أصيب العالم بالشلل الكامل قبل عدة أيام وبالتحديد يوم الإثنين الماضي الموافق 4 أكتوبر، وذلك عندما توقفت خدمات (فيس بوك وواتساب وانستجرام) عن العمل بسبب مشكلة فنية تتعلق بالإعدادات الخاصة بهذه المنصات الاجتماعية التي أصبحت ضرورية وأساسية مثل الماء والهواء لدى معظم الناس؛ بل هناك من أدمن هذه الوسائل ويعتمد عليها في كل أمور الحياة، إذ يقضي هؤلاء الرواد ساعات طويلة أمام شاشات الهواتف وأجهزة الحاسب الآلي، كما أن جائحة كورونا قد جعلت من هذه الوسائل قنوات اتصالية مهمة لإنجاز الأعمال والتواصل مع الأقارب طوال العامين الماصيين. وعلى الرغم من أن هذه الأعطال لم تتجاوز مدتها الزمنية بضع ساعات إلا أن آثارها الإعلامية والاجتماعية والاقتصادية كانت كارثية على المستخدمين، خاصة في الجانب الاقتصادي فقد قدرت خسائر شركات التسويق عبر تلك المنصات الجماهيرية بأكثر من 150 مليار دولار، بينما خسرت شركة فيسبوك وأختاها (واتساب وانستجرام) 20 مليار دولار خلال سبع ساعات فقط؛ كما انخفضت أسهم هذه المجموعة العملاقة التي تجاوز رأس مالها مئات المليارات من الدولارات 5% في البورصات العالمية. فهناك أكثر من مليار متسوق يوميًا عبر الفيس بوك وحده.
صحيح هناك من يتهم المراهق الصيني (سن جي سو) الذي لم يتجاوز عمره 13 سنة بتهكير هذه المنصات المعروفة وتعطيلها عن العمل لساعات محدودة. وإن كان البعض يوجه أصابع الاتهام إلى إدارة (فيس بوك) وفريقها الفني الذي يعتقد بأنه وراء هذا العطل لكي يوصل رسالة واضحة إلى المشتركين في أرجاء المعمورة عن أهمية هذه المنصات التي تديرها هذه الشركة العملاقة، خاصة وأن هذا العمل حدث قبل يوم واحد فقط من شهادة المسؤولة السابقة في الفيس بوك (فرانسيس هاوغن) أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في واشنطن حول تجاوزات العملاق الأزرق؛ وفي كل الأحوال هناك اتهامات لهذه المنصة، بتضليل الجمهور، وجني أرباح خيالية من الإعلانات بشكل عام والإعلانات الموجهة للأطفال على وجه الخصوص، وذلك عبر منصة (الانستجرام)؛ وهي بالتأكيد تخالف الأخلاق والقوانين والأعراف التي وضعت والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى حماية المجتمع من المضامين الهابطة والمشاهد والصور الضارة في الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها. ولعل القضية الكبرى التي تواجه (فيس بوك) هي اتهامها بالاحتكار من قبل الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وقبل ذلك أستراليا التي أجبرت الفيس بوك مؤخرا على دفع جزء من أرباح الإعلانات في الأسواق المحلية للحكومة الأسترالية.
وبالفعل في خطوة نحو احتكار المعلومات والسيطرة على سوق الإعلانات في أمريكا والعالم سبق أن استحوذ العملاق الأزرق على أهم منصتين من منصات الجمهور في العالم، هما: الانستغرام (Instagram) الذي يستقطب الجنس اللطيف والمراهقين والأطفال وكذلك محبي الشعر والصور والألوان والفنون بشكل عام، ويبلغ عدد المستخدمين لهذه المنصة أكثر من مليار شخص، وعلى الرغم من أن فيس بوك ويوتيوب وتويتر الأكثر من حيث أعداد المستخدمين، إلا أن الإنستغرام قد تفوق عليها، ليصبح ترتيبه الثالث والأكثر شعبية وانتشارا في معظم دول العالم. وقد كانت الصفقة المدفوعة لشراء هذه الوسيلة الاجتماعية مليار دولار أميركي، وذلك بعد مرور عامين على ظهور (الانستجرام) للوجود.
أما المنصة الثانية فهي تطبيق الواتساب (ًWatsAp ) الذي تم شراؤه بحوالي 19 مليار دولا قبل عدة سنوات، بينما تجاوز رواده حاليا ألفين ومائتين مليون شخص حول العالم. ويعد الواتساب الوسيلة السحرية التي تحوي الكثير من المزايا، فهي الأكثر شعبية والأقل تعقيدا من حيث الاستخدام خاصة لكبار السن. لقد غير هذا التطبيق نمط حياتنا وأخذ الكثير من أوقاتنا، لكونه ينقل وينشر عبر شاشته الصغيرة كل المضامين والرسائل المتدفقة من وسائل التواصل الاجتماعي وتقدر بأكثر من مليار رسالة يوميا، بل هو كذلك منصة أساسية لوسائل الإعلام التقليدية من خلال بث مقاطع الفيديو ونشر مقالات الجرائد التي نطالعها كل صباح عبر الأجهزة الخلوية الذكية التي تعتمد على تقنية اللمس والتي أفرزتها الطفرة الرقمية، فأصبح معظم الناس يتقنونها ويحبونها لدرجة الإدمان.
فهكذا أفرزت ثورة الاتصال والمعلومات عبر أجيالها المتعاقبة ما لم يكن في الحسبان، أو يخطر على بال أحد. ولعل اختراع الإنترنت في أواخر الستينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة، وما حملته من إمكانات معلوماتية عبر ما يعرف بالشبكة العنكبوتية؛ التي تسمح للمستخدم بتصفح الملفات والصفحات المتوفرة على هذه الشبكة العالمية والتي تطورت عبر الأيام تطورا مذهلا. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ هذه التطورات والاختراعات – السالفة الذكر- قد عجلت بظهور ما يعرف اليوم بالمنابر الافتراضية، التي مكنت الجمهور من المشاركة في الحوارات وتبادل الأفكار، ونقل ما يدور في البيئة المحيطة بهم من اهتمامات وأحداث مصورة عبر هذه المنصات الإعلامية على نطاق واسع.
كما تراجعت في الجانب الآخر سلطة الدولة وسيطرتها على مواطنيها ومنافذها الحدودية، وفضاءاتها المفتوحة أمام التدفق الإعلامي والرقمي الذي اخترق هذه الشعوب بلا استثناء، حتى وإن كان هذا التدفق يحمل فكرا دخيلا ومشاهد غير مرحب بها، وهذه هي ضريبة الثورة المعلوماتية.
يبدو لي أن السحر قد انقلب على الساحر حول السيطرة على الإعلام الرقمي، فالبيت الأبيض ومجلس الشيوخ الأمريكي أصبحا عاجزان أمام هذه الوسائل الاجتماعية التي أصبحت تضاهي الدول بإمكاناتها، خاصة العملاق الأزرق الذي تجاوز مستخدموه 3 مليارات شخص، منهم ألفان وثمانمائة مليون مستخدم نشط، وأرباحها السنوية فاقت كل التوقعات، إذ تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، رافعة في ذلك شعار رنان أمام كل من يقف في وجهها فهو حرية التعبير. كما أن التحكم الأحادى بشبكة الإنترنت ورفض المقترح المقدم من البرازيل والهند والصين في العقد الماضي للمشاركة في الإشراف على هذه الشبكة؛ قد كشف عن الوجه المظلم للاحتكار الرأسمالي الذي تقوده أمريكا في مجال السيطرة على المعلومات وتدفقها حول العالم.
صحيح أن الولايات المتحدة يعود لها الفضل في هذا الاختراغ العملاق المتمثل في الشبكة الذي غير ملامح الحياة في هذا الكوكب، ولكن اختيارها للفريق الفني الذي يتولى الإشراف وحصره في دول معينة كأميركا والاتحاد الأوروبي واليابان فقط؛ قد أعطى انطباعا سلبيا حول ذلك الاختيار، كما أن هناك سؤال يطرح من عامة الناس حول مجانية مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يردد البعض عبارة متدوالة على نطاق واسع مفادها “عندما لا تدفع ثمن البضاعة فاعلم أنك أنت البضاعة” ويغيب عن هؤلاء الأرباح الطائلة التي تجنيها هذه المواقع من الإعلانات وكذلك اشتراكات خدمات الإنترنت الشهرية (ًWi-Fi).
وفي الختام، أجمعت الدارسات العلمية على خطورة إدمان وسائل التواصل الاجتماعي لساعات طويلة للجمهور من جميع الأعمار، فهناك أضرار جسمية ونفسية يتعرض لها المستخدم بدون أن يشعر من جراء الإفراط والتسمر أمام شاشات تلك الأجهزة المشعة، لاشك أن الإنسان اليوم لا يستطيع الاستغناء عن متابعة الأخبار والتواصل مع الآخرين ولكن يجب أن يكون ذلك في الحدود المعقولة.
د. محمد بن عوض المشيخي – أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري