هُناك حِكمة تقول: “لا يشعر بالشيء شعوراً قوياً إلاّ من يجربه”؛ لذلك استطلعت رأي أحد مجربي قسوة التقاعد وأنا أحدهم كذلك؛ فطلبت منه أن يَصِف لي مشاعره عن واقع جرى وما زال يجري، وليس تخوفاً من شيء مجهول، فقال: “كنت ضحية لمزاج شخص أو شخصين من كبار المسؤولين، فتم قطف عودي أخضراً -أي قبل أن يهيف- بعشر سنوات، رغم أنه كان ينظر لي في العمل على أني (أبو العُرِّيف)، وتسند لي مهام يرونها صعبة، وأنجح في معالجتها بما قدر الله لي من خبرة ومعلومات”.
ويقول: “فسألت المسؤول الذي طلبني لإبلاغي التقاعد، إني أعجب من هذا الأمر! فقد كنت أنتظر ترقية مُحقة، فتطلبني لتبشرني بالتقاعد، فهل أنا اقترفت ذنباً بهذا القدر أستحق عليه الطرد من الوظيفة؟! فرد: لا أبداً، ولكن هذا فعله من كان قبلي، وملفك أبيض؛ فعندئذ علمت أني مستهدف، فلن ينفع التبرير، ولأني كنت أعرف مكانتي الطيبة مع المسؤول السابق، فتوقفت عن عجن البطحاه لأنها لا تعجن عقلا”.
واليوم.. يُطرح موضوع التقاعد بصوت عالٍ، ولا اعتراض من أحد عليه، ولكن حذاري من شخصنة هذا الحق، الذي أصبح مبغوضاً في البلاد العربية، ومرغوباً في بلاد الغرب والدول المتقدمة، وسأوضح ذلك، ولماذا عندنا مكروهاً! وعندهم مرغوباً؟ ولسوف أبدأ بالمكروه أولاً.
لقد أصبح التقاعد عند العرب، يمثل سُبَّة وفرصة للتندر بهذا المتقاعد، وبصورة انتقامية وبغلظة وفظاظة، وذلك بداية من وصف الحالة ذاتها، فعندنا أطلق وصفاً على هذا الإنسان بعد سنين من الخدمة والعطاء، فوصف بأنه ميت وهو حي أي “مت.. قاعد” فهذه فاتحة الكتاب، ثم تجد أن التقاعد عنصر من عناصر العقاب، فيقال في واحدة من مفردات العقوبات “ويحال للتقاعد”، أو تجد في شهادة إنهاء الخدمة عبارة تقول؛ سبب إنهاء الخدمة “التقاعد” وهذه مقدمة بسيطة.
إنَّ المتقاعد يشعر بالغبن، بداية من زميله الذي كان معه في الوظيفة، فيتفاجأ بمجرد الخروج من الوظيفة، أن الاحترام الذي كان بينه وزملائه، إنما هو محض رياء ونفاق، وليس بدواعي قيم الأخوة، والإنسانية من دواعي الاحترام، وبواجب المشاعر المتبادلة نتيجة الزمالة والعشرة الطويلة، التي توثقها مجموعة من الوشائج الأخوية، والقيم الوطنية، والمعارف الاجتماعية بضوابط من العادات والتقاليد، والسمت بين الناس، وكان يفترض من الوظيفة أن تزيد على الشرف شرفًا أكبر، لا أن تورث البغضاء والعداوة بين الناس، وإذا نظرنا إلى الرتب العسكرية (مثلاً) فترى أن قيمتك كإنسان تهبط بمجرد أن تعلن عن النية في الإحالة إلى التقاعد، فبعضهم ينكر عليك رتبتك التي حصلت عليها ببراءة سلطانية، ونتيجة جهد وعرق وعمل ومثابرة وإخلاص، فكيف تنزع عنك كل تلك البركات والثقة في غمضَة عين، أو بجرة قلم التقاعد، وتشعر أنك أصبحت محل شك واستغراب، وكأنَّ قرار التقاعد نزع منك كل صفات الأمانة والصدق والمعرفة، فأصبحت شيئًا بلا معنى.
أمَّا المتقاعد في عين المجتمع؛ فهو نكتة بل مسخرة كبرى، أو وسيلة للضحك والتندر؛ فعلى سبيل المثال، يصور لك شخصا راكبا (ركنة) شجرة أي “فرع شجرة” ويغني ويمزح ويمرح، أو شخصا آخر يعمل تمارين في الجمباز، وآخر يطبل ويغني، فيكتب على مقطع الفيديو “متقاعد حديث”، وفي الغالب لا يكون ذلك الشخص قد عمل في أية وظيفة عامة أو خاصة، ومرات يؤتى بصورة ما، فيقال عنها؛ تحفظ بعيداً عن الشمس والغبار وعن أيدي المتقاعدين، وذات مرة أخطاء أحد المتقاعدين في اسم شخص، فقال له: كيف حالك الأخ محمد؟ فرد عليه: اسمي: عبدالله، فعلق آخر لا تؤاخذه فهو متقاعد، فكيف يا ترى تريدون من الناس أن يسعوا للتقاعد بأنفسهم، أو يتقبلونه بصدر رحب، أمام هذه النظرة الدونية تجاه المتقاعد؟!!
لكن الأمر جداً مختلف مع الدول المتقدمة، فتجد الموظف أولاً يعرف متى تاريخ تقاعده، فلا يتفاجأ بذلك، ثم تجده يعد الأيام والساعات لينال شرف التقاعد، فهو سيعمل خبيراً بعد تقاعده، ولن يطلق عليه مسبّة “مت.. قاعد”، وإنما سيقال عنهم المحاربون القدامى، أو الرجال الأوائل، أو المواطن الأقدم، أو الرعيل الأول، وسيحصلون على امتيازات وتسهيلات في التأمينات، وتخفيضات في ركوب القطارات والطائرات، ويحضرون المناسبات في الصفوف الأولى مع مرتبة الشرف، ويرتدون الأوسمة والنياشين، والبزات العسكرية للعسكريين، ويفعلون ذلك بشرف وفخر واعتزاز.
أما في بلاد العرب، فالمتقاعد يلزمه أن يكرس مذاق الموت قاعداً، وحذارٍ أن تذكر أنك متقاعد، وإلا ستنفر مسامع الناس من حولك، وعلى سبيل المثال: إحدى الجهات العسكرية، أعلنت عن قبول المتقاعدين في المسابقات السنوية للرماية، وذلك تفضلاً منها، فتقدم أحد المتقاعدين الجدد بطلب المشاركة، وهو صاحب رتبة رفيعة، ولكن لم يسمح له بارتداء رتبته العسكرية، وهذا دليل على الفارق عندنا وعندهم، فعندنا يربطون السلطة بالرتبة، لذلك لا يعترفون بالرتبة دون سلطة، ولا يؤمنون إن الرتبة حق مكتسب.
إن من سوء حظ المتقاعد العربي، أنه لا يجد من يحتاج إلى خبراته، ومعارفه العلمية والثقافية، فعليه أن يحتفظ بكل ما تعلم ومارس من أعمال لنفسه، ولكن لا بأس أن يؤتى بالعواجيز من بلاد أخرى، لإعطاء محاضرات وندوات، وأحياناً تكون بلغة مختلفة وتحتاج إلى ترجمة؛ وذلك لضعف الثقة في المواطن، ورغم أنه أفضل عشرات المرات عن هذا الآتي من وراء الحدود في تقديم المعلومة، وبأسلوب أهل البلد وبلغتهم، بل وبلهجتهم القريبة إلى مسامعهم، ثم إنَّ هناك من يأتي ويقول: “هؤلاء المتقاعدون ينافسون جيل الشباب على الوظائف”، وكأنهم لا يفرقون بين من يريد الوظيفة والعمل، وبين من يعطي المعلومة ويذهب، ثم يحسدون المتقاعد على معاشه التقاعدي، ويغفلون إن ذلك نظير خدمته السابقة، وإن أي عمل جديد يُطلب منه، يجب أن يكون بمقابل مستقل، وهذا المقابل أقل كلفة من الذي يدفع للآتي بتذكرة طيران، ونقل وسكن ومأكل في الفنادق.
لقد اطَّلعت على “مُغرِّد في تويتر” يقول: ألا يكفي هذا المتقاعد ما أخذ، وكأنه يرى أن المتقاعد كان يقبض نصيبه، عندما كان في الوظيفة دون مقابل جهد عمل، فأعتقد أن هناك نظرة مغلوطة تجاه الموظف والوظيفة، فتراهم يصورون الوظيفة وكأنها وجدت لقبض المكاسب والمغانم، وليس كما عرَّفها جلالة السلطان قابوس – رحمة الله عليه- عندما قال: “إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذ أو سُلطة”، وإذ أقول قبل أن نسأل المتقاعد: ماذا يريد؟! علينا أن نسأل الوطن ماذا يريد من المتقاعد؟ وهل يريده أن يأكل ويشرب وينام، وذلك بانتظار ريب المنون؟! فهل يترك ما يقارب من نصف المجتمع المؤهل للعمل بخبراته السابقة، معطلاً عن العمل؟! ومئات الآلاف من الوافدين يسرحون ويمرحون في ثروات البلاد وخيراتها؟!!!
إننا نريد قوانين تنظم حقوق وواجبات المتقاعدين، ونريد من العهد السعيد لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- أن ينتقي مجموعة من المتقاعدين من العسكريين والمدنيين، ويعيدهم إلى الوظيفة أو كمستشارين عاملين، حتى يكسر الاعتقاد السائد بأن المتقاعد أصبح كالبطارية منتهية الصلاحية، وعندئذ ستتوقف سخرية الناس بالمتقاعد، في زمن تاهت فيه القيم والاعتبارات الإنسانية، وصار الناس ينظرون إلى المصالح المادية بقدر أكبر.. حفظ الله عُمان وشعبها الأبيِّ، وسلطانها الفذُّ الأمين، وأدام عزه، ونصره بقوة ربِّ العالمين.
حمد بن سالم العلوي