ومن هنا نعود للتأكيد أن العرب قادرون اليوم على استعادة مواقفهم المشرفة واستشراف مستقبل آمن للأجيال من خلال عودة العلاقات العربية العربية أولا، وتجاوز كل المطبات واستعادة جامعة الدول العربية دورها المأمول، لا أن تقف فقط تنظر للواقع العربي دون حراك..
الأمن القومي العربي يعد حالة مقدسة في ميثاق جامعة الدول العربية، وخلال التاريخ المعاصر منذ استقلال الدول العربية ومنذ احتلال فلسطين كان للعرب مواقف عظيمة في الدفاع عن الأمن القومي العربي، ومما يذكر هنا ورغم ظروف وأوضاع العرب في ذلك الوقت إلا أنهم قدموا تضحيات جساما في سبيل الدفاع عن الوطن العربي، وهكذا هو تاريخ الشخصية العربية عموما التي لا تقبل الذل والإهانة، فلقد اجتمع العرب في حروبهم مع كيان الاحتلال الإسرائيلي المدعوم بقوة من القوى الغربية فسجلوا نتائج تحسب لهم؛ لأن هناك وحدة موقف، وهناك تضامن عربي، وهناك حالة قومية متماسكة مترابطة تسود الساحات العربية من المحيط إلى الخليج رغم بعض الاختلافات التي لم تؤثر على الموقف العام، فانصبت جهود العرب في دعم جبهات القتال من أجل التحرير واستعادة الحقوق العربية، إلا أن عدو هذه الأمة العربية أدرك كيف يفض عرى تلك العلاقات العربية المتماسكة فكان العمل مبكرا في ضرب تلك الرابطة وتفكيك العرب من خلال اتفاقيات ثنائية ومحاولة اختراق الأنظمة السياسية العربية ومحاولة التدخل في الحراك السياسي والانتخابي بالدول العربية. وللأسف أن الأنظمة السياسية العربية هي من أتاح له الفرصة في ذلك فاتجهت العلاقات العربية إلى الأسوأ لتصل إلى حدود المواجهة العسكرية بين الأشقاء، وهي من المحرمات بين العرب عندما كان يتصدر المشهد قيادات محورية آمنت أن الأخ يبقى أخا والعدو يظل عدوا، إلا أن هذه المفاهيم والثوابت اختلفت مع الوقت، والأخطر هنا أن السيادة الوطنية للعديد من الدول العربية أصبحت مهددة في الصميم، فتحكم العدو في مصادر الثروة وفي القرار السيادي لبعض الدول العربية، ومع استمرار مراقبة الخلافات العربية وتأجيجها وصل بنا الحال إلى هذا الحد من القطيعة، فإلى أين يريد أن يمضي النظام الرسمي العربي بهذه الأمة؟!
تشخيص الحالة العربية واضحة لكل المتابعين والقراء، ولكن العمل على الخروج منها يظل معلقا في أروقة القرار الرسمي العربي، فلم نسمع أية مبادرات عربية لمحاولة القضاء على هذا المرض العضال الذي ولج من خلاله الشيطان في تفاصيل الحالة العربية، فأصبح النظام العربي اليوم أمام مفترق طرق؛ إما طوق النجاة والتمسك بآخر خيوط السيادة، وإما الانهيار التام، فلا سيادة ولا قيادة ولا ثروة. وأخشى أن يصل بهذا النظام الحال أن يصبح نموذجا لنظام الخلافة العباسي في نهاية عهده 1258م عندما دمر التتار بغداد بعد أن تلقى الخليفة وأركان الخلافة أقسى أنواع من الإهانة قبل قتله، وتظل بارقة الأمل في الأمة العربية التي مرت خلال العهود الماضية بكل المنعطفات المتقلبة لكنها تعود متجددة، والنظام السياسي العربي اليوم ليس بعاجز عن تجديد علاقاته العربية وتعزيز مصادر ثروته واستعادة هيبته، فهو يملك الوصفات الناجعة للعودة والانتقال من التنظير إلى الفعل والحراك الجاد، ولكن تبقى الإرادة الحقيقية وكيف يمكن استعادة الوعي القومي العربي المسلوب الذي يعتقد فيه البعض أنه قادر بمفرده وبعلاقاته التحالفية مع أعداء الأمة أن يصل إلى القمة، وهو ربما لا يعلم أنه يسير إلى الهاوية، والتجارب علمتنا أن الارتباط بقوى الاستعمار هو ارتباط بسراب زائف في لحظة ما وبكل بساطة سيتم التخلي عنه واستنساخ غيره. ومن هنا نعود للتأكيد أن العرب قادرون اليوم على استعادة مواقفهم المشرفة واستشراف مستقبل آمن للأجيال من خلال عودة العلاقات العربية العربية أولا، وتجاوز كل المطبات واستعادة جامعة الدول العربية دورها المأمول، لا أن تقف فقط تنظر للواقع العربي دون حراك، وهذه الحالة تتطلب جهودا عربية صادقة من قبل جامعة الدول العربية وإشراك بعض القيادات العربية في ذلك مع وضع خريطة طريق مستقبلية لاستعادة توازن العرب لمواجهة تداعيات الحالة العربية الراهنة وتأثيراتها المباشرة على الأمن القومي العربي عموما، وعلى الأمن الوطني وسيادة الدول ومواجهة الأخطار المحدقة بالأمة. ولا بد هنا من توضيح وترسيم العلاقة الصحيحة مع ما يسمى التحالفات الدولية بالانتقال من وضعية التحالف الاستعماري إلى التحالف المتكافئ الذي تشكله السيادة الوطنية، وهناك أوراق تستطيع كل دولة عربية أن تستخدمها في هذا الشأن من خلال ربط تحالفاتها بأقطاب دولية أخرى واعتماد لغة المصالح وربطها مع مختلف الأطراف والاعتماد على قاعدة العلاقات العربية بعودتها إلى سابق عهدها، فهي أحد مسارات النجاة، ومن ثم التصدي للأخطار الخارجية بلغة مشتركة تعمق العلاقات بين الدول العربية، وإيجاد حالة من التكامل الاقتصادي العربي والدعم المتبادل بين الدول العربية، وتصفية القلوب بين الأشقاء؛ لأن البديل هنا هو تهديد الأمن القومي العربي، وربما هناك أخطار أخرى محدقة أشد مثل تقسيم بعض الدول العربية وانتهاك السيادة الوطنية، وربما تغيير قيادات عربية في المستقبل.
إن العرب يواجهون اليوم جبهات متعددة تهدد الأمن القومي العربي تتطلب من العرب توحيد الموقف العربي لمجابهتها؛ فما يحدث في دول عربية من تدخلات خارجية ينبغي أن تستفز الموقف الرسمي العربي لتوحيد مواقف الدول العربية، وإعلان موقف موحد فإعلان العرب موقفهم الموحد تجاه رفض التدخلات الخارجية كفيل بتراجع تلك التدخلات ورفض المساس بالأمن القومي العربي، والذاكرة العربية هنا ليست مغيبة عما أفرزته حقائق التاريخ منذ حكومة الاتحاد والترقي 1916/1915م حتى اليوم مع التعمق في سبر حلقات هذا التاريخ، نجد أن التهديد للأمن القومي العربي كان وما زال قائما من قبل أطراف خارجية، والعرب يدركون تلك المحطات جيدا، لكن للأسف هناك بعض العرب تدفعهم توجهات أيديولوجية تتماهى مع تلك الأطراف فيصنفون تدخلاتها ويبررونها، فهل هذه التبريرات مقبولة على حساب الأمن القومي العربي؟ وهنا علينا العودة للثوابت السياسية بالمنطقة وهي علاقات الأطراف الإقليمية مع قوى الاستعمار وكيان الاحتلال الإسرائيلي ومدى الارتباط بقوى المقاومة ومناصرة القضايا العربية ومدى التقاطع في المصالح المشتركة مع الوطن العربي، وكذلك مساحة الاختلاف مع العرب، وبالتالي فإن التبريرات هنا بعيدة عن الفكر السياسي السليم، لذا ينبغي تصنيف كل الثوابت والتعامل مع كل الأطراف الإقليمية بما يحقق مصالح العرب لا ما يحقق مصالح الأطراف الإقليمية الأخرى أو الدولية. نعم نحن العرب ننشد علاقات ومصالح مشتركة مع مختلف الأطراف الإقليمية، ولكن ليس على حساب الأمن القومي العربي، بل علاقات متكافئة وتعاون متبادل في مختلف الملفات السياسية التي تخدم الأمة العربية وخصوصا في قضيتنا الرئيسية (فلسطين) ومختلف القضايا السياسية والاقتصادية الأخرى، والتوقف أمام أية ملفات تمثل تهديدا للأمن القومي العربي .
هناك عدد من القضايا العاجلة التي تتطلب وقفة عربية جادة من قبل النظام الرسمي العربي قبل أن تقع كوارث جديدة في المنطقة منها ما يسمى صفقة القرن، ومنها مشروع ضم الضفة الغربية وأغوار الأردن، ومنها قانون سيزر أو (قيصر) ومنها موضوع سد النهضة، ويأتي الأهم على الساحة العربية اليوم وهو تهديد الأمن القومي العربي والتدخلات العسكرية في دول عربية والتي تستوجب من العرب اليوم الاصطفاف بقوة أمامها أملا في أن يشكل هذا الاصطفاف بارقة أمل في استعادة لحمة العرب واستنهاض الأمة نحو قيام مشروع عربي يطرق مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والمجالات الأخرى فيما يخدم حياة المواطن العربي، واستقرار المنطقة والعمل بإرادة جماعية متجددة لاستعادة الحقوق العربية، ويكفينا كعرب مثل هذا التنظير المقيت الذي لم يعد مستساغا، والرسالة هنا واضحة موجهة إلى جامعة الدول العربية التي تمثل الكيان الجامع للعرب جميعا وإلى الدول العربية دون استثناء من المحيط إلى الخليج، وعلى النظام السياسي العربي اليوم أن يحدد موقفة واختيار مساره المستقبلي فإما قيام مشروع قومي عربي متكافئ مع المشاريع الإقليمية الأخرى، وإما ترك القوى الدولية والإقليمية تتلاعب بالأمن القومي العربي، بعد أن عادت ملامح السباق الاستعماري بين قوى الاستعمار على المنطقة العربية، فهل نترك مصير الأمة العربية معلقا بين تنافس قوى الاستعمار، أم ننهض ونعيد تجديد وبناء مشروع قومي عربي؟ الإجابة هنا معلقة بيد النظام الرسمي العربي قبل أن ينقسم أبناء العرب بين مشاريع إقليمية أخرى .
خميس بن عبيد القطيطي