أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي (ت: 845هـ/ 1442م) مؤرخ مصري، وُلد في القاهرة بعد سنة 760هـ، وعاش خلال القرنين السادس والسابع الهجريين/ الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين. يُنسب إلى أصله العائد لحارة المقارزة إحدى حارات مدينة بعلبك اللبنانية. عُرف المقريزي بغزارة انتاجه العلمي كماً ونوعاً. فتجاوزت مؤلفاته مائتي كتاب، وتنوعت في علوم ومعارف مختلفة، كالتاريخ، والفقه، والعقيدة، والكيمياء. ويمكن للقارئ الاطلاع على كتاب: (رسائل المقريزي) ليتبين له ذلك التنوع، فمن عناوين ما تضمنته رسائله: التنازع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، والنقود القديمة الإسلامية، والإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء، ونَحْل عِبَر النَحْل، وحرص النفوس الفاضلة على بقاء الذكر. وعموماً من أشهر مؤلفات المقريزي التاريخية: السلوك لمعرفة دول الملوك، واتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، والمواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار، والمعروف بالخِطط المقريزية، أو خِطط المقريزي، وهو بصفة جامعة يتحدث عن التاريخ العمراني والطبوغرافي لمدينة القاهرة.
ومن أشهر مؤلفاته الاستثنائية في التاريخ الاجتماعي الاقتصادي كتاب: إغاثة الأُمة بكشف الغُمة، وهو كتاب عن تاريخ المجاعات في مصر. وقد ذكرني هذا العنوان بالمؤرخ العُماني الأزكوي (ت: ق 12هـ/ 18م) ومؤلفه: كشف الغُمة الجامع لأخبار الأُمة.
عند الاطلاع على مؤلفات المقريزي التاريخية تجده عاشقاً لتخصصه، وتلمس حبه وتماهيه مع التاريخ، يقول في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار:”… فإن علم التاريخ من أجل العلوم قدراً، وأشرفها عند العقلاء مكانةً وخطراً، لما يحويه من المواعظ والإنذار، بالرحيل إلى الآخرة عن هذه الدار، والاطلاع على مكارم الأخلاق ليُقتدى بها، واستعلام مذام الفعال ليرغب عنها أولو النهى، لا جرم أن كانت الأنفس الفاضلة به وامقة، والهمم العالية إليه مائلة وله عاشقة. وقد صنّف فيه الأئمة كثيراً، وضمّن الأجلة كتبهم منه شيئاً كبيراً”.
ومما أشار إليه المقريزي من الأهداف والفوائد والأهمية لدراسة التاريخ عموماً: “… يستدلون به على عظيم قدرة الله تعالى في تبديل الأبدال، ويعرفون به عجائب صنع ربنا سبحانه من تنقل الأمور إلى حال بعد حال”. وهو يذكرنا بما أورده أيضاً شيخه وأستاذه ابن خلدون (ت: 808هــ/ 1405م) في مقدمته: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال.وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول”. ونحن في هذه الجائحة الوبائية (كورونا) يلمس الجميع بشكل شخصي وواقعي تبدل الأحوال، وبعد تقادم الزمن عليها وعلينا سيدرك اللاحقون ذلك.
أما الرؤوس الثمانية المرتبطة بالمقريزي فما هي إلا ملامح منهجه في كتابة مؤلفاته عموماً، وكتابته التاريخية على وجه الخصوص، وهي التي قادتني للقراءة بعمق عن هذا المؤرخ الفذ الملقب بمؤرخ الديار المصرية. وهذه الرؤوس الثمانية ذكرها المقريزي في مقدمة كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار، وهي: الغرض (الهدف)، والعنوان، والمنفعة (الفائدة)، والمرتبة (عقلي/ نقلي)، وصحة الكتاب، ومن أي صنف هو، وكم فيه من أجزاء، وأي أنحاء التعاليم المستعملة فيه. وقد أوضح تفصيلاً معنى ومقصد تلك الرؤوس. وسنتجاوز الرؤوس السبعة الأولى لنوضح قليلاً الرأس الثامنة كونها تُمثل منهج المقريزي في الكتابة التاريخية، ففي أنحاء التعاليم يقصد منهجه في أخذ المعلومة، فيقول: “فإني سلكت فيه ثلاثة أنحاء، وهي: النقل من الكتب المصنفة في العلوم، والرواية عمن أدركت من شيخة العلم وجلة الناس، والمشاهدة لما عاينته ورأيته”. ويُضيف المقريزي: “فأما النقل من دواوين العلماء التي صنفوها في أنواع العلوم، فإني أعزو كل نقل إلى الكتاب الذي نقلته منه، لأخلص من عهدته وأبرأ من جريرته… وأما الرواية عمن أدركت من الجلة والمشايخ، فإني –في الغالب والأكثر- أصرح باسم من حدثني، إلا ألا يحتاج إلى تعيينه، أو أكون قد نسيته، وقل ما يتفق مثل ذلك. وأما ما شاهدته، فإني أرجو أن أكون –ولله الحمد- غير متهم ولا ظنين”.
ختاماً: إن المتأمل قليلاً فيما ذكره المقريزي عن منهجه في نقل المعلومة أياً كان شكلها وفي أي قالب جاءت يوضح شدة حرصه، ومصداقيته، وأمانته التاريخية. وهو بذلك يقدم لنا درساً عميقاً وبليغاً عن المسؤولية والأمانة العلمية التي ينبغي أن نتحلى بها جميعاً. كما أنه يقدم بشكل غير مباشر العذر لمن يسهو أو ينسى -مرة وليس مرات- عن الإشارة إلى مصادره.
المصادر:
- المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي (ت: 845هـ/ 1442م). المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار. تحقيق: د. محمد زينهم ومديحة الشرقاوي، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة: 1997م.
- ـــــــــــــــــ. رسائل المقريزي. تحقيق: رمضان البدري وأحمد مصطفى قاسم، ط1، دار الحديث، القاهرة: 1998م.
د. أحلام الجهورية