(قراءة تاريخية)
قامت مجلة العربي الكويتية بدورٍ ثقافيٍ مهمٍ على مدى أكثر من نصف قرن، وذلك من خلال المحتوى الثقافي الرصين الذي قدَّمته للقرَّاء في مختلف الجوانب الثقافية. وكان لزاوية “اعرف وطنك أيها العربي” دور مهم في تعريف القارئ العربي بوطنه من خلال الاستطلاعات التي شملت أغلب أجزاء الوطن العربي، معرفة بحضارته وتاريخه، وأصبحت نافذة القارئ العربي على ثقافات وحضارات وجغرافية وطنه، مثلما هي نافذته على حضارات الشعوب الأخرى.
وكانت تلك الاستطلاعات أشبه بالرحلات الاستكشافية الموسعة، حيث قدمت ما يشبه موسوعة سياحية ومعرفية وأنثربولوجية كاملة. قام بكتابة الاستطلاعات الصحفي المصري سليم زبال، وشاركه بالتصويرالصحفي المصري أوسكار متري لسنوات، قبل أن ينضم معهم كتيبة من المحررين والمصورين من كفاءات الصحافة العربية.
وكان لعُمان نصيبٌ من استطلاعات مجلة العربي، حيث قام الصحفي سليم زبال بعمل استطلاعين تحدثا بشكل مُباشر عن عُمان، الأول بعنوان: “عُمان تتفتح على العالم بعد انغلاق دام 38 عامًا”، صدر في 1 مارس 1971م، في العدد 148، والاستطلاع الثاني بعنوان: “عُمان مرة أخرى”، صدر في 1 يونيو 1971م، في العدد 151، وهناك استطلاع بعنوان: “البريمي”، صدر في 1 فبراير 1962م، في العدد 39 (يعد من الاستطلاعات المهمة التي تُضيء على بعض الحقائق التاريخية، منها: الاسم القديم للبريمي “توام”، وأول مدرسة في البريمي حملت اسم: عُمان الابتدائية، وافتتحت في نوفمبر من عام 1960م). كما تمَّ الحديث عن عُمان في زاوية (اعرف وطنك أيها العربي) من قبل بعض الصحفيين الذين كتبوا في تلك الزاوية في سنوات لاحقة، كموضوع: “مضيق هرمز بوابة الحرب الثالثة” للصحفي مصطفى نبيل.
وتتجلى الأهمية التاريخية لاستطلاعات سليم زبال لاسيما استطلاعيه: “عُمان تتفتح على العالم بعد انغلاق دام 38 عاماً”، و”عُمان مرة أخرى” -وسيكونان مضمون القراءة التاريخية- من خلال الفترة الزمنية التي صدر فيهما الاستطلاعان، حيث كانت فترة انتقالية بين عهدين، كما تنبع تلك الأهمية من خلال المقابلات الشخصية التي أجراها سليم زبال مع عدد من المسؤولين في عُمان، ويأتي على رأسهم جلالة السلطان قابوس، هذا بالإضافة إلى أن زبال كان شاهد عيان على الأحداث والصور التي نقلها في الاستطلاعين. ومن خلال القراءة التاريخية لاستطلاعي سليم زبال عن عُمان، يمكن تلخيص المحتوى التاريخي الذي احتوته تلك الاستطلاعات في الآتي:
الأوضاع السياسية:
لخص زبال الأوضاع السياسية الداخلية التي شهدتها عُمان في الفترة التي شملها الاستطلاعان (ديسمبر 1970-1972م). حيث ألقى الضوء على أوضاع عُمان في عهد السلطان سعيد بن تيمور (ت: 1972م). كما رصد زبال التغير السياسي الذي شهدته عُمان بتسلُّم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في سلطنة عُمان في 23 يوليو من عام 1970م، ومن خلال ذلك التحول رصد زبال صورا حية للفرحة التي عاشها الشعب العُماني بتسلم جلالته مقاليد الحكم من خلال الصور المختلفة التي وثقت فرحة الشعب باحتفالاتهم، ورصد زبال الإجراءات التي قام بها جلالة السلطان قابوس عند تسلمه سدة الحكم في عُمان. فقد شملت تلك الإجراءات تغيير اسم البلاد من سلطنة مسقط وعُمان إلى سلطنة عُمان، وتشكيل حكومة من أبناء الوطن، بتعيين عمَّه السيد طارق بن تيمور رئيساً للوزراء، ودعوة أبناء الوطن للعودة إليه للمساهمة في عملية التغيير وبناء النهضة. كما أوضح زبال الخطط التي ينوي جلالته العمل على تحقيقها على المدى القصير، كتأسيس مجلس للشورى، وتأسيس شركات وطنية لمُختلف القطاعات الاقتصادية والتنموية في البلاد، وتطرق زبال إلى أهم الإصلاحات المزمع تنفيذها في ظفار كمرحلة من مراحل إحلال الأمن والاستقرار فيها، ومنها إقامة مستشفى ومحطة كهرباء وإنشاء ميناء ريسوت. وفي ظل تلك الإجراءات التي اتخذها جلالة السلطان قابوس فإنَّ عام 1970م مثَّل السنة التي انتقلت فيها السلطنة من وضع الجمود والعزلة إلى الانفتاح والمشاركة في السياسات الدولية والتطور المادي للقرن العشرين، وبالرغم من كبر التحديات إلا أن الرهان كبير على قدرة العُمانيين على النجاح واستعادة عظمتهم عبر التاريخ، كما رصد زبال زيارات بعض الوفود لعُمان في ظل الانفتاح الجديد على العالم.
الأوضاع الاقتصادية:
ألقى زبال الضوء على الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي كان يعيش فيها العُمانيون مع ذكر الكثير من الأمثلة، لاسيما وأن الاستطلاعات غطت أكثر من مدينة عُمانية، ومن خلالها تم التطرق إلى الأنشطة الاقتصادية الممارسة في كل من: مسقط ومطرح وصحار ونزوى وسمائل. وركز زبال في حديثه عن الأوضاع الاقتصادية لعُمان على إنشاء وزارة الاقتصاد في 1 مارس 1971 والتي تم إسنادها للسيد فيصل بن علي، وعُقد عليها آمالا في النهوض بقطاع الزراعة وبقية القطاعات الحيوية. كما أشار زبال في وصفه للأوضاع الاقتصادية على الأنشطة الاقتصادية التي شكلت عماد الاقتصاد العُماني في الماضي (الزراعة والتجارة والصناعات اليدوية)، وتلك التي تم الاعتماد عليها حديثاً كالثروة النفطية التي اكتشفت بكميات تجارية في 5 فبراير 1964م.
استعرض زبال القطاع الزراعي وأهميته لعُمان عبر حديثه عن القطاع بالحديث عن الأهمية الزراعية لوادي سمائل وساحل الباطنة، واعتماد العُمانيين على النخلة بصفة خاصة، باعتبار أن الرطب والتمر هو أهم صادراتها الزراعية، كما أشار إلى بعض المشاكل التي كان يعاني منها القطاع الزراعي لاسيما في ساحل الباطنة ومنها: الآفات الزراعية مثل الذبابة السوداء التي قضت على الكثير من شجر الليمون، والمتق الذي قضى على عشرات الآلاف من أشجار النخيل، بالإضافة إلى بعض الآفات التي استهدفت أشجار الموز والمانجو، كما عرض بعض التجارب المتوقع أن ترفع من مستوى القطاع الزراعي كالمزرعة التجريبية النموذجية في صحار.
أفرد زبال مساحة خاصة لمدينة صحار حيث أكد على الأهمية التجارية لميناء صحار عبر التاريخ، مؤكداً تلك الأهمية بالكثير من المعلومات التاريخية التي ساقها المؤرخون والجغرافيون عن مدينة صحار، كما أفرز حديثه عن صحار تحديد المشكلة التي كانت تعاني منها والمتمثلة في هجرة أبنائها إلى دول الخليج المختلفة بسبب الثروة النفطية. كما تطرق زبال لأهمية نزوى كمركز للصناعات اليدوية (الحرفية). كما تم التركيز على الثروة الاقتصادية الجديدة التي تدفقت في عُمان، وذلك بزيارته لأكبر حقل نفطي في منطقة فهود، وإبراز أهم التغيرات التي شهدتها وترافقت مع الثروة النفطية، حيث رصد بالصور الأعمال الإنشائية المتضمنة لتدفق النفط حتى وصوله إلى ميناء الفحل لتصديره للخارج. بالإضافة إلى ذلك ألقى الاستطلاعان الضوء على الخُطط الاقتصادية والمشاريع التي تمَّ بالفعل البدء بها، ومن المشاريع التي بدأ العمل بها فعلياً: ميناء مطرح، حيث تم نسف جبلين كبيرين لاستخدام صخورهما في تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع، وسينتهي العمل فيه في سبتمبر 1971م، بالإضافة إلى دراسة بعض المشاريع التي تم طرحها من قبل بعض الشركات مثل مشروع إقامة خط سكة حديد، وأنابيب نفط، تمتد من الكويت حتى مسقط.
من خلال تلك الاستطلاعات قدَّم زبال صورة مبسطة عن واقع الاقتصاد العُماني إبان تولي صاحب الجلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في عُمان، ورصد بدايات الجهود في إقامة المشاريع والخطط للنهوض بالاقتصاد، كما أشار إلى أهم المشاكل والعقبات التي يعاني منها الاقتصاد العُماني في تلك الفترة وأبرزها: ضعف البُنى التحتية والمرافق العامة، وهجرة القوى العاملة والمتمثلة في أبناء الوطن، وأيضًا عدم وجود رؤية وخطة واضحة للتطوير.
الأوضاع الاجتماعية:
استعرض زبال الأوضاع الاجتماعية في عُمان من خلال تركيزه على تقديم نماذج حية لتلك الأوضاع، فتحدث عن الأوضاع الصحية والتعليمية لعُمان في عهد السلطان سعيد بن تيمور. وبتسلم جلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في عُمان، شاهد زبال تغيراً واضحاً في الخدمات التعليمية والصحية، فيصف الأوضاع التعليمية: “التعليم التعليم سنعلمهم حتى تحت ظل الشجرة، نهضتنا لن تحقق أغراضها إلا إذا صحبتها نهضة تعليمية، كلمات سمعناها من جميع المسؤولين، وزرنا المدارس فشهدنا نهضة رائعة، ففي خلال ستة أشهر فقط ارتفع عدد الطلبة من 600 طالب إلى 8000 طالب، وإلى جانب هؤلاء الطلبة توجد مشكلة مئات الآلاف من الكبار الذين يريدون أن يتعلموا…”. وناقش زبال في استطلاعه: “عُمان مرة أخرى”، الأوضاع المعيشية للناس بكثير من التفصيل من خلال عرض نماذج حيَّة لتلك المعاناة من مناطق مختلفة في عُمان، حيث وصف الأوضاع الصحية والتعليمية في كل من: نزوى وسمائل وصحار. بالإضافة إلى تسليط الضوء على الأوضاع الصحية في نزوى بالتحديد، من خلال مقابلته التي أجراها مع الطبيب الهندي الذي يعمل في نزوى، حيث شرح له الأوضاع الصحية في نزوى بالتفصيل، ابتداءً بالأمراض المنتشرة (التراخوما، السل، الملاريا، الأنيميا، الإسهال الحاد، الدود المعوي)، بالإضافة إلى ضعف الخدمات الصحية (عدم وجود مستشفى وكادر طبي ووسائل مواصلات). كما رصد زبال التحول في الخدمات التعليمية، حيث تم تحويل خمسة مساجد إلى أول خمس مدارس تفتح في نزوى، ورصد التعليم في صحار حيث بدأ بافتتاح مدرسة الإمام أحمد بن سعيد الابتدائية، واتخذت من المبنى القديم للجمارك والموانئ مقرا لها، كما رصد عدد المدارس الذي سوف تُفتتح في العام 1972م والبالغ عددها 42 مدرسة منها 10 مدارس للبنات.
ومن خلال تلك الأوضاع التي وثقها زبال بالصور، يمكن الخروج برؤية عن الواقع المعيشي الصعب الذي كان يعيش فيه العُمانيون، فهناك تفشٍ كبير للجهل والأمراض بين الناس، لانعدام الخدمات الصحية والتعليمية، وفي الجهة المقابلة هناك محاولات حثيثة ومتسارعة لتغيير تلك الأحوال عبر الإسراع في توفير أهم خِدمتين: الصحة والتعليم، وهو ما رصده زبال في استطلاعيه. ومما هو جدير بالذكر المقابلات الشخصية التي أجراها زبال مع عدد من المسؤولين في تلك المدن التي زارها، وذلك للوقوف على أهم الخدمات المقدمة للشعب، منها: المقابلة التي أجراها مع الشيخ هلال بن حمد السمار البوسعيدي والي نزوى، ومحمد بن زاهر بن غصن الهنائي والي سمائل، ومالك بن محمد بن حمد العبري قاضي صحار.
وفي هذا الإطار ينبغي الإشارة إلى عدد من العادات الاجتماعية التي تميز بها المجتمع العُماني، والتي نقلها زبال من خلال الصور في إطار حديثه عن الأوضاع الصحية والتعليمية، ومنها: البرزة، والتدريس تحت الأشجار، والعادات المتمثلة في الضيافة، وعادات المرأة العُمانية في اللباس، وعادات العُمانيين في الاحتفالات. ومن خلال تلك الصور المعبرة عن الأوضاع الاجتماعية عُمان بين عامي (1970-1971م)، يمكن تكوين صورة عن أسلوب حياة العُمانيين في تلك الفترة، والخطوات التي بدأوا يشاهدونها في سبيل تغيير حياتهم للأفضل، وذلك عن طريق تحسين الخدمات بمختلف أنواعها، لاسيما الصحية والتعليمية.
منهجية سليم زبال في استطلاعيه عن عُمان:
قدَّم زبال المحتوى من خلال استطلاع صحفي هو أشبه بالرحلة، والتي تعد مصدرا من المصادر التاريخية، فقام بتقديم وصف بسيط ودقيق لمراحل الرحلة والتجوال في المدن التي زارها في عُمان: (مسقط ومطرح ونزوى وسمائل وفهود وصحار والبريمي). كما استعان زبال بالمصادر التاريخية لتوضيح بعض الأحداث، وإعطاء نُبذ مختصرة عن بعض المدن والصور التي التقطها، وهو ما يتضح من خلال النصوص التي قدمها، وقد ذكر بعض المصادر والمراجع التاريخية التي استعان بها، مثل كتاب: “العنوان في تاريخ عُمان” للشيخ المؤرخ سالم بن حمود السيابي، كما نقل عمَّا كتبه الرحّالة والجغرافي ياقوت الحموي وابن بطوطة. كما استعان زبال بالمقابلات الشخصية كنوع من المصادر للمعلومات التي أوردها في الاستطلاع، حيث أجرى الكثير من المقابلات الشخصية لتكون مصدرا موثوقا للأوضاع التي يُغطيها الاستطلاع، وهذا يضيف الكثير من المصداقية والموثوقية للمحتوى المُقدم. وتعتبر المقابلة التي أجراها زبال مع صاحب الجلالة السلطان قابوس الأكثر أهمية، سيما وأن طبيعة الاستطلاع والفترة الزمنية التي أُجري فيها تعد فترة انتقالية فارقة في تاريخ عُمان الحديث. كما أجرى زبال العديد من المقابلات الشخصية مع أبرز المسؤولين، منهم: السيد طارق بن تيمور(رئيس الوزراء)، والشيخ سعود بن علي الخليلي (وزير التربية والتعليم)، والأديب عبد الله الطائي (وزير الإعلام والشؤون الاجتماعية والعمل)، والسيد فيصل بن علي (مدير التعليم بالوكالة)، ومحمد بن أحمد (وزير العدل)، وإسماعيل خليل الرصاصي (مدير وزارة الداخلية)، وهلال بن حمد السمار البوسعيدي (والي نزوى)، ومالك بن محمد بن حمد العبري (قاضي صحار).
وأهم ما ميَّز الاستطلاعين كثرة الصور مع وجود وصف تفصيلي للصورة، وتحديد الإطار الزمني لها. فمن الملاحظ غنى الاستطلاعين بالصور المُختلفة التي وثقت الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تم مناقشتها في الاستطلاعين، وهذا أضاف موثوقية ومصداقية أكبر للمحتوى. هذا وتغلب اللغة الصحفية على الأسلوب الذي قُدم به الاستطلاعان. ويمكن القول إن اللغة السهلة التي قدمها زبال في استطلاعيه، والقالب الذي جاءت من خلاله، تعد وسيلة جذب للقارئ سيما غير المتخصص، ولا تخلو تلك اللغة من المبالغة في تصوير بعض المشاهد والأحداث. كما أن زبال كان شاهد عيان للأحداث التي وثقها في استطلاعيه، وهذا يضيف مصداقية أكبر للمحتوى، والذي بات اليوم وثيقة تاريخية يجب أن تخضع للنقد التاريخي.
ختاماً: وَثَّقَ استطلاعا سليم زبال أوضاع عُمان السياسية والاقتصادية والاجتماعية إبان المرحلة التي تسلم فيها صاحب الجلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في سلطنة عُمان في 23 يوليو 1970م. كما أوضح الاستطلاعان رؤية ومنهجية صاحب الجلالة السلطان قابوس في عملية بناء عُمان. ويمكن القول إن منهجية الاستطلاعات الصحفية تتقارب مع منهجية المصادر التاريخية، لذا تعد مصدرا مهما للباحث في التاريخ بشرط إخضاعها للنقد التاريخي. وهنا تظهر أهمية دراسة المحتوى التاريخي لعُمان في المصادر الإعلامية عامة، والورقية بشكل خاص، بما يتناسب والمنهجية التاريخية في التعامل مع المصادر المختلفة.
د. أحلام بنت حمود الجهورية