بقلم : حمود بن سالم السيابي
على هذه الأرض المترعة بالزيت وقطع غيار السيارات كانت مجلة العقيدة.
وهنا كان الشيخ سعيد السمحان الكثيري يرفد تكبيرات الرصاص لتفرش الكلمة سجادتها لتصلي للوطن وتتغنى بالشهداء.
وهنا كان مبارك العامري ينتزع من المجلة المجاهدة ملزمة بيضاء لتستشرف القصيدة نبوءة المستقبل ، ويخترق الشعراء حجب الغد .
وكان الشيخ السمحان الكثيري بشماغه الأحمر جعل من مجلته العقيدة في أتون معركة شريفة مع الزحف الأحمر ، والكتاب الاحمر ، واللون الأحمر ، بينما كان مبارك العامري بمصره الأبيض ينثر الزنابق البيضاء ، ويهيء المشهد لبشارات الثمانينيات التي ستجعل قمر ظفار يسكب قمريته البيضاء على سمحان ، والأيائل تغادر الذرى لتشرب من دربات ، وأسراب القطا تحتلب اللبان الحوجري ، والعشاق يملأون المدى من صحنوت إلى ضلكوت تأوهات وعذابات وتشاويق.
كانت هنا مجلة العقيدة … وكان هنا شاب نحيل تخرج من محتويات روازن المساجد والسبلات والبيوت .
جاء إلى سعيد السمحان الكثيري رئيس التحرير يسرج براءاته دونما حاجة لمؤهلات ولا مسوغات للتعيين ، فلم يتردد الكثيري من قبوله صحفيا في مجلته الخارجة للتو من خط النار ، فقد تفرس في الشاب نجابة ، ورأى فيه مشروع فارس نبيل يملك زمام الحروف وعنان الكلمات.
وزكاه نائب رئيس التحرير الاستاذ حسين كريم حين اكتشف أن أطلس لبنان ارتسم في وجدان الشاب النحيل بتضاريسه وثواره وثوراته وبلابله وأغاريده.
وصفق للتعيين مدير التحرير الاستاذ أحمد سليم حين استمع لأنين أمل دنقل في انفاس الشاب المتكيء على هزاله.
وكان الصحفي الاستاذ أحمد تسن في صف المزكين وهو يستمع في دهشة لمداخلة الشاب عن الاسئلة التي غابت عن حوار المجلة مع الشاعر محمود الخصيبي.
:-:-:-:
(( وَرَثْتُ عن أبي أرضاً صغيرةً
في فضاءٍ خالٍ من البنيان
سأزرعُها قمحاً وحِنْطةً
وحُبَّاً وشَتَلاتِ قصائد
وأهِبُها للطيرِ والإنسان
لكنني أخشى عليها
من خفافيشِ العَتْمَةِ
وسُعارِ القطعانِ
حين تغدو خارج السياج))
:-:-:-:
كان غلاف العقيدة يوم دلف مبناها مبارك العامري يدق ناقوس الخطر الأحمر على الخليج ، وكان ضيف ذلك العدد محمد باسندوة وزير الاعلام اليمني ، و كان حديث باسندوة عن الماركسية كأفيون للشعوب ، وكانت صفحات العدد من الغلاف الى الغلاف تصطف جبهة ملتهبة رغم انتصار عمان ، ورغم سياستها التصالحية في نقل الأعداء إلى صفوف الأصدقاء ، الا ان مبارك العامري فضل الخروج من حقول الألغام والبقاء في حقول البنفسج حيث الشهداء يضيفون للون الأبيض نبلا وبهاء.
:-:-:-:
لن تَكْسِرنا المِحَنُ
مادامَ غصنُ الإرادةِ
أخْضَر
وَإِنْ تَهاوَتْ
على رؤوسِ أحلامِنا
حجارةُ الأقربين
قَبْلَ سواهم”
:-:-:-:
وكان الملفت ان العقيدة التي كانت تزدان بالخوذات وبالبزات العسكرية الداخلة والخارجة ، وتتعطر بالبارود باتت بانضمام مبارك العامري لها حقل فراشات وطيور خضر.
وبعد أن كان رجال التوجيه المعنوي أبرز ضيوف مكاتب مجلة العقيدة باتت تفرش سجادا أبيض ليمشي عليه أمير البيان عبدالله الخليلي ، ويحمل أبو سرور الى طاولة مبارك العامري سمائلياته وصباباته ومراوداته الشعرية.
إلا أن العقيدة التي أضاف لها مبارك العامري الكثير لم تقطف ثمار المواسم ، ولم تكن ضمن نيل أوسمة المنتصرين ، فأدارت معاركها الخاصة بالكثير من الخسارات وعلى رأسها خسارة القدرة على الاستمرار لتدخل غيابات المجهول ، ولتنتهي بأن توصد أبوابها في وجه التوجيه المعنوي والساسة ورجال المطبوعات والنشر والشعراء.
وتتحول من دار صحفية إلى مطبعة ثم إلى تفكيك المطبعة والتحول الى معرض لبيع الإطارات وقطع الغيار لتنسجم مع جيرانها من الورش ومحال بيع قطع الغيار ، بينما يخرج مبارك العامري منتصرا ، اسما ومشروعا فينتقل من صحفي يتابع المشهد الثقافي إلى قامة يبحث عن جديدها الصحفيون ويتحول إلى رمز للمشهد وثابت من ثوابته وركن من أركانه .
:-:-:-:
(( سَقَطَ علينا الشِتَاءُ
دُفْعَةً وَاحِدَة
فماذا نقولُ إذاً
عن سِرْبِ عصافير
لا أعشاشَ لها
يُجَمِّدُها البَرْدُ
على ناصيَةِ شَارعٍ
تعوي إزاءَهُ الريح))
:-:-:-:
وحين يؤرخ للصحافة الثقافية في عمان يتلألأ مبارك العامري خريج روازن السبلات رائدا بلا منازع .
وحين توثق مسيرة الرواية تضعه أبا لهذه المسيرة .
كما تباهي قصيدة النثر أن مبارك العامري أحد أصواتها المتحققة .
:-:-:-:
(( هُنَاكَ
حيثُ الشِعْرُ مُقَطَّرَاً
كماءِ الورد
تَعْتِقُ الخمائلُ المُنَضَّدَةُ
رؤوسَنا
مِنْ قبضةِ الضَجيج
وتَرْهفُ اللغةُ
لأنَّ ثمَّةَ ألحاظاً
تجلو كِلْسَ المشَاعرِ
اللابدةِ في القلب))
:-:-:-:
وقبل أن يفترسه المرض كانت قصيدة العامري رمحا ، ورواياته بيانات انتصار ، وبعد أن رقد على سرير الشفاء استمر لهب الحروف واشتعال الكلمات ، وكأنه يقول لنا أن المرض قد ينهش كل خلية فيه إلا أنه لن يقترب من رحم خلايا الكتابة التي ستبقى في مخاض الولادات .
كما أن مرارة الدواء التي تجرعها لسنين لم تندلق قواريرها على صفحات الكتابة ، ولم تضعف حروفه بل أضافت لها الكثير من الرفض ، كما أكسبت الأمصال كلماته المزيد من العناد.
(( أكادُ أنْ أفْقدَ الأمَلَ
بكلِّ شَيْء
بأقربِ الناسِ إليَّ
بجُلِّ الأصدقاء
بالبُرْءِ من المرَض
بالقلوبِ الخضراء
بأيادي الدولةِ
التي توصفُ بأنَّها
بيضاء
بالأوهامِ القُزَحيَّةِ
ووصايا الأسلاف
ببريقِ المباهجِ
ووميضِ العزاءاتِ
وزيفِ الوعود ..
لكنني ،
وياللسذاجَةِ ،
لا أزالُ حتى اللحظةِ
مُتَشَبِّثاً بأردانِ الحُب )).
:-:-:-:
ومبارك العامري المقيم في “مدارات العزلة” ب “شارع الفراهيدي” لديه القدرة ليدور في الكثير من المدارات بدون عزلة.
ويمتلك نواصي الكثير من الشوارع بدءا بشارع الفراهيدي وانتهاء بآخر نص تمرد فيه على الفراهيدي وعلى نفسه.
ورغم كل هذا العمر وهذا الصيت يبقى مبارك العامري ذلك الإنسان البسيط الذي يمد قطيفة نبله في الحياة ليحتوينا في مقاهي “الموج” على عزومة قصيدة بدأت ، ورواية لا يزال يخاتل نهاياتها فلا تنتهي.
:-:-:-:
(( بحثتُ عن الكأسِ
المُتْرَعَةِ بكِ
لأحتسي ،
على مَهَلٍ ،
نبيذَ أعْنابكِ
المخْبوءَ في دِنَانِ
الذاكِرَةِ
لكنني وجدتُ القدحَ
فارغاً
تَكادُ أنْ تُهَشِّمَهُ
يَدُ الغيابِ العَتِيَّة )).
————————
من مقالات كتيبي “أغاريد لمسقط ومطرح”.