ذبل أبو معن فالياسمين الأبيض لا يتفتح في زمن الكمامات ، ولا الورد يشرب محاليل التعقيم ولا البنفسج يتنفس الأجواء المخنوقة بالعزل والحجر الصحي.
وأغمض سعود الدرمكي عينيه فالدروب المظفرة بالتباعد المجتمعي لم تَعُدْ دروبه ، ولا الليالي التي انفضَّتْ “رمساتها” باكراً لياليه ، ولا قناديل الضحك المطفأة قناديله.
وطوال نصف قرن مشى الفنان الكبير سعود الدرمكي محدودب الظهر لأجل أن يضحكنا رغم أنه لم يدخل المستشفى في حياته ليشكو الديسك ، ولا توجع من اعوجاج العمود الفقري حتى الرقدة الأخيرة في زمن الكورونا رغم أنه لم يصب بالكورونا.
وتوكأ أبو معن على باكورته طويلا لأجل أن يعيدنا لشيَّابنا رغم أنه لا مآرب له في العصا بل امتشقها ليهشَّ بها قطعان التعاسة فينا فنبتسم.
وكان أجمل من جسَّد بخلاء “مرو” في خراسان ليكونوا بخلاء كل زمان ومكان يوم حرَّك شخوص الجاحظ من صفحات كتاب البخلاء إلى أدوار كاريكاتورية في الشاشات وهو يؤديها بامتياز.
وقد تابعناه يشم الأنواط ليملأ رئتيه بعطر الريالات وأوكسجين القروش دون أن نسخط عليه ولا تأففنا من سلوكه بل عشقناه كأجمل بخيل يتقن الأدوار بسخاء.
وانقسمنا بين سيماء النبل في وجه سعود الدرمكي وحرفية الشر التي يتقمصها كفنان عملاق فانحزنا للمهنية العالية التي يؤديها كشرير في الدور فينسينا النبيل الذي عهدناه فيه إلى أن يخلع القناع عند آخر شبر في الإستوديو فيعود إلينا ونسترد النبل.
جاء أبو معن إلى التمثيل بأكفٍّ رطبة بطمي الفلج وأظافر موشاة بطين المقاصير وبمصرٍّ تشبقت على “طُرَّته” شوكة شجرة سِدْرٍ و”سلَّاء صرمة مزناج” فنقل سكيك المدن وبيوتها وحقولها وانفعالاتها إلى المسرح والإستتوديو ليكبر بها المشهد ويكبر هو مع المشهد وفي المشهد.
واحترف الإخراج الإذاعي فأبدع في جعل الأصوات المسموعة تشاهد.
وارتدى الفنان سعود الدرمكي العمامة البوسعيدية فكانت تليق به وهو يعطي للأدوار الشامخة البهاء.
وازدان رأسه بالعمامة البيضاء فمشى إلى برزة الوقار لينتزع التبجيل.
و لف رأسه بالمصر فكان الإنسان الذي يمثلنا في الاحترابات اليومية مع الحياة فتعلمنا من شخوص رجل الأعمال طوال نصف قرن أناقة ألوان الدشاديش وأشكال المصار وألوان فصوص الخواتم وسيور الساعات.
لقد رحل سلوم الحافي لتبقى سحارته المكتنزة بالجمال.
ورحل الشايب سلوم لتظل باكورته تمشي لترسم الخطوات.
وكان أهم وأنبل وأبهى وأزهى دور لسعود الدرمكي ذاك الذي أداه بكل اقتدار خارج نطاق “زوم الكاميرات” ودونما كشافات للإضاءة ، ولم ينتطر ليراجع أوراق السيناريو فيحفظ الدور ، لأنه دور سعود الدرمكي الإنسان الذي سنعيشه به لنتوجع ، ونتذكره به فنبكيه.