المسار: (جبل ضوي-سنوت-شوحطان-جبل الجرار-الميحة)
هناك حيث الحاجز الجبلي الشرقي لوادي السحتن الذي يحتضن بين شقوق صخوره نبتة الزعتر (السعتر) العطرة، هناك حيث شجرة البوت تزوّد مرتادي الجبال بقوتٍ ملؤه الطاقة واللذة، حيث الطبيعة البكر، شاء الله أن اجتمع مع نفرٍ من السحتنيين لنسبر ما يحوياه “سنوت، وشوحطان” في هذه الفترة الصعبة من السنة، وأقول صعبة لحرارة الشمس نهارًا، وزيادة خطر الأفاعي وما شاكلها بسبب خروجها من بياتها الشتوي.
عند عقبة جبل ضوي بدأنا مشوارنا بقيادة “هلال البسامي” والشغف يملؤ عقلي لأفهم تفاصيل حياة رعاة الأغنام في أعالي الجبال من أحد أفراد الرحلة وهو “سعيد النصيبي”.
أثناء المسير كنت أرقب أفعاله وأحاول أن اسمع ما يقول رغم أن صوته خافت، وكلامه رمزي، في معظمه وبالكاد أفهم ما يعنيه، وعلى كل حال كانت خطواتنا متناسقة، مستمدين طاقتنا من ثمرة البوت، وحماسنا من عيدان الزعتر، والرعد يسبح بحمد الله رغم بُعد الأمطار عنا (جهة محافظة الداخلية)، حثينا المسير مرورًا على شرق المتقاهرات (وقد أوردت شرحا مفصلا عنها في تقرير سابق) وما بعدها من دروب وقبيل المغرب وصلنا “جباة العلعلانة” وهي عبارة عن برك مائية على رأس “وادي سنوت” في شقٍّ يتوسط جبلين لذلك قررنا أن يكون عشاءنا، ومبيتنا في نفس المكان.
تناوب الرفاق في تجهيز عدة العشاء، والسباحة في البرك المائية بينما تولى “هلال” طبخ لحم التيس فأكلنا ما احسبه من ألذ الوجبات التي أكلتها في الجبال وعندما حان وقت المبيت كان الجميع يدرك كراهة المبيت عند موارد المياه ولكن لصعوبة وجود موقع مبيت بالقرب من موقعنا قررنا المبيت عند الجباة، وترجع أسباب تحاشي الأسلاف للمبيت عند هذه الموارد لحاجة الطيور، والحيوانات للشرب من هذه الموارد فإن احست بوجود بشر في المكان ستنفر بعطشها، كذلك لكثرة الافاعي السامة التي تزحف نحو هذه البرك للتبرد، والشرب، وصيد الضفادع، وهناك أسباب اخرى بعضها واقع وبعضها من نسج خيال الاساطير (من وجهة نظري).
قبيل النوم سهرنا على احاديث القدماء، وما سطرته أناملهم، وتناقلته ألسنتهم، وعن خفايا، وأسرار الجبال، وكعادة العرب الأقحاح فلابد من سرد قصص السحر، والجن، وأنا مستمتع بسرد القوم، وطريقة استدعائهم للماضي بتفاصيل شيقة، وسرد جميل، وبعد مشوار طويل من الأحاديث لمح “عُدي” أفعى سامة كانت بالقرب منا أجهز عليها “عبد الله” بعد أن سيطر عليها “هلال” بمنسأته، وعند الصباح الباكر وجد “سعيد” أفعى تشبه الأولى ولم يتوانى “هلال” كعادته عن قتلها.
بعد تناول وجبة الريوق اتجهنا نحو “ديّر سنوت” وهو مسكن لأحد الرعاة قديما واسمه “رشيد الحاتمي”-رحمه الله- ومن بعد هذا المسكن توجد شرجة تنحدر من الشرق، وترفد سنوت ولعل رأسها في جبل القصر، وفيها بركة مائية تسمى “جباة الحمير”، فقررنا أن تكون قهوتنا، واستراحتنا فيها وقد ادهشنا ما رأيناه من نقوش قديمة نُحتت في صخور الصفوان المحيطة بالبركة، وترجع لآلآف السنين (حسب كلام المختص حارث الخروصي بعدما أريته مقطع مرئي لتلكم النقوش) لذلك اتمنى من علماء الانثربولوجيا (Anthropology) التركيز على هذه النقوش الصخرية.
أكملنا مشوارنا وكلي دهشة بما رأيته، وبدأت دروبنا يغلب عليها الاكتشاف، والاستمتاع بالطبيعة فتارةً نُمتّع أنظارنا بالحجل العربي (الشنا)، وتارةً نتلذذ بثمرة البوت، ونجني الزعتر، وكان “سعيد وهلال” يتسليان بجني الزعتر من الأماكن الحرجة، ومع مرور الوقت اشتدت حرارة الشمس المتعامدة على رؤوسنا فنحن على مشارف شهر يونيو الحار، واستنزفنا ما نملك من ماء على أمل أن نشرب من “جباة شوحطان” ولكن الطريق مازال طويلا، وكنا نرتقي إلى الأعلى بزاوية حادة مما ضاعف متاعبنا، فقرر “هلال” ولوحده أن يكتشف دربًا اقل حدة ولكن “سعيد” اشار على البقية بالارتقاء من الجبل لأن الوضع لا يحتمل اكتشاف مسالك جديدة.
خيّم التعب علينا بسبب الحرارة، والعطش إلا “سعيد” الذي لا يفارق هذه البيئة، وبدأت أخلق سيناريوهات مع “عبدالله وعدي” في حال تعذر وجود مياه في أعلى شرجة “شوحطان”، وبعد برهة من الزمن أشرت عليهم بالتوقف لأن “هلال” غاب عن الأنظار ولن نكمل مشوارنا بدونه، وأعربت عن قلقي عليه بسبب شدة الهجير، والحر، وهو لا يملك زادًا أو ماءً، فما كان من “سعيد” إلا أن اجابني بإبتسامة تطمئنني أن لا خوف عليه وهذا ما أكداه “عبدالله وعدي” ولم أكن جاهلا بقدراته ولكن العطش الشديد بعث في نفسي شكوكًا ما لبثت أن تلاشت عندما رأيناه بالمنظار في قعر احدى برك الوادي ينعم بالشرب والسباحة.
عند وصولنا إلى “جباة شوحطان” لم نتوانا عن القفز في البركة المائية المليئة بالديدان والحشرات وكنا نسبح، ونشرب في آنٍ واحد إلا أن البعض استخدام العمامة (المصر) لتصفية الماء، وكان “سعيد” يستغل بعض الوقت في تتبع نحلة ليحدد موقع خليتها.
أعد “عبدالله وعدي” الغداء باللحم المشرّح (المجفف)، والمشاكيك وأثناء تناولنا لوجبة الغداء لمحت سعادة صامتة في وجه “سعيد” الذي رأى عنزًا من قطيعه المتناثر في جبل الجرار وما حوله وهي تقترب لتشرب من الجباة، ثم بعد أن تأبطنا حقائبنا ارتقينا شيئًا فشيئا إلى قمة جبل الجرار، لا نتوقف إلا لتوقف “سعيد” الذي يطمئن على أغنامه المنتشرة باستخدام المنظار وفجأة لمح “هلال” نسرًا أحمرًا ضخمًا من النوع النادر (النسر الأصلع) فاستمتعنا برؤيته بالمنظار وبدأ “عدي” بإضافة معلومات كثيرة لنا عن هذه النوعية من النسور، وعند قمة جبل الجرار اخذنا استراحة قصيرة عند الجرار، والخروس المدفونة، وبدأنا التشاور في درب الهبوط فأشار علينا “عبدالله” أن نسلك درب “دعون الهجو” فتوكلنا على الله نزولًا نسابق الشمس قبل المغيب، لنحط أحمالنا واجسادنا المتعبة عند عزبة سعيد في بقعة صغيرة يقال لها “الهجو” بالقرب من ميحة وادي السحتن .
هنا استطيع أن اقول أنني قضيت موسمًا كاملًا في ربوع السحتن تعلمت من سكانه الكثير، وقدموا لي ما لا يقدّر بثمن، فضلًا عن ما تخفيه جبالهم من متعة لا يدركها إلا من عاش لحظاتها، وحتمًا-بإذن الله-سأكمل مشواري في هذا الوادي بصحبة رجاله الأوفياء.
أعضاء الفريق:
١-هلال البسامي (القائد).
٢-عبد الله المسقري.
٣-سعيد النصيبي.
٤-عدي البسامي.
٥-عبد العزيز الكيومي.
كتب/ عبدالعزيز الكيومي