يشكلُ الأمنُ الغذائي الهاجسَ الأكبر للشعوب في أوقات الأزمات؛ لكونه الملاذ الآمن من خطر المجاعة التي قد تجتاحُ الدول التي لا تضعُ استراتيجياتٍ مبكرة وخططًا واضحةَ المعالم للإنتاج الزراعي والسمكي وتنمية الثروة الحيوانية الوطنية، فبدلًا من ذلك تعتمد بشكلٍ جزئي أو كلي على الاستيراد من الخارج، والدولة التي لا تستطيع إطعام شعبها لا تملك قرارها السيادي، بل تخضع للجهات التي تُصدِّر لها قوت يومها
ويتمثل الأمن الغذائي المتكامل في قدرة أفراد المجتمع على إنتاج سلة الغذاء التي تكفي أو تزيد قليلًا عن الاستهلاك المحلي للمواطنين، وقد حبا الله عمان بمزايا وخصائص فريدة لا تملكها كثيرٌ من دول العالم، حيثُ يبلغ طول الشواطئ العمانية أكثر من ثلاثة آلاف كيلو متر، وتُطِلُّ على المحيط الهندي، وبحر عمان، والخليج العربي، وهذه السواحلُ المترامية الأطراف أتاحت للسلطنة أن تُنتِجَ العام الفائت أكثر من نصف مليون طن من الأسماك، وهي كمية تكفي للاستهلاك المحلي، ويتم تصدير الفائض منها إلى الخارج، فإذا كنا قد حققنا الاكتفاء الذاتي في الثروة السمكية فهناك قطاعات أخرى عديدة نفتقد فيها إلى الحد الأدنى من الأمن الغذائي، أو ما يُعرَف بالاكتفاء الذاتي، حيث احتلت السلطنة المرتبة الخامسة خليجيًّا، والسادسة والأربعين عالميًّا، وَفْقَ مؤشر الأمن الغذائي العالمي لعام 2019م، وهذا يشير إلى تراجعنا عن الترتيب في المقاييس العالمية ذات السمعة العالية، خاصةً في بعض عناصر التقييم المتعلق بعناصر الأمن الغذائي، وبشكلٍ عام ارتفع الاكتفاء الذاتي في البلاد، ووصل إلى أكثر من 60%، ولكن هناك بعض الاحتياجات الأساسية دون المستوى المطلوب، على الرغم من وجود شركات حكومية تعمل بجهود مضاعفة ؛ لتحقيق الأهداف الوطنية في هذا المجال . فعلى سبيل المثال تستورد السلطنة 70% من الحليب ومشتقاته من الخارج، كما يبلغ الاكتفاء الذاتي من اللحوم حوالي 35% فقط، على الرغم من وجود أكثر من ثلاثة ملايين ونصف (3.5 مليون) رأس من الحيوانات الحية في مختلف مناطق السلطنة، خاصةً في محافظة ظفار، ففي عامٍ واحد (2018م) نفقت حوالي 23 ألف رأس من الحيوانات في محافظة ظفار لوحدها، ويعود السبب في ذلك إلى تفشي بعض الأمراض في الأرياف ؛ مما أدى إلى نفوق أعداد كبيرة من الأبقار والإبل و الأغنام، في غياب حلولٍ جذرية من الجهات المختصة، نحو القضاء على هذه الأوبئة التي تستنزف الثروة الحيوانية
أما في مجال الإنتاج الزراعي فتبلغ المساحة الصالحة للزراعة حوالي 5.5 مليون فدان، في حين تبلغ المساحة المزروعة (259) ألف فدان فقط عام 2019م، في حين يبلغ إجمالي المحاصيل الزراعية حوالي ثلاثة ملايين طن في السلطنة، منها (369) ألف طن تمور عمانية،
محليًّا الآمال معقودة على استزراع الصحاري العمانية التي تتوفر فيها المياه العذبة لتحقيق الاكتفاء الذاتي؛ لتوفير سلة غذائية متكاملة؛ لتأمين احتياجات المجتمع من الفواكه والخضروات والحشائش والحبوب والتمور وغيرها من المنتجات الزراعية. وتأتي منطقة (نجد) بمحافظة ظفار ضمن المناطق الواعدة التي جذبت أعدادًا من المواطنين الذين استصلحوا الأراضي القاحلة وحوَّلوها إلى جنةٍ خضراء يحصدون منها آلاف الأطنان من مختلف المحاصيل الزراعية، ويتم تصديرها إلى منافذ التسويق في مختلف مناطق السلطنة والدول المجاورة
وتعود قصة مزارع (النجد) إلى اكتشاف أحد المواطنين وفرة المياه في هذه المنطقة في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ثم بادر أبناء الولايات المجاورة وبعض المستثمرين من محافظة ظفار بإنشاء المزارع وحفر الآبار عبر العقود الماضية، صحيحٌ أن هناك حاليًّا مناقشات جادة بين الجهات الحكومية المختصة بتملُّك أو تأجير هذه الأراضي التي أصبحت مزارعَ متكاملة، والمزارعين الذين أثبتوا جدارتهم في رفد الأسواق العمانية بهذه المحاصيل ذات الجودة العالية، ولكن يبقى الهاجس الأكبر للجهات الرسمية هو العمل على تفعيل القوانين والأنظمة المتعلقة باستثمار الأراضي الزراعية للحيلولة دون وقوع ما يُعرَف بالعشوائيات التي تُشوِّهُ المنظر العام، وتمنعُ وصول الخدمات الحكومية بسهولةٍ ويُسْر كالشوارع والكهرباء والمياه إلى هذه المنطقة في المستقبل
وتتمتع السلطنة بموقع جغرافي مثالي بين قارات العالم، خاصةً قارتَيْ آسيا وأفريقيا، كما تمتلك أفضل ثلاثة موانئ في المنطقة كموانئ (صلالة) و(صحار) و(الدقم)، والتي تقع جميعها خارج مضيق هرمز والخليج العربي، وعلى الرغم من ذلك تعوَّد كثيرٌ من التجار العمانيين على الاستيراد عبر طرفٍ ثانٍ وثالثٍ من الدول الأخرى، متجاهلين أهمية استيراد البضائع والسلع من مصادرها مباشرةً، وما يترتب عليها من فوائد اجتماعية وسياسية وأمنية؛ تعود في النهاية بالفائدة المرجوة على الاقتصاد الوطني. وها نحنُ نرى صحوةً بين تجار السلطنة هذه الأيام، خاصةً أولئك الذين أدركوا أخيرًا أهمية الأمن الغذائي بعد عقودٍ من الجهل أو التجاهل للمرافق اللوجستية ذات المستوى العالمي في هذا البلد العزيز
وفي مجال تأمين المواد الغذائية الأساسية للسلطنة، تقوم الهيئة العمانية العامة للمخازن والاحتياطي الغذائي إلى جانب تجار الجملة، بتخزين هذه المواد الضرورية لمدة ستة أشهر، وذلك لتزويد الأسواق المحلية باحتياجاتها من المواد الغذائية الاستهلاكية عند الضرورة. فقد كشفت الهيئة قبل أسابيع قليلة عن تعاقدها لشراء عشرة آلاف طن من السكر الأبيض، ومثلها من الأرز، إلى جانب 45 طنًّا من العدس الأحمر كإجراءٍ احترازي في ظل أزمة كورونا، ولكن قد لا تكفي الكميات التي تحتفظ بها السلطنة حاليًّا لسنةٍ قادمة عند انقطاع أو منع تصدير هذه المواد الغذائية من بلد المنشأ كالهند وباكستان وجنوب أفريقيا والبرازيل، والتي تعتمد عليها السلطنة في استيراد الأرز والسكر والعدس، وتشكل عصب الحياة في دول الخليج
عالميًّا تُعرِّف المنظمات الدولية المختصة الأمن الغذائي بأنه تمكُّن جميع الأفراد في كلِّ زمان ومكان من الحصول على الغذاء الكافي ماديًّا واقتصاديًّا، طعامٍ آمنٍ ومُغذٍّ لتلبية احتياجاتهم الغذائية، وتوفير طعامهم المُفضَّل، وذلك لضمان حياة فعالة وصحية . وللأمن الغذائي أربع ركائز أساسية هي الإتاحة، والاستخدام، والاستقرار، والوفرة، وتتمحور هذه الركائز حول الإنتاجية المتمثلة في امتلاك الأرض، واختيار المحاصيل وزراعتها، ورَعْي الحيوانات، وتدعو الركيزة الثانية إلى سلامة الطعام ومناسبته لاحتياجات المستخدمين له جسديًّا، في حين يمثل استقرار الغذاء القدرة على الحصول عليه بشكلٍ دائم دون انقطاع، فالأزمات والحروب تعمل على عدم استقرار الأسواق وارتفاع أسعار المحاصيل بشكلٍ مُفرِط، وتتسبب عوامل أخرى في انعدام الأمن الغذائي كانتشار الأوبئة، مما يترتب عليه توقف الإنتاج مؤقتًا، كما تركز إحدى هذه الركائز، على تأثر إنتاج المحاصيل بأحوال المناخ كالأمطار والحرارة والماء، وكذلك تعرُّض الأراضي للتصحر وجَرْف التربة؛ نتيجةً للتوسع العمراني للمدن
وفي الختام، وسط هذه الأجواء الملبدة بغيوم كورونا، وأزمة انخفاض أسعار النفط، والخوف من وقوع الأسوأ في المستقبل ؛ لكون العالم يعيش زمن الأزمات، نتطلع إلى إنشاء جمعيات تعاونية استهلاكية في المدن والقرى العمانية، تتولى بيع المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، على أن تُوضَع لها قوانين وتشريعات تحدد أهدافها واختصاصاتها، وتدار من قبل أعضاء هذه الجمعيات كل في المنطقة التي تقع فيها فرع الجمعية، ويُسمَح لها بالاستيراد المباشر من الخارج، وتُوفَّر لها مخازن كبيرة لتخزين المؤن الغذائية، خاصةً السلع الاستهلاكية، ويتولى إدارتها الباحثون عن عملٍ من الشباب العمانيين، ومع مرور الأيام ستكون هذه الجمعيات التعاونية البديل الأمثل عن الشركات الإقليمية العابرة للقارات التي تسيطر بالكامل على أسواقنا المحلية، ويملكها وافدون ومستثمرون أجانب، في معظم المجمعات التجارية، وقد أثبتت أزمة كورونا والأنواء المناخية عدم اكتراث أصحاب هذه الشركات بأحوال المواطنين وأوضاعهم المعيشية.
د.محمد المشيخي
السبت، ١٨ أبريل / نيسان ٢٠٢٠م