يطرح تناولنا للموضوع في ظل أحداث كورونا (كوفيد19) ومستجدات واقع الأيدي العاملة الوافدة على المشهد الوطني اليوم تحديات كبيرة في ظل ما تفصح عنه التقارير والإحصائيات اليومية من أن الأيدي العاملة الوافدة تشكل النسبة الأكبر من بين الإصابات بالفيروس والوفيات على حد سواء، وما يستدعيه ذلك من مراجعات قادمة لهذا الملف في ظل معطيات عمان المستقبل ورؤية السلطنة لإعادة تنظيم هيكلة وتنظيم القطاعات التنموية؛ وتنطلق مقاربتنا الاجتماعية للموضوع من وجود تأثير ناتج عن تزايد أعداد الأيدي العاملة الوافدة على البُعد الاجتماعي بما يتضمنه من قيم وعادات وتقاليد وثقافة وهوية، وأساليب للعيش والتعايش والتعامل والأنشطة الاقتصادية التقليدية وغيرها، وما تفصح عنه الممارسة الاجتماعية لهذه الفئة من أهمية اتخاذ خطوات جادة في سبيل تشخيص معطيات السلوك ومسبباته والبيئة الثقافية والاجتماعية التي تنحدر منها هذه الفئة في موطنها الأصلي وخارج البيئة العمانية ذاتها، وما إذا كانت الدوافع والأفكار والقناعات والسلوك والعادات التي تمارسها الأيدي العاملة الوافدة لها علاقة بالواقع الاجتماعي في بلدانها وما يحصل فيها من ممارسات وسلوكيات وعادات تعايشها في ظل ظروف اقتصادية سيئة ووضع اجتماعي يتغاير مع فلسفة التقنين والتنظيم، ويتقاطع في أحيان كثيرة مع لغة القانون والنظام والالتزام، وما إذا كانت هذه الممارسات والقناعات والثقافة التي تؤمن بها هذه الفئة تعبيرا عن ثقافة مجتمعية متأصلة لها جذورها التاريخية في ثقافة بيئة المنشأ التي تنتمي إليها؟ أم أنها جاءت كردة فعل عكسية في ظل ما تنعم به من الأمن والأمان والاستقرار والحرية الممنوحة لها على هذه الأرض الطيبة؟
من هنا تشكل الأيدي العاملة الوافدة رقما صعبا في مجموع السكان، حيث أظهرت إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن أعداد الوافدين حتى منتصف مارس لعام 2020 بلغت (1.945.921) وتشكل ما نسبته (41.80%) من إجمالي عدد السكان في عمان، على الرغم من تراجع أعدادها في بعد عام 2016 نظرا لتراجع أسعار النفط وللإجراءات التقنينية التي اتخذتها الحكومة في هذا الشأن، أو من حيث علاقة ذلك بجملة من القضايا المجتمعية التي باتت تشكل تحديا مجتمعيا يستدعي تدخل الحكومة والوصول إلى اتخاذ إجراءات ومعالجات أكثر نضجا واستدامة في التعاطي معها نظرا لما قد يترتب عليها من تهديدات على المنظومة المجتمعية، ومن بين هذه القضايا تزايد أعداد الباحثين عن عمل من مخرجات الدبلوم العام والتعليم العالي والجامعي في مختلف التخصصات الأكاديمية والمهنية وغيرها، حيث أشارت الإحصائيات إلى أن أعداد الباحثين عن عمل من العمانيين بلغ (43.8) ألف باحث عن عمل في السلطنة حتى عام 2016، وأن (66%) من الباحثين عن عمل هم من فئة الإناث، كما أن (77%) من الباحثين عن عمل في سن الشباب دون سن 30 عاما، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 82% بين الذكور مقابل 74% بين الإناث، كما أشارت إلى أن نسبة حملة شهادة الدبلوم العام من الباحثين عن عمل شكلت (31%)، في حين بلغت الإناث الباحثات عن عمل من حملة مؤهل جامعي فأعلى (47%). وفي المقابل بلغ معدل الباحثين عن عمل في عام 2018 في السلطنة 1.8%، في حين بلغ المعدل للشباب في الفئة العمرية 15-29 سنةً 13.3%، منهم 30.4% إناث و7.1% ذكور؛ هذا الأمر يأتي في ظل اتساع الفرص التعليمية الممنوحة للشباب، والقيمة المضافة التي يمكن أن توجه إليها هذه المخرجات في ظل واقع سوق العمل الوطني، حيث أشارت الإحصائيات إلى أن 80.4% هي نسبةً الطلبة الجدد المقبولين بمؤسسات التعليم العالي في العام الأكاديمي 2017/2018 من إجمالي خريجي الدبلوم العام في عام 2016/2017، كما يوجد على مقاعد الدراسة أكثر من 30.4 ألف عدد الطلبة المقبولين بمؤسسات التعليم العالي، وأن 12.9 ألف طالب إجمالي عدد الطلاب المقبولين بمؤسسات التعليم العالي الخاص خلال العام الدراسي 2017/2018 وأن 1985 طالبا إجمالي عدد الطلاب المقبولين بالجامعات والكليات بالخارج العام الأكاديمي 2017/2018، كما أشارت الإحصائيات إلى أن عدد المشتغلين من الشباب قد بلغ ما نسبته 25% مِن إجمالي المشتغلين، وأن حوالي 76% من الشباب يشتغلون في القطاع الخاص و24% في القطاع الحكومي، كما أن 68.6% من الشباب المشتغلين في القطاعين هم ذكور، وأن (74%) من إجمالي الباحثين عن عمل في السلطنة هم شباب في الفئة العمرية (15- 29) سنة. وانحسار انخراط الشباب العماني في سوق العمل وبشكل أكثر تحديدا في القطاع الخاص، الذي تشكل الأيدي العاملة الوافدة فيه ما نسبته (87%- 89%) من العاملين في القطاع الخاص، مقابل (13% – 11%) عماني، ويستمر هذا التأثير في أشده ليتدخل بشكل واسع في منظومة الأمن الاجتماعي، فمن حيث نسبة تدخل الأيدي العاملة الوافدة في زيادة معدلات الجريمة تشير إحصائيات المركز لعام 2018، إلى أن نسبة الجناة من الوافدين بلغت 53%، يقابله 47% من العمانيين، وأن 3.3 جريمة لكل 1000 من السكان هو معدل ارتكاب الجريمة في السلطنة خلال عام 2017 ، بإجمالي 14.8 ألف جريمة، 28% منها الجرائم الواقعة على الأموال، تليها الجرائم الواقعة على الأفراد، 19%، ثم الجرائم المخالفة للقوانين، 18%، وجرائم المخدرات 15%، والجرائم الأخرى 8%، على أن سيطرة هذه الفئة على عوامل الإنتاج ومدخلات المنافسة في القطاع الخاص والعائلي، ومحاولة إعادة مسار حضور العمانيين في المهن والوظائف التقليدية المنتجة يفرض هو الآخر تحدياته على المنافسة الاقتصادية وقدرة المواطن والشباب العماني على الدخول في قطاع الإنتاج وتوفر الفرص الوظيفية والمهنية المناسبة التي يمكن من خلالها أن يصنع فارق الأداء، حيث أشارت الإحصائيات إلى أن المشتغلين في القطاع الخاص والعائلي من العمانيين بنهاية عام 2017 بلغ 238.688 عمانيا من الجنسين، مقابل 1.795.689 للأيدي العاملة الوافدة التي تحوز على ما يقارب من 90 % من حضورها في هذا القطاع، وأن 8 من كل 10 مشتغلين في السلطنة في عام 2017 هم وافدون، وأن %60 من إجمالي شاغلي وظائف الإدارة العامة والأعمال في القطاع الخاص والعائلي في عام 2017 هم وافدون، هذا الأمر يأتي في ظل تأثيرات أخرى ظهرت في حجم التحويلات المالية الخارجية لهذه الفئة وانعكاسات ذلك على توافر السيولة النقدية والمالية بالسلطنة، وتزايد مشكلة التسريح القسري للعمانيين من الشركات ومؤسسات القطاع الخاص، أو فيما يتعلق بالواقع الفعلي للقوى الوطنية العمانية في هذه الشركات ومؤسسات القطاع الخاص.
وبالتالي ما يعنيه ذلك في الوقت نفسه من أهمية قراءة معمقة واسعة لهذا الملف، كونه قضية وطنية لها مدلولاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية على حد سواء، ما يعني أهمية وضعها في قائمة أجندة أولويات العمل الوطني القادم، وليس مجرد حالة وقتية خاصة ترتبط بمؤسسة معينة ووزارة محددة، فهي مسؤولية مجتمعية والتعاطي معها يتم عبر منظور وطني مستدام وأداء وطني فاعل يتجاوز لغة العاطفة ولغة اللوم والتجزئة والترقيع الوقتي في المعالجة، بحيث تتجه المعالجات والمراجعات الحاصلة إلى تأطير تناغم وطني تتفاعل معه سلطات الدولة الثلاث في رسم معالمه، فعبر قوة التشريعات ومرونتها وكفاءة نواتجها واستيعابها لكل المعطيات الاجتماعية والتحولات الحاصلة ودقتها في رسم معالم التحول والمعالجة، خصوصا في ظل الحساسية المرتبطة بالبعد الاجتماعي والاتفاقيات والشراكات الموقعة بين السلطنة والدول التي تأتي منها الأيدي العاملة الوافدة في هذا الجانب، وهو أمر يضع على عاتق المؤسسات التشريعية مسؤولية تبني رؤية عمل واضحة نابعة من الواقع والآثار المرتبطة بهذه الفئة وتستشرف ملفات الباحثين عن عمل ومخرجات التعليم بأنواعه في إمكانية توفير معالجات دقيقة تحفظ مسارات التوازن بين توظيف الكفاءة الوطنية واستيعابها في سوف العمل وبين الإبقاء على بعض هذه الفئة ذات المهام المرتبطة بالمشروعات الاقتصادية والإنشائية الداعمة للتحول الاقتصادي الوطني، ودور السلطة القضائية والقانونية وعبر تفعيل البُعد العقابي والرقابي والجزاءات وتوفير الممكنات الضبطية الداعمة، وزيادة الاهتمام بالعقوبات التي تؤسس لبناء فقه المسؤولية وتصحيح الممارسة، هذا الأمر يأتي في ظل مسؤولية السلطة التنفيذية وعبر رصانة الأدوات وكفاءة آليات العمل ونضوح الفكر الإداري الممارس وتقليل حاجز البيروقراطية وتبسيط الإجراءات وفتح مسارات أوسع لدعم المواطن في المشروعات الاقتصادية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وعبر منظومة الصلاحيات والحوافز والفرص والدعم المصحوب بالتقنين والتنظيم الذي يضمن للشباب العماني قدرته على المنافسة وتحقيق الجودة في النشاط الاقتصادي الذي يمارسه ووقوفه عليه، وبالتالي ما يتطلبه هذا المدخل المنظومي في قراءة الأيدي العاملة الوافدة من موجهات وعبر قراءة أعمق وتشخيص أدق للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وقراءة الموضوع بصورة أكثر اتساعا ترتبط بمسألة التحول الحاصل في السلوك الشخصي لديها وانعكاس ذلك على البناء الاجتماعي ومنظومة العادات والتقاليد من جهة أو في الأنشطة الاقتصادية للمواطن العماني في ظل وجود هذه الفئات في أنشطة منزلية أو قريبة من مساكن المواطنين واندماجهم معهم في أماكن التسوق والترفيه والمجمعات التجارية وغيرها، واتخاذ المزيد من الإجراءات التقنينية المرتبطة بالمحافظة على الهوية الوطنية والسلوك الاجتماعي والتعامل مع المفردات الثقافية والتاريخية العمانية، بما يحد من تدخلهم في قضايا الناس ومنافسة المواطن في اهتماماته واحتياجاته اليومية، وهي في الوقت نفسه تضعنا أمام إطار عمل وطني يتسم بالشفافية والوضوح في قراءة الأبعاد الاجتماعية المرتبطة بسلوك هذه الفئة وآلية التعاطي معها وكيفية الحد من تدخلها في تشكيل ثقافة المجتمع، وعبر آليات عمل واضحة واستراتيجيات أداء مقننة وحلول استراتيجية تحفظ حق الوطن والمواطن مع التثمير في الفرص والممكنات والمهارات التي تمتلكها لصالح البناء الوطني وخدمة عمان.
ويبقى تناول هذه المؤشرات مرتبطا بتبني إطار عمل وطني متكامل لدراسة الأبعاد الاجتماعية الناتجة عن ممارسات هذه الفئة على الواقع الاجتماعي ومستقبل الأجيال، وتوفير الخطط والتدابير والإجراءات الوقائية الإعلامية والتثقيفية، بالإضافة إلى الضبطية التي يجب أن تتخذ شكل العمل الوطني المدروس التابع من فقه عميق بالمسؤوليات وقراءة موحدة للغة التعامل معها لبناء منظومة وطنية قادرة على تعظيم إنتاجية المواطن، وإدارة معطيات هذا الملف واستيعاب التحولات الحاصلة فيه وتفعيل منظومة العقوبات الرادعة، ووضع هذه الفئة في صورة الفعل الممارس، وما يترتب عليها من واجبات ومسؤوليات والتزامات، مقابل ما تحصل عليه من حق الأمان لها وحماية ممتلكاتها، وإتاحة فرص التواجد والعمل لها في السلطنة، وبالتالي تعزيز الحوار المجتمعي والتوسع فيه للوصول إلى قرارات حكيمة واستراتيجيات عمل واضحة وخطط تنفيذية واقعية تنأى بهذا الملف من الارتجالية والتداخل والازدواجية في القرارات، وتحسم آليات العمل فيه والتعامل معه في ظل المستجدات الحاصلة في المشهد الوطني واقتصاد الأزمات في التعاطي مع جائحة كورونا (كوفيد19) والانخفاض الحاصل في أسعار النفط، والتوجه نحو تحقيق رؤية “عمان 2040”، ومراجعة الأداء الحكومي والشركات الحكومية وغيرها، لصالح تحقيق تحول قادم في التنويع الاقتصادي والوفرة المالية، وتوظيف الكفاءة الوطنية وتوفير بيئة أعمال جاذبة لها من جهة، مع المحافظة على الهوية والخصوصية الوطنية واستمرار إنتاجية العادات والتقاليد وأشكال التعبير الثقافية والاجتماعية في حياة مجتمع الاقتصاد والاعتماد على الذات، وهو ما أشار إليه خطاب عمان المستقبل لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بقوله: “إن الانتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله، واضعين نُصب أعيننا المصلحة العليا للوطن، مسخرين له كافة أسباب الدعم والتمكين”.
د. رجب بن علي العويسي