون هناك جبال ودروب عديدة علينا أن نتسلقها.
بدأنا من “عقبة يصب” متخذين من “خدعة الصوع” معبرًا لنا تجاه وجه الجبل (جهة الشرق) وما هي إلا دقائق ونحن على حافة “الحامية” وأرجلنا تستأنس بخطواتها على النتوء الضيق المتوفر على هذه الحافة ويُعرف محليًا بمسمى “الساب” فبعضه يتمتع بعرض يصل إلى أكثر من متر، وتصادفك أجزاء منه ينقطع فيها تماما فتضطر للتسلق لتعبر هذه النقاط الحرجة.
لم نكن نشعر بالتعب فروعة المنظر وأنت ترى القرى السحتنية، وصيحات الأسلاف التي يصدح بها أحمد العبري، ويسانده وحش الجبل، والطمأنينة التي تسكن في قلوبنا عندما نرى القائد “هلال وابن اخته عبدالله” لاستكشاف الدرب جعلت من المسار غاية وهدفا في آنٍ واحد.
انتهى طريق “الساب” الذي عبرنا به “خدعة الصوع” بأكملها، والآن يتطلب الأمر الحذر، ورباطة الجأش فسنواجه “رفصة ضيبة” التي تتطلب منا تسلق ما يقارب من (٣٠٠ متر) لنعتلي قمة الجبل!
بعد أن تأكد القائد من سلامة الجميع بدأنا التسلق بتوزيع مبعثر فالمكان يتيح لك التسلق من عدة جهات فكلٌّ اتخذ الجهة التي تليق به، وتارةً المسار يقودك إلى النقطة التي ترنو إليها ويقف بها القائد، وبما أن التسلق يُلزمك تقديم كف يدك إلى الاعلى مع توزيع الثقل على اطرافك بسلاسة بحيث تبتعد عن التباطىء الذي قد يسبب لك ثقلًا غير محمود، وبينما أنا في تسلقي هذا كحال بقية الرفاق أحسست ببنان أصابعي البارزة من القفاز شيءً لين الملمس وما أن رفعت جسمي وارتقى رأسي إلا وادركت أنه ثعبان وكنت قد وضعت كفي الأيسر على طرفه الأخير، غير أن هناك مشكلة أخرى وهو أنه يتجه نحو يد “أحمد” الذي مازال في طور دفع جسمه إلى الأعلى، وبطبيعة الحال وأنا في هذا الموقف الذي حدث في اجزاء من الثانية، لا أملك سوى أن أزعق على “أحمد” لينتبه وهذا ما فعلته، فشكرنا الله على رحمته علينا.
بعد أن ارتقينا رفصة “ضيبة” التي يسميها البعض رفصة “الصوع” أصبحنا على أحدى قمم جبل الضبوك وعند “جرير رفصة ضيبة” أخذنا استراحة طويلة للتزود بالغذاء، والماء، والتقاط الصور عند سن جبلي منعزل ومهيب، وقد تفاجأ أحد الشواوي “رعاة الجبل” بوجودنا في قمة الجبل ونحن لم نكن أقل فجاءةً به، وبعد اللقاء وضيافتنا له تبين أنه من سكان “غيران الخندق” وهي الجهة الشمالية لجبل الضبوك، فأخبرنا أن هذا الجبل مهجور منذ زمن بعيد، ولا يرى أحدًا ينبش خفاياه إلا شخصًا رآه أخوه ومن خلال تقصي التفاصيل تبين أنه قائدنا هلال، فبدأ هلال، ووحش الجبل اطلاق عبارات تدل على أن جبل الضبوك جزء من حمى فسح السحتنية ولكن التمدّن اغنى الفسحيين عن ارتياده.
اتفق الجميع مع القائد أن يكون مبيتنا بالقرب من “جرير التميّم” وبما أن الوقت فيه مُتّسع والمكان به شرفة مهولة تُشرف على فسح وضواحيها فقد أطربنا أحمد، وياسر بأهازيج تبعث العزة، والارتياح في قلوبنا، وقبل المغرب بدأنا في ترتيب وتجهيز المكان لطهي لحم الضأن الذي حملناه معنا، وقد تولى مهمة الطبخ ذو الخبرة “إبراهيم اليعربي”، بينما تحلّق حوله كلا من “هلال، وعبدالله، وناصر، وأحمد” للمساعدة، أما “مالك” فقد طلب مني أن نقتفي أثر وحش الجبل لمساعدته في الاحتطاب، وما أن رأيت هذا الوحش يحمل الصخر العظيم ليكسر جذوع العتم والبوت “الصنوخ” إلا وراعني الموقف وتحاشيت الاقتراب هربًا من أن يسند لي مهمة حمل جذع في تلك الدروب المنحدرة، فآثرت أن اجمع ما أطيقه بنفسي وقفلت راجعا إلى المجموعة أما مالك فقد انهمك في مساعدة الوحش في حمل ما احتطبه بينما تأبط الوحش جذعا وأتى به كأنه يحمل (دعن من سعف النخيل) وما أن رماه عند الموقد حاولت أن أحركه من مكانه فضلا عن حمله ولم استطع ولا أُبالغ في ما ذكرت فالجبال لها أوجهٌ مختلفة وهذا الرجل أحد أوجه الجبل.
بعد وجبة العشاء أدينا صلواتنا على شرفة الجبل، وأشعل ياسر نارا عظيمة على طرف الجبل لكي يراها أهل الوادي، مؤكدًا أنه مازالت هناك أقدام سحتنية تعتليه، وتهتم بتفاصيله، وتعمر خروسه، وجراره وتصلحها، وقد قضينا لحظات جميلة ونحن نطل على قرى وادي السحتن، وقرى وادي بني غافر، وقرى سهل الباطنة، مع حكاوي وقصص الرفاق.
في الصباح الباكر وبعد تناولنا لوجبة الريوق انطلقنا إلى “خرس لِمشيبك” عن طريق “ساب الضجع” على أن تكون قهوتنا عند هذا الخرس المهم، وبعد استراحة تخللها احتساء القهوة، وتغريد الشباب، والاستمتاع بأهم نقطة مطلة من هذا الجبل العظيم، واصلنا بعد أن انعطفنا شمالا تجاه “منازل غور هاشم” ومررنا بتلكم الخروس، والجرار التي تليه وقام “إبراهيم” بتنظيف “خرس الشحصة” وبعد استئنافنا كان القوم يتأكدون من سلامة الخروس، والجرار، ولكن عند الجرار الثلاثة الواقع قبيل خرس “حصاة الزاد” هالنا منظر شاة في الحامية المقابلة وهي تتردَّى من أعلى الجبل مخلفةً سخلين أكملا مشوارهما بدونها ومن خلال تحليلنا للحادثة تبين أنه راعاها -رغم المسافة البعيدة جدا- وجود بشر في هذه الأماكن فكانت مرتابة وخائفة على صغيريها، وبعد هول ما رأينا كنا عاجزين عن تقديم أية مساعدة سوى أن القائد اتصل بأحد الشواوي لعله يعرف لمن ترجع ملكيتهن ولحسن الحظ كان هو من يملكهن ولكن ولخطورة المكان، وبُعده أكد أنه لن يستطيع ادراكها قبل تفوقها ولا أدري ماذا حدث لها بعد ذلك وأتعشّم أنه أدركها.
استأنفنا مسيرنا هبوطا تجاه “الشرجة الخاطية” المطلة على قرية “الطويان” وقد اثقلنا الحزن على تلك الشاة المسكينة وهوّنت علينا بعض الكلمات كان يتمتمها إبراهيم فأزالت بعض ذلك المنظر المحزن.
عند النزول من درب الشرجة الخاطية أعلمنا القائد بأننا سنواجه أخطر نقطة في هذا المسار وهي النزول من “رفصة الطويان” ولكن بتعاون “هلال، وعبدالله، وياسر” معنا عبرناها بكل متعة واريحية فنحن نثق بتوجيهاتهم السديدة، وأكملنا مشوارنا تجاه أطراف فسح لنجد “يونس النصيبي” في انتظارنا وعندها كانت نقطة النهاية لنترك خلفنا أجمل الذكريات في تلكم القمم، والفجوج الطاهرة، والنقية ونصطدم بعالم يعج بالمدَنية، وضجيج التحذيرات من الأوبئة الفتاكة!
المغامرون :
١-هلال البسامي (القائد).
٢-ياسر العبري (وحش الجبل).
٣-إبراهيم اليعربي.
٤-عبدالله المسقري.
٥-مالك الخاطري.
٦-ناصر العامري.
٧-أحمد العبري.
٨-عبدالعزيز الكيومي.