قبل أكثر من شهر من الآن عندما كانت أعداد الإصابات اليومية بفيروس كورونا المستجد في السلطنة “بسيطة” مقارنة بالكثير من الدول في المنطقة والعالم ومقارنة بما أصبحت عليه الأرقام اليوم، كان الناس أكثر التزاما، وربما أكثر قلقا من تأثير الفيروس المجهول على حياتهم. إلا أن الأمر تغير فجأة، رغم أن المستقبل مع هذا الفيروس ما زال مجهولا أيضا، وفقد الناس صبرهم، وتجاوزوا حالة الخوف والهلع من بطشه. ولهذا التجاوز السريع الكثير من الأسباب، بينها التمادي في الاستهتار، وعدم الوعي بخطورة الأوبئة نظرا للبعد الزمني بيننا وبين آخر وباء قاتل كهذا الوباء، وبينها أن فئة الشباب التي تجاوزت الخوف من الفيروس تعتقد أنها في منأى عن بطشه وتأثيره، وأن مجرد حمى واحتقان في الحلق لا تستدعي كل هذا الخوف وكل هذا الإغلاق لمناحي الحياة. وبينها الرواج الكبير لنظرية المؤامرة المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي والتي يعتقد أصحابها أن هذا الوباء “المصنع” هدفه استنزاف جيوب الدول والأفراد لصالح أنظمة اقتصادية تريد الصعود في منعطف مهم لصناعة أنظمة جديدة. وبينها فئة تحتّج بأنّ “الأعمار بيد الله” متناسية قوله تعالى: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”.
يقول العلماء إن نهاية أي وباء تكون بطريقتين: الأولى اجتماعية عندما يتجاوز الناس الخوف منه ويقرروا التعايش معه، أو بطريقة طبية عندما يصنع العلماء لقاحا ينهي انتشاره ويكبح جماحه. ولمّا كان أمر اللقاح ما زال في علم الغيب بعد 6 أشهر من بداية الوباء الذي يجتاح العالم؛ فإن النهاية الاجتماعية للوباء ملحة، والتعايش معه أمر لا خيار غيره في وقت يذهب العالم أجمع إليه الآن.
لكن فكرة التعايش مع الوباء لا تعني التسليم المطلق لبطشه. للتعايش شروط يجب أن نعرفها جميعا قبل أن نقرر الذهاب إليها.
يعتقد الكثير من الناس في مجتمعنا المحيط أن التعايش مع الوباء يعني أن نعود للحياة كما كنا سابقا وننسى أن ثمة وباء ينتشر بيننا، ودون أي شروط أو احترازات، وهذا فهم خطير جدا.
الهدف الأول من الذهاب لخيار التعايش، كما أفهمه، هو عودة الاقتصاد ومحاولة الهرب من الكساد المتوقع عالميا ومن إفلاس الكثير من الشركات وعودة الآلاف من الموظفين إلى أعمالهم في القطاعات الإنتاجية بعد أشهر من التوقف. هناك أنشطة اقتصادية فردية توقفت منذ مارس الماضي ووصل أصحابها إلى مرحلة صعبة من الحاجة، وهناك المئات من الموظفين في القطاع الخاص تم تسريحهم بسبب توقف الأنشطة التجارية والصناعية التي يعملون بها. ثم هناك أمر آخر مهم جدا وهو إن معركة مجابهة هذا الوباء مكلفة جدا وتحتاج إلى اقتصاد قوي متماسك يستطيع أن يمول المعركة.
الوباء ما زال ينتشر بضراوة في العالم، وينتشر في بلادنا بشكل كبير في الأيام الأخيرة، ويبدو أن بؤرا جديدة بدأت تظهر في أماكن مختلفة؛ وسبب ذلك تساهل الناس، وفهمهم الخاطئ لاستراتيجية التعايش.
لا يعترف الوباء خلال عملية انتشاره بهذا الفهم المغلوط للناس، ولا يقيم الوباء أدنى اعتبار للنية الحسنة التي ينطلق منها البعض في ممارساتهم الاجتماعية التي تتسبب، مع الأسف الشديد، في انتشار الفيروس بشكل كثيف في ولايات كان وجوده فيها بسيطا جدا. للطبيعة نواميسها الماضية التي لا تتوقف، وعلينا فهمها حتى نستطيع “التعايش”.
ليس مطلوبا من الجميع أكثر من التباعد الاجتماعي والتقيد بالعادات الصحية المعلنة التي بات الجميع يعرفها. وارتداء الكمامات عندما تحتم الضرورة علينا الاختلاط بالآخرين. هذا وحده قادر على إبطاء انتشار الوباء. وهذا، لا غيره، المقصود بالتعايش مع الوباء.. أن نمارس الضروري من حياتنا اليومية والعملية حتى لا تتوقف عجلة الاقتصاد ولكن بالتزام صارم بالإجراءات الاحترازية وعدم الاستهانة أو حتى الاستسلام بقدرات العدو التي تداهمنا من كل اتجاه.
وفي اعتقادي الشخصي أن هذه هي المرحلة الحقيقية لمعركة “الوباء” في السلطنة.. عندما تسجل الإحصائيات يوميا أكثر من 800 حالة عدوى في اليوم، و6 وفيات، وأكثر من 50 حالة تحتاج إلى الدخول للمستشفيات وأكثر من 100 حالة في العناية المركزة. هذه هي لحظة الحقيقة في مجابهة الوباء التي لا بد أن يعرفها الجميع وأن يشارك في جهدها “الوطني” ولو كان بالالتزام بتعليمات النظافة على أقل تقدير. هذه هي اللحظة الحاسمة وليس عندما كان عدد المحتاجين للدخول للمستشفيات 15 مريضا فقط، عندما كانت الناس ملتزمة وكان الجميع في حالة خوف وترقب! لنتعايش، ولا خيار لنا الآن غير ذلك، ولكن بشروط التعايش التي يحددها العلم لا التي نقررها بأنفسنا وفق ظروفنا وأهوائنا الشخصية.
عاصم الشيدي- عمان