كنتُ آخر العابرين “لعرصة” بوشر القديمة هذه الظهيرة فلم يتركْ لي من سبقني إلى رطب الخنيزي وتبشرة الخلاص سوى “ديس بلاستك” من بِسْر الخنيزي وبائع آسيوي استبدَّ به الضجر وأتعبه الحرّ فأراد التخلُّص من الدِّيس ومنِّي ومن المكان ليأوي إلى الظل.
وعلى مقربة من العرصة كان النخل المثقل بالعذوق يزدان بألوان القيظ فمشيتُ لأصوِّر بلدة في خاصرة مسقط يزحف إليها الإسمنت بجنون.
وعند كل نخلة امتشقتْ الأفق راودني الشعور بأنها لا تقف في وضع الكبرياء لتواجه المصوِّر بل لتستغيث بالكاميرا استغاثة المنكسر بلجان حقوق الأنسان ، وكأنها تستجير في وقفتها المهزومة لتوثيق رعبها من اقتراب البلدوزر الذي سيغتال الألوان ويعاند مجيئ المواسم.
لقد بدتْ النخيل وكأنها استوحشتْ موت الكثيرات من صويحبات الحقول فتباعدتْ السعفات عن بعضها البعض واختفتْ الحميمية بعد أن جذَّعها البلدوزر لترتفع مكانها الأبنية الاسمنتية الكالحة.
كما بدّلتْ أسراب “الضاضو” وجهتها فلم تعد تحطّ فوق نخيل بوشر ولا تؤمّ شجر المقاصير ولا تسكب زرقة ريشها ككل صيف بعد أن تناقصت الأعداد.
وخفَّتْ ترنيمة “الصراريخ” التي لا يبدأ الصيف إلا بصخبها تبشرةً للمجيئ.
ومن نخلة باكية إلى أخرى مفجوعة إلى ثالثة تتلفَّع الأحزان مشيتُ في مخاوف المقاصير وقد تلبَّسني ذات الرعب من الإسمنت الذَّي لا يغتال النخل فقط بل يمحو أجمل صفحة يكتبها القيظ ، ويلغي أقرب وأجمل المصايف لمسقط في داخل مسقط.
ولعل البعض لا يعرف أن على بعد بضعة كيلومترات فقط من قلب مدينة مسقط هناك ضاحية فردوسية بها من الرِّيف العماني أفلاجه ونخيله وزنابقه وطيوره وفراشاته.
وأن شجيرات سُمرها ما تزال قيلولة الجداء لتمضغ الوقت.
وأنها مهوى الأفئدة المتعبة من ضغوطات الحياة لتلقي في السواقي تعبها فتسترد شحنات من الطاقة الإيجابية.
وأن ذاكرة البلدة حبلى بالكبار الذين هربوا من حرِّ الصيف إلى جنائنها من سلاطين وأعيان وأثرياء طوال القرون قبل اكتشاف ماربيا والريفيرا وزيلامسي وإنترلاكن ، وقبل أن يُجَدْوِلَ “الكنديشن” الفصول لتتبرَّدَ الأبدان في الأفلاج وبِرَكِ الماء.
ولعلِّي جئتُ إلى بوشر القديمة في الوقت الضائع فالبلدة تسحبُ نفسها رويداً رويداً من ذاكرة أهل بوشر ، ونخيلها العوانة تغادرُ “ألبومات” العائلات ، ومداد الصكوك الذي حفظَ أسماء المقاصير ينمحي بعد أن اقتسمَ المُلَّاكُ ظلال النخيل.
تستوقفني سدرة ما تزال تتذكر السيدة ثريا بنت محمد بن عزان بن قيس يوم شرَّفتْ ضفة هذه الشرجة لتأمر البناة بتشييد حصن المقحم فأسائل أسلاف من تذوقوا النَّبْقَ في مواسم العصف ما إذا كانت برائحة “فوالة” الإحتفال بوضع “الطَّفالة” الأولى في جدار الحصن ؟.
أدخل البوابة المفتوحة لحصن المقحم بكمامة ورقية فيخرج من ظلمة المكان حارسٌ أغلق المبنى الداخلي لدواعي كورونا فأتحسس فولاذ المدفعين الرابضين خارج الحصن لأستنطق الصمت.
أقتربُ من نخلة “عوَّانة” بجوار بيت الشيخ علي بن عبدالله الخليلي والحفيف ما يزال بحمحمة شيخ آل الخليل فأحيي العمائم البيضاء والنخيل التي تناطح الغمام.
ما يزال أحد أبواب البيت الخليلي ينتمي لسجل الأبواب القديمة لقصر العلم العامر وما تزال إحدى الغرف المفتوحة على المحيط الأخضر تعرف بغرفة السلطان بعد أن شرَّفَ البيت وحلَّ بالمكان.
ومن مقصورة إلى مقصورة تتبعتُ الجُدُر َ وهاتفي يترنم بنهروانية أبي مسلم وهي تنساب بصوت الشيخ مسعود المقبالي.
ومن “صوار لصوار” تتبعتُ السواقي وعلى موجة “الأف أم” صوت فيروز.
ومن “وقْبة لوقْبة” تذكرتُ الصيف ومسقط ومطرح والسلاطين والأثرياء والتسابق للماء والظل الأخضر فنسيت الفرح.
ولقد حملني الترحال لعشرات المدن ووقفتُ على المساحات الخضراء التي زحف إليها الاسمنت والقرميد فكان الاحتكام دوما إلى “لا ضرر ولا ضرار” ليبقي الزحف الإسمنتي في الحدود المقبولة والالتحاف بالقرميد لأجل التوازنات في الألوان دون أن يجور البناء على المساحات الخضراء.
أما بوشر القديمة فباستثناء عدة بيوت شكَّلتْ إضافة للمكان فقد غَرِقَتْ للأسف في هستيريا العشوائية من البيوت إلى الدروب إلى الساحات ، فلا هي اكْتسَتْ روح الحي السكني القديم ببيوته الطينية ولا وضعتْ مواصفات للبناء والواجهات ولا احتفظتْ بذاكرتها ونخيلها وفيفايها وأمباها وتينها.
وبينما رفعتْ السيارات العائدة من مقار العمل حيوية الدروب المتثائبة مشيتُ عكس الدرب والتيار والزمن فغادرتُ بوشر المستلقية تحت ظلة جبلها وفي سيارتي بِسْر الخنيزي الذي اشتريته لأجل أشمّ نخلة جميلة تستصرخني لكي أصورها قبل أن يغتال البلدوزر الألوان.
وكما بدأتُ الحديث ببيت المقحم والسيدة ثريا البوسعيدية فبه أختتم وأنا أقف تحت نفس السدرة التي طالما ناختْ تحتها النوق وعليها هوادج سيدات القرن الثامن عشر لزيارة أميرة المقحم وسليلة الامام عزان لأرى سيارة أجرة تتبرد بالظلال فأستعيدُ صرخة محمود درويش ؛
علّقوني على جدائل نخلة
واشنقوني.. فلن أخون النخلة
——————-
مسقط في ١٧ يونيو ٢٠٢٠م
——————————————
حمود بن سالم السيابي