التاريخ الجديد هو عنوان كتاب للمؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (١٩٢٤-٢٠١٤م)، نُشرت طبعته الأولى في عام ١٩٧٨م، وصدرت الطبعة الثانية منه في عام ١٩٨٨م. يتضمن الكتاب عشر مقالات متنوعة تُقدم رؤية مختلفة للكتابة التاريخية، والتي يمكن التعرف على مضمونها من خلال عناوين تلك المقالات: التاريخ الجديد، التاريخ والأمد الطويل، تاريخ البُنى، الأنثروبولوجيا التاريخية، تاريخ الذهنيات، تاريخ الثقافة المادية، التاريخ الآني، الماركسية والتاريخ الجديد، تاريخ الهامشيين، تاريخ المتخيّل.
يتطرق لوغوف في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه إلى الأزمة التي تعيشها العلوم الاجتماعية بصفة عامة وتؤثر على “التاريخ الجديد”، وأشار إلى أن تبسيط التاريخ وإشاعته بين الناس مُحتكر من طرف رواد التاريخ التقليدي. كما يقف قليلاً عند مصطلح “التاريخ الجديد” قائلاً: “تبدو عبارة التاريخ الجديد في حد ذاتها مهينة لدى الكثيرين، لأنهم يعتقدون أن هذا التصنيف يتضمن إلغاء للتاريخ كما كتبه السلف وتعتيماً عليه”. وهو ينفي هذه التهمة من خلال إبراز دور من سبقه من المؤرخين في استنباط المناهج والتقنيات ووضع أسس للكتابة التاريخية ونشر مصادر جديدة وهذه الجهود كانت أساساً للأفكار التي نادى بها “التاريخ الجديد”.
يذكر لوغوف في مقدمته أيضاً أن التاريخ الجديد كمشروع ورؤية لم يكن ليخرج لولا توفر ثلاثة عوامل رئيسة وهي:
– مجلة الحوليات التي أُسست في عام ١٩٢٩م والتي كانت فضاء لأبحاث علمية تناولت أفكار التاريخ الجديد فكانت لبنة أساسية له.
– وجود مؤسسة بحثية مساندة وهي المدرسة التطبيقية للدراسات العليا وتُعرف اليوم بــــ “مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية”.
– وعي المؤرخين الفرنسيين الذين دفعوا الكتابة التاريخية للأمام.
إن الفكرة العامة التي أراد لوغوف إيصالها في مقدمته تتمثل في أن العداء والنقد الذي واجه أفكار التاريخ الجديد هو رد فعل طبيعي مستدركاً ذلك بقوله: “يظل لوسيان فافر على حق فالمعارك من أجل التاريخ ما زالت متواصلة”.
كما أود التوقف قليلاً عند مقدمة الترجمة لهذا الإصدار، والتي كتبها الدكتور محمد الطاهر المنصوري ومن خلالها قدّم لمحة موجزة وعميقة لمضمون الكتاب مع تساؤلات عميقة في ذات الوقت، حيث بدأ مقدمته بتساؤل كبير مفاده: لماذا فشلت الكتابة التاريخية وفق التصور الخلدوني في العالم العربي الإسلامي سيّما وأن المنهج الذي نادى به رواد التاريخ الجديد في النصف الأول من القرن العشرين قريب من المنهج الذي نادى به ابن خلدون (ت: ٨٠٨هـ/ ١٤٠٦م) في القرن الخامس عشر الميلادي. ويذكر المترجم بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون: “اعلم أنه لما كانت حقيقة التأريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعة الأحوال”. كما يطرح المنصوري تساؤلاً آخر عن مدى تأثير “التاريخ الجديد” اليوم في الكتابة التاريخية في العالم العربي، وهو يرى أن تأثيرها محدود عموماً، وأن هذا التأثير في بلاد المغرب أكثر من بلاد المشرق، ويعزو ذلك إلى طبيعة العلاقة الجامعية -سيما في المغرب وتونس- بالجامعات الفرنسية.
ويرى المنصوري في مقدمة ترجمته أن الروح العامة للكتاب تتناول القضايا التاريخية التي تتعلق بأوروبا وعلى وجه الدقة “فرنسا”؛ لذلك ذهب إلى أن الكتاب يمكن تسميته “التاريخ الجديد الفرنسي”. كما يُشدد على أهمية الاستفادة من الكتاب قائلاً: “… على الرغم من كل ما يمكن أن يوجه من نقد إلى الكتاب، فهو عمل يستحق النظر ويستحق المماثلة والمقايسة والتطبيق خارج المجال التاريخي الأوروبي، لما يقدمه من طرح يهم الكتابة التاريخية”.
في ضوء ما سبق، يمكن تلخيص المرتكزات الرئيسة التي يُنادي بها رواد “التاريخ الجديد” وفقاً للكتاب في الآتي:
– الاعتماد على أنواع جديدة من المصادر كالتاريخ الشفوي والتراث المادي والوثائق التاريخية بمختلف أشكالها وأنواعها، حيث نادى التاريخ الجديد بالتوسّع في حقل الوثيقة التاريخية وهو “يعيش اليوم ثورة وثائقية”.
– معالجة مواضيع جديدة لم يتم دراستها بعمق أو لم تُدْرس بتاتاً من خلال التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية عوضا عن الجوانب السياسية التي أُشبعت بحثاً.
– دراسة فئات اجتماعية لم تلق اهتماماً: تاريخ المجانين، وتاريخ الرعاة، وتاريخ اللصوص، وتاريخ المرأة، وتاريخ الفلاحين (المزارعين) وغيرها من الفئات. وهذه الفئات (المهمَّشة) لم تكن حاضرة أو كان حضورها خجولاً في المصادر التاريخية التقليدية كالحوليات والسير والتراجم.
– دراسة الظواهر الاجتماعية والذهنية ذات الأمد الطويل، وتفادي المعالجات القصيرة كتاريخ الأسر أو السلالات أو الشخصيات.
– الدعوة إلى التكامل مع العلوم الأخرى والنظرة الشمولية للظاهرة أو الموضوع التاريخي، وهذا يتطلب الاستعانة بعلوم أخرى (الاقتصاد والاجتماع والأدب والجغرافيا والقائمة تطول).
بعد هذا العرض المقتضب لكتاب “التاريخ الجديد” لا بد من تساؤل مفاده: كيف نكتب تاريخاً عُمانيا ًجديداً؟ من وجهة نظري يمكن أن يتم ذلك من خلال الآتي:
– الاستناد إلى الأفكار والمرتكزات الرئيسة للتاريخ الجديد كالتركيز على أنواع جديدة من المصادر: كالمدونات الفقهية (بمختلف صورها ومسمياتها: جوامع/ فتاوى/ أحكام/ مسائل فقهية)، والتاريخ الشفوي والتراث المادي (المخطوطات/ نسخ الأفلاج/ شواهد القبور)، وسجلات المحاكم.
– الاستفادة من الوثائق التي تفتح الكثير من الآفاق للباحث من ناحية المواضيع ومن ناحية الفئات التي يتم تناولها، بالإضافة إلى الاستفادة من المادة التاريخية الجديدة التي يوفرها التاريخ الشفوي.
– وجود دعم مؤسسي قائم على رؤية منهجية علمية، وهنا نحن في مسيس الحاجة إلى مركز أبحاث وطني يتبنى هذه الرؤية الجديدة التي تجعل من التاريخ علماً ومنتجاً ثقافياً، يتوازى ذلك مع تأسيس مجلة علمية تُعنى بأفكار التاريخ الجديد تتبع لهذا المركز البحثي.
المرجع:
لوغوف، جاك. التاريخ الجديد. ترجمة وتقديم: د. محمد الطاهر المنصوري، ط١، المنظمة العربية للترجمة، بيروت: ٢٠٠٧م
د. أحلام بنت حمود الجهورية