ينطلق تناولنا للموضوع من السيناريوهات المفترضة في التعاطي مع مرحلة ما بعد تقاعد الكفاءات الوطنية بناء على التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه، بالتعميم الديواني رقم (6/5/ 2020) الذي أصدره معالي السيد وزير ديوان البلاط السلطاني والذي قضى في البند رقم(2) منه على إحالة ما لا يقل عن (70%) من الموظفين العمانيين شاغلي وظائف( مستشار/ خبير/ مدير مختص) بكافة الوحدات الحكومية المدنية دون استثناء إلى التقاعد ممن أكمل في الخدمة (25) سنة فأعلى، والبند رقم (3) إحالة ما لا يقل عن (70%) من موظفي كافة الوحدات الحكومية المدنية دون استثناء ممن تجاوزت خدماتهم (30) سنة إلى التقاعد.
عليه يأتي طرحنا لهذا الموضوع من زاويتين، الأولى، أننا مقبلون على مرحلة جديدة واستحقاقات وطنية قادمة تصنعها الكفاءة العمانية وتبنيها الروح المعطاءة والإرادة الواعية لأبناء عمان المتقاعدين ، بما تستدعيه عملية إدارة هذا الملف التقاعدي من تحولات على مستويات البناء والتنظيم والتفعيل والرصد والمتابعة والاستجابة والتصحيح وإعادة الهيكلة واستشعار الهاجس وصناعة البدائل وبناء منصات حوارية وضمانات ومساحات تقرأ المعطيات والسيناريوهات التي تتجه خطط العمل الوطنية المقبلة نحوها ، وتضعها صناديق التقاعد الوطنية بمختلف قطاعاتها والمؤسسات المالية والبنك المركزي العماني والبنوك التجارية أو البنوك الاستثمارية والتمويلية وغيرها، أمام متابعة ورصد وتحليل وقراءة معمقة، تستوعب متطلباتها المالية وتتخذ من الإجراءات المرنة والقرارات الداعمة ما يوفر لمساحات أوسع للتثمير في هذا المورد الوطني وتحفيزه وترقية الممارسة الوطنية نحوه وخلق رؤية وطنية متكاملة كفؤة قادرة على إعادة انتاج متطلبات هذا الملف وفق المستجدات القادمة، وتيسير إجراءات العمل والتقليل من فاقد العمليات المتكررة، وتوفير البرامج الالكترونية والأنظمة الرقمية في الاستجابة الفورية تتناسب مع التطورات العالمية في المجال، بالإضافة إلى إعادة انتاج ثقافة العمل لهذه المؤسسات بشكل اكثر مرونة وسلاسة وابتكارية يضمن قدرتها على التعامل مع مستجدات الواقع، مستفيدة من التقنية المتقدمة والذكاء الاصطناعي والفضاءات المفتوحة في تقوية تواصلها مع المتقاعدين.
هذا الامر من شأنه أن يعزز مسارات الثقة ويرفع سقف التوقعات، ويقدم المزيد من الحوافز للمتقاعدين ويقوي من منصات الشراكة بين الصناديق أنفسها، وقدرتها جميعا على بناء جسور الاتصال مع الكفاءات الوطنية المتقاعدة، ورسم فرص نجاح أكبر لها في ظل وجود بيئة مؤسسية ناجحة تستوعب التغيير، وبيئة تشريعية كفؤة عادلة ومتناغمة مع مستجدات الواقع ومتواكبة مع عمليات التطوير والتحديث والتجديد في منظومة التقاعد واستراتيجيات العمل وأدواته والياته وطرائقه وأولوياته والتحديث المستمر لقواعد البيانات والمعالجة الفورية للإخفاقات، والاستجابة الفاعلة لأي مستجدات تفرضها الظروف بما تتسم به من مرونة وشفافية وتحسين في الأداء والخدمة التقاعدية، إذ من شأن قدرة الصناديق التقاعدية على صناعة التحول في مسارها وأدوات عملها والياتها، أن يسهم في تعزيز الثقة مع المتقاعد لقبول ثقافة التقاعد وترقية مفاهيمها وفلسفة عملها لديه ورسم ملامحها الإيجابية في مستقبل حياته، كون التقاعد ليس نهاية المطاف وليس نهاية الإنتاجية والحياة؛ بل مرحلة متجددة لهندسة الذات والسمو بالقدرات وتأصيل الثقافة وصناعة الالهام وفتح الآفاق في عالم رحب واسع، وتوجيه الذات لتوليد البدائل والدخول في شراكات واسعة، وإعادة التفكير في الممارسة بطريقة أكثر مهنية وابتكارية خارج إطار الوظيفية الحكومية وما يختلجها أو يغلفها من روتين أو رتابة أو تعانيه من تحديات ظروف ومعطيات ومتغيرات ترجع إلى المؤسسة التي ينتمي إليها الموظف أو الوظيفة ذاتها أو بيئة العمل أو السلوك الإداري وثقافة الممارسة الإدارية وغيرها كثير.
وبالتالي أن تشهد المرحلة المقبلة تحولات جدية مصاحبة للتقاعد عبر حزمة متكاملة من الموجهات والقرارات والتعاميم والمفاوضات مع البنك المركزي والبنوك التجارية والصناديق التمويلية في إيجاد بدائل ووسائل معالجة عادلة، وسياسات حكيمة في عملية تسديد أو الاعفاء من القروض الشخصية والاسكانية لهذه الفئات وجدولتها حسب ضوابط معينة، ومن خلال تبني سياسات عمل واضحة وتشريعات عادلة وأدوات ميسرة داعمة، تقرأ وضع المتقاعدين وتلبي طموحاتهم وأولوياتهم في العمل الحر والمشروع الخاص، وتدرس احتياجاتهم وأوضاعهم لما بعد التقاعد، مما قد يكون حاضرا بعد فترة في رغبة المتقاعدين في العمل الخاص والاستثمار في الأنشطة الاقتصادية التجارية والصناعية والسياحية والتعليمية ودخولهم في قطاع الخدمات اللوجستية وغيرها، بما يؤكد أهمية سد منافذ البيروقراطية والتعقيد الحاصل في الإجراءات وعقدة التنسيق بين المؤسسات، وما صاحبها من رتابة وتكرار للعمليات الداخلية بالمؤسسات وزيادة الفاقد في الأداء مما أضعف هاجس الاهتمام لدى المواطن في الاستثمار والدخول في هذا المجال؛ وأن تبادر صناديق التقاعد وجهات المراقبة والمتابعة لأحوال المتقاعدين في تثبيت هذه المهمة كجزء من اختصاصاتها القادمة ، إذ من شأن ذلك أن يقلل من أي فرص للتكهنات والاندفاعات والأحكام المسبقة والمشاعر النفسية غير الايجابية التي يمكن أن تظهر في تعاطي المواطن المتقاعد وتعبيراته الوصفية والكلامية وتغريداته في منصات التواصل الاجتماعي وردود أفعاله حول جهود الحكومة وتوجهاتها وتقييمه لما تتخذه من إجراءات أو تقرّه من تشريعات وأحكام، أو تصدره من قرارات، فإن شأن هذه التوجهات المبتكرة أن تصنع مفهوما أخر للتقاعد قائم على تقدير إنسانية الانسان وكرامته، وتوليد مفهوما أعمق لمكافأة المخلصين لهذا الوطن الغالي، وتعزيز صناعة القدوات في كل مواقع العمل والمسؤولية، وأن صلة المواطن بالدولة والمؤسسات والحرص على أن يكون لبنة صالحة في هذا الوطن الغالي، داعما لتوجيهات القيادة الحكيمة، عاملا بها، منفذ لمقتضاها، واضعا إياها موضع الاهتمام والطاعة والتقدير، حريصا على المساهمة الفاعلة في وطنه؛ لا يرتبط بكونه على رأس الوظيفة، كونها ليست الرابط الوحيد للمواطن بالدولة ، فهناك روابط أخرى تصنع لها حضورها في حياة المواطن، ومعنى ذلك أننا على تفاؤل بأن نشهد توجهات ايجابية للحكومة تعيد النظر في الكثير من الممارسات السابقة، وتعالج الكثير من التحديات المتعلقة بهذا الجانب والمفاهيم المغلوطة التي قد تثار من المتقاعدين أنفسهم أو حولهم من المجتمع، وعلاقة المواطن بالدولة ، كل ذلك وغيره مرهون بقيام المؤسسات جميعها بدور استثنائي قادم في احتواء هذه الكفاءات وادماجها في البيئة المجتمعية، والدخول بالمواطن المتقاعد إلى كونه شريك استراتيجي وطني داعم للحكومة في سعيها نحو تحقيق وفرة مالية وتوازنات اقتصادية وبناء عمان المستقبل، وأهمية حضوره واسهامه فيها كل بحسب طاقاته واستعداداته مستفيدا من الرصيد المهني والثراء الخبراتي الذي تكوّن لديه في أثناء العمل ليترك بصمة انجاز مستمرة في حياته المجتمعية القادمة.
أما الزاوية الثانية من حديثنا فتبدأ من حيث انتهت إليه الأسطر السابقة، فإن التوقعات القادمة هو أن يكون لهذه الكفاءات ثقلها وحضورها الواسع في الواقع الاجتماعي واحداث نقلات نوعية فيه ليس على المستوى الاقتصادي وعبر الدخول في أنشطة اقتصاديه: تجارية وصناعية ونشاط متوقع للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة لدخول المتقاعدين فيها كما أشرنا لذلك؛ بل أيضا في دخولها وارتباطها بأنشطة اجتماعية أخرى ترتبط بتعزيز مساحات الوعي المجتمعي وبناء أصيل لثقافة التطوع والعمل الاجتماعي الحر وتقوية الشبكات الاجتماعية الداعمة للعمل في الظروف والمتغيرات ( فرق الإغاثة والاسعاف والايواء والدعم ) بالإضافة إلى ما يمكن أن تقدمه في ظل تعدديه الخبرات والتجارب من ترقية وعي المجتمع وحسه الوطني وزيادة الجرعات التثقيفية والتوعوية بين أبنائه، وإعادة انتاج للتركيبة المجتمعية الحاصلة فيما يتعلق بمسار التفعيل للكثير من المنصات الهامدة والأنشطة الهاملة والتي لم تجد في الفترة السابقة لها أي فرصة في البروز نظرا لارتباط المتقاعدين بأعمالهم الحكومية وبقائهم في مناطق عملهم أكثر من مناطق سكنهم، وبالتالي فإن وجود هذه الكفاءات سوف يضمن تحولات على مستوى الوعي والأداء الاجتماعي والثقافة المجتمعية، ويقلل من حالة الاختلال الناتج عن نقص الكفاءات في الولايات نظرا لهجرتها إلى مسقط، ناهيك عن أن هذه الفئة من المتقاعدين تضم من بينها فئة أربعينية وخمسينية شابة منتجة تمتلك من القدرات والاستعدادات والجاهزية والصبر والتحمل والفرص الذاتية ما يعزز من شغفها وحب المغامرة والتحدي ورغبة العطاء والانجاز لديها في ظل انتفاء مسببات الضغط الوظيفي أو الالتزام الرسمي – في العمل الوظيفي الحكومي- بما يفتح المجال لصناعة انجاز يفوق التوقعات، ليستلهم قوته من حس الذات ورغبة النفس معززة برصانة الخبرات والتجارب ليجد فيها المتقاعد ذاته ويعبر خلالها عن إرادته وقناعاه وفكره بدون أي ضغط ، لذلك فإن التوقعات بأن النتائج ستكون واقعية مبهرة وتتسم بالمصداقية والشفافية وتعبر عن واقع ملموس وشواهد حيه، وهنا يكمن موطن التحول القادم في قدرة هؤلاء على انتاج مسارات عمل متقدمة للنهوض بالمجتمع وعبر تشكيل جمعيات تعاونية، وتفعيل دور الفرق الرياضية والشبابية وتأسيس الجمعيات الخيرية نظرا لتواجد العدد الكبير من الخبرات والكفاءات في الولايات خارج محافظة مسقط، وبالتالي فمع التوقعات الإيجابية بما يمكن أن تحمله المرحلة المقبلة من فرص سوف يكون لها أثرها في البناء المجتمعي وتفعيل وتنشيط الأجندة الهاملة فيه؛ فإن ذلك يستدعي أن تجد في المقابل ما يحتويها في واقع العمل الوطني ويصنع لها حضور انجاز في مسيرة التقدم المأمولة ، وبمعنى آخر أن تجد هذه الكفاءات في أجندة المؤسسات ومنظومة التشريعات والقوانين وتنظيم وإعادة هيكلة سوق العمل الوطني القادمة، مساحات لها للعمل والعطاء والإنتاجية، عبر توفير البيئة الوطنية الجاذبة والداعمة لهذه الفئات في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وفتح المجال لها في إدارة وامتلاك المشاريع الاقتصادية والاستثمارية كنتاج للخبرة الوطنية التي اكتسبتها على مدى (25) عاما فأكثر، وهي فترة كفيلة بإنتاج نوعي يظهر على الأرض ونشاط استثنائي يقوم به المتقاعدون خارج جلباب المؤسسات، بما يؤكد أهمية إعادة النظر في كل التوجهات السابقة المتعلقة بأنشطة وإجراءات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والشروط التمويلية لها من بنك التنمية وصندوق رفد ، لتدخل في هذا الجانب صناديق التقاعد الوطنية لموظفي الدولة في توفير القروض الميسرة للمتقاعدين والداعمة لهم في إقامة مشروعاتهم الاستثمارية والإنتاجية وتوظيف خبراتهم فيها.
أخيرا تبقى هذه اللطائف، محطات لاستجلاء الأمر وقراءة الوضع وإزالة اللبس والتكهنات الحاصلة حول الموضوع ، فعمان الإنسانية لن تترك أبنائها بعد أن أنجزوا وقدموا وأخلصوا وبذلوا وضحوا وأعطوا وسموا في عطائهم وانجازهم في ظل ظروف صعبة وأوقات عصيبة وتحديات جسيمة في سبيل عمان ونهضتها وسلطانها وأمنها وسلامها وتقدمه وازدهارها، لن تتركهم بدون احتواء كما يتصور البعض، أو كما يصوّر البعض ما يمكن أن يعيشه المتقاعدون في حياتهم المعيشية القادمة، فإن الثقة التامة والتسليم المطلق بالتوجيهات السامية لمولانا وسيدنا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه، تضع أبناء عمان المتقاعدين امام استشراف قادم بمستقبل يضيء فرحا ويبتسم إشراقا، يحفظ لهم مساحات العطاء نشطة، ومنصات الإنجاز ممدودة الأثر، مبهرة الغرس، نظرة باهية مشرقة في عين القيادة الحكيمة ورعايتها وصدق رؤيتها، وعاطر نطقها السامي عطاءً غير مجذوذ، ألم يقل حفظه الله ورعاه في خطاب عمان المستقبل : ” وإننا إذ نعاهد الله عز وجل، على أن نكرس حياتنا من أجلِ عُمان وأبناء عُمان ؛ كي تستمر مسيرتُها الظافرة ، ونهضتها المباركة ، فإننا لندعوكم لأن تعاهدوا الله على ذلك ، ونحن على يقين تام ، وثقة مطلقةٍ بقدرتِكم على التعامل مع مقتضيات هذه المرحلة والمراحل التي تليها، بما يتطلبه الأمر من بصيرة نافذةٍ وحكمةٍ بالغة وإصرار راسخ وتضحيات جليلة “.
د. رجب بن علي العويسي