قررت منذ سنتين زيارة أندونيسيا .. ذاك البلد الكبير العظيم .. المعبأ بالبشر .. والفقر .. والماء .. والأشجار.. والزلازل .. والبراكين ..
أندونيسيا العجيبة ..
حين تنزل مطارها تشعر للوهلة أنك تمشي في قارة عظيمة .. وأرض غريبة .. رهيبة .
لوحة فاتنة من الجمال
..
صورة باهرة من الروعة والإتقان .
حين تركب سيارة الأجرة لتعبر بك شوارعها الثعبانية الملتوية .. متوجهة بك إلى داخل جاكرتا..
مدينة العشرين مليون إنسان ..
حين تدخل جاكرتا أول سؤال يتبادر إلى ذهنك
كيف يعيش هؤلاء البشر ؟
أين يختفون حين يحل الظلام ..؟
وماذا يأكل كل هولاء الناس .؟.
منظر جاكرتا منظر تقشعر منه الأبدان ..
نزلت فندقا رخيصا من فئة الثلاثة نجوم ..
وفي الصباح .. نهضت كعصفور نشيط ..
مليء بالحماس .. والثبات .
لبست شورت برمودا الطويل .. وتي شيرت أبيض أنيق .. وحذائي ال Nike الجديد
وانطلقت في شوارع المكان .. أتسكع على سجيتي .. كولد صغير ..
الشعب الإندونيسي عموما شعب طيب .. مسالم .. برئي .. خال من الخبث والأحقاد والضغائن .
شعب من السهل جدا التعايش بينهم .. والتأقلم معهم .
نادرا ما يعترض طريقك أحد .. أو يضايقك إنسان .. حتى المتسولين مسالمين للغاية .. إن أعطيتهم ضحكوا .. وإن منعتهم أبتسموا .
وانا في قمة تسكعي .. وذروة تجولي في الشوارع .. سمعت رجلا يتحدث في هاتفه النقال..
كان يتحدث بلهجة سعودية لذيذة .
فتوقفت .. منتظرا أن ينهي مكالمته .
انتهى الرجل من إتصاله .. فسلمت عليه .. فرحب بي وبسلامي .. وعانقني .
كان ذلك” سالم الإحسائي” .
قدم سالم إلى أندونيسيا في العام ١٩٩٥ …
فتح مكتبا لتوريد عاملات المنازل ..
خاض غمار الحياة في أندونيسيا لوحده .. دون مساعدة من أحد ..
واجه صعوبات جمة في التأقلم مع الواقع الأندونيسي والتكيف معه كتاجر وصاحب مكتب ..
ولكنه تجاوز كل العقبات .. وقفز فوق كل الصعاب ..
أتقن اللغة الأندونيسية بمهارة .. فأخذ ينطقها كأهلها..
كان العمل في مجال توريد العاملات إلى السعودية مربحا للغاية في حقبة التسعينات وأوائل الألفية ..
ولكن مع الوقت أخذت هذه التجارة تتعرض للمشاكل والضغوط بسبب سوء المعاملة وجرائم القتل التي تتعرض لها العاملات في الخليج .. والتي تسببت في إغلاق كثير من مكاتب توريد العاملات في أندونيسيا .. ومنعت الحكومة الإندونيسية توريد مواطنيها للعمل في الخليج إلا بشروط صارمة.
كان سالم الإحسائي أحد هؤلاء المتضررين .. فقد أغلق مكتبه .. وفقد مصدر رزقه الوحيد ..
ولكن سالم .. لم يعد إلى السعودية .. ولم يفكر في ذلك أبدا .
كان قد تكيف في الحياة في أندونيسيا.. وأصبح كسمكة أندونيسية لا يمكنها الخروج من المياة الأندونيسية
قال لي لو أعيش شحاتا في أندونيسيا أفضل لي مليون مرة من العودة إلى وطني ..
لا يمكن أن أترك هذه الجنة ..!!
لقد خطط سالم لكل الإحتمالات .. وتوقع كل النتائج ..
فقد تزوج من فتاة أندونيسية كانت تعمل معلمة في مدرسة إبتدائية .
بنى لها بيتا جميلا في منطقتها ” تانجيرانج ” والتي تبعد عن جاكرتا 320 كم … حين كان مكتبه يدر عليه الآف الدولارات .
دلل سالم عروسه دلالا عظيما .. وكسب حبها .. وأقتحم قلعتها .. وسيطر على قلبها .. وأنجب منها ثلاثة أطفال ..
فحين تعشق المرأة الرجل .. تعطيه كل ما تملك .. وتمنحه كل ما عندها..
ذهبت مع سالم الإحسائي .. إلى بيته في مقاطعة ” تانجيرانج ” حيث تبعد بالسيارة حوالي ساعة وربع عن جاكرتا ..
مقاطعة ” تانجيرانج ” لا يمكن أن يصف قلمي الصغير جمالها ..
كان سالم يملك دراجة بخارية .. كان يقول لي تعال أركب لترى الجنة قبل أن تموت أيها العماني ..!!
فكان يردفني خلفه في دراجته الصغيرة وينطلق بي في تلك الجبال الخضراء .. والسهول الغناء .
شوارع جميلة .. نظيفة .. رائعة .. مغسولة بالمطر ..
مخيوطة بالأعشاب .
كان المطر يغسلنا طوال الطريق .. ويداعبنا الرذاذ طول النهار .
كنا نتوقف لنأكل الذرة المشوية في الطريق ..
كانت أكشاك شوي الذرة تتناثر على طول الشارع الجبلي المسور بالإشجار الخضراء العظيمة والمزارع الشاسعة الكبيرة ..
لم أذق ألذ وأشهى من تلك الذرة المشوية في حياتي ..
كان يجلبها المزارعون طازجة يوميا من مزارعهم .. فكان منظرها يخلب الألباب .. ورائحتها تسيل اللعاب ..
وطعمها يطفيء الجوع وينسيك العذاب ..
لم أصادف متسولا واحدا في تلك المدينة الهائلة..
الجميع فقراء .. لكنهم سعداء .
والشيء الذي لفت نظري وأذهلني .. أن كل الطرق معبدة ..
وكل البيوت .. حتى تلك البعيدة .. القابعة على قمم الجبال .. كلها مربوطة بطرق مرصوفة .. و مزودة بالكهرباء ..
وشبكات الهاتف النقال في ذروة قوتها .. وبسعر زهيد جدا يكاد لا يذكر ..
كان سالم يقول لي : عبدالله هل من يعيش هنا .. سيفكر أن يعود للرمال واللهب والصحراء ..
فأرد عليه : .. مستحيل .. من يعيش هنا .. لا يمكن أن يختار مكانا آخر في هذا الكوكب ..!
يقول سالم : .. أنا حاليا بدون عمل .. زوجتي راتبها لا يتجاوز المائة وخمسين دولارا …
ولدينا مزرعة صغيرة للقصب .. تدر علينا مبلغا بسيطا كل شهر
هذا الدخل الشهري البسيط يكفينا أن نستمتع بالحياة شهرا كاملا .. ويبقى منه بعضا من الدولارات ..
سالم الإحسائي .. كان متزوجا قبل أن يقرر السفر و الحياة في أندونيسيا .. وله أربعة من الأبناء .. كلهم يعملون في السعودية ..
يرسلون له مبلغا شهريا.. من باب المساعدة لوالدهم .. والبر به ..
يزورهم كل سنتين شهرا واحدا .. يجدد معهم رابطة الأبوة .. ويطفيء بينهم لهيب الشوق والمحبة ..
وقبل إنتهاء الشهر يركض سالم إلى المطار .. فقلبه معلقا بتلك الجنة ..
أندونيسيا..
سألني سالم ..
لماذا لا تتقاعد .. وتكمل البقية الباقية من عمرك التعيس هنا في هذه الجنة أيها العماني ؟
فقلت له : المتعوس متعوس يا صديقي .. ولو عاش في الفردوس.
ولكني سأفكر مليا في عرضك الجميل هذا ..
وسأحاول الفرار والسفر ..
والنجاة والهرب .
شكرا سالم ..
لقد علمتني أشياء عظيمة .. في إيام قليلة .
حفظك الله .. ومتعك بجنتك.
عبدالله الفارسي