قبل يومين التقيت زميل اردني فلسطيني .. كنا معا في مدرسة واحدة في العام 91- .. كان في تلك الفترة في الثانية والثلاثين من العمر ..
كان يتمتع بقوة بدنية ظاهرة .. كان جسده ككتلة صلبة متماسكة .. مصحوبا بنضارة في الوجه .. وجمالا في الصورة … متمتعا بهمة في الحياة .. ورغبة في الثبات و البقاء ..
الا أنه كان يحمل بعضا من الكبر .. وكمية من الغرور … فكان يرى نفسه فوق الجميع .. فتراه يحادثنا ببطر و وتعال … ويمشي بيننا بإعجاب وخيلاء .
وعموما تلك هي مزايا مرحلة الشباب وخصائصها ..
كلنا كنا نملك تلك الصلابة والعزيمة .. وحب الذات و الحياة لكن بشكل متفاوت وبنسبة مختلفة كلا حسب تربيته ..
فشهيتنا للحياة كانت منطلقة بصورة ظاهرة .. ورغبتنا فيها كانت عارمة وجارفة .
صادفت زميلي الفلسطيني بعد ثلاثين عاما وهو متهالك .. كالبيت الخرب .. يحاول أن يضحك بصعوبة .. ويتشدق بمعاناة كبيرة ..
تفتت الأحلام .. وأنطفاءت الآمال .. وبقيت أمنية واحدة بارزة في عينيه مرسومة في شفتيه .. وهي طلب الستر في البقية الباقية من العمر .. حسن الخاتمة .
هذه صورة كاريكاتيرية للإنسان حين يقبل على عمر الستين ويدخل في مرحلة الشيخوخة ..
وهي صورة طبيعية جدا وصادقة جدا ..
فالله حدد مراحل العمر أعطى كل مرحلة خصائصها وصفاتها .
الاندثار والتضعضع لابد منه مع تقدم العمر …
تبقى هناك المعنويات فقط .. هي العامل الحاسم في بقاء صلابة الإنسان ونشاطه .
الكل سيندثر .. والجميع سيتضعضع .
من لم يضعضعه المرض .. وينخره السقم .. سيأتي الهم .. ويلتهم كل ما بداخله ..
ومن ينجو من الهم ويفلت من براثنه .. ستسمح له الحياة بالمضي قليلا .. ثم ستكنسه الأيام والسنين المتتالية ..
فلسفة الشيخوخة فلسفة عظيمة في الحياة ..
إنها مرحلة من أجمل مراحل العمر ..
فهي مرحلة التوقف عن الركض واللهاث خلف هذا السراب الزائل الذي يسمى الحياة ..
هي مرحلة الهدوء والسكينة .
هي مرحلة الوعي التام .. والنضج الخالص .
هي مرحلة التأمل والتفكر والعظة والندم والاعتبار .
منظر الشعر الابيض ..
والجلد المترهل ..
والعينين الصغيرتين المنطفئتين .. والرأس الاصلع .. والإصابع الضعيفة المنتفضة..
والشفتين الميتتين الكالحتين .
هذه كلها صور إلهية و دروس ربانية لها حكمة سماوية عظيمة .
فمهما بلغت قوة الإنسان وصحته وصلابته .. وسلطته ونفوذه .. سيأتي يوم .. ويلتهم الزمن ..
كل قوته وجبروته .. ويسلبه صحته وماله وسلطته ..
ليتذكر الإنسان الكيس الفطن فقط بأن الدنيا هذه هي ملك لخالقها فقط .. وما انت أيها الإنسان إلا مخلوق ضعيف .. مكتوب عليك الفناء .. ومقرر عليك الزوال والاندثار .
فتتعجب حين ترى الغطرسة تتجول في المؤسسات والشوارع .. وتشاهد الخيلاء تمارس بكل إتقان ومهارة في الاروقة والمكاتب ..
تندهش حين ترى الكبر والغرور يمشي امامك بكل وقاحة وبذاءة ..
وترى الزهو و البطر يتجول حولك بكل حقارة ودناءة .
فأين هؤلاء من دروس الحياة …
أين عقولهم من وقائع الدنيا واحداثها ..
ألم يشاهدوا مصير الطغاة ..
ألم يقرأوا نهايات الملوك والعتاة .
ألم يروا بأم أعينهم نهاية الجبابرة واللصوص والعصاة .
ألم يعلموا بأن الكبرياء لله وحده ..
وأن العظمة لله وحده ..
وأن الجبروت لله وحده ..
سبحان الله الذي وهبنا الشيب .. والضعف .. والوهن ..
والحمد لله الذي سلط علينا المرض .. والسقم .. والفناء .. لتكون لنا عبرة وعظة .. وصفحة نقرأها في كل صباح .. وآية نرتلها في كل مساء ..
ولتكون لنا سدا منيعا من الغرور .. والبطر على خلائق الله .. وحاجزا شديدا من الكبر في أرض الله .
( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ..
صدق الله العظيم .
عبدالله الفارسي