..
الجدات كائنات سماوية .. روحانية ..
إنهنَّ أيقونات الحب والرقة .. والحنان .
الجدة أم ثانية .. وأحيانا تتقدم الأم في المرتبة فتكون أما أولى .. أما حقيقية ..
قلبها يتدفق حبا.. وحنانا على أحفادها ..
حب يتجاوز حب الأم ..
وحنان يعلو حنان الأم ..
أنهن حقا مخلوقات سماويات .. ملائكيات .
توفيت جدتي في العام 1977 .. إثر إصابة في عينها اليمنى .. عانت بسببها آلاما وأوجاعا لم يتحملها جسدها الضعيف .. وروحها الهشة .
كنت حينها في التاسعة من عمري .
كنت طفلا شقيا .. شيطانا صغيرا ..أعبث في كل شيء .. وأدمر كل شيء أمامي ..
فكانت أمي تحمل عصا لأجلي .. لأجل تأديبي وإسكات مشاغباتي .. وإطفاء شيطنتي …
فكان صدر جدتي هو ملاذي من عصى أمي .. فتحميني .. وتخفيني .. وتقف سدا مانعا أمام غضب أمي .
فكل يوم أحصل على ما لا يقل عن عشرين جلدة من عصى أمي كل صباح .
وفي المساء أمسح ظهري .. ومؤخرتي .. وأنام .. وأنهض في الصباح وكأن شيئا لم يكن .. جاهزا لاستقبال المزيد من الجلد والضرب.
كنت أستخدم يدي بشكل عجيب ..
فكأن شيطانا كان يستوطن يدي اليمنى .. أكسر بها كل شيء .. والأخطر أنني كنت أرمي بها كل شيء .. كان الحصى ملتصقا بيدي اليمني .. أضرب به كل شيء .. قطط ..كلاب .. طيور … كنت مجرما صغيرا .. لم تختفي هذه الشيطنة عني إلا بعد أن حدث معي حدثٌ مؤلمٌ .. فانقلبت إلى شخص آخر وكائنٍ مختلف تماما عما كنت قبلا .
…
في صباح حزين … مزعج .. لا أنساه أبدا .. كان الشيطان يسكن يدي .. ويمرح في
شرايينها ..
كنت أصوب الحصى على حفرة فوق باب غرفة جدتي ..
كانت تلك الحفرة شبحا دائما لتصويباتي الدقيقة .
كنت أرمي الحصى بقوة شديدة .. وأبتهج كلما أصبت الحفرة ..
فجأة .. وفي لحظة قدرية مكتوبة خرجت جدتي المسكينة من باب غرفتها .. في نفس اللحظة التي أطلقت فيها حصاتي بقوة الرصاصة .. فأخطأت الهدف .. فوقعت على عينِ جدتي اليمنى ..
فصرَخَتْ متألمة متوجعة .. باكية .
فركضت أمي من مطبخها .. نحو جدتي .. ومسكتها قبل أن تسقط .. مددتها على ظهرها .. ومسحت عينها بوشاحها المتسخ ..
وأحضرت لها ماء وملحا .. غسلت مكان الإصابة .. وحاولت إيقاف تدفق الدم .. وجدتي تتألم .. وتئن.. وتتوجع ..
وأنا لم أتحرك من مكاني .. أصبحتُ تمثالا طينيا صلبا منصوبا في حوش البيت ..
وجاءت أمي غاضبة تحمل عصاها .. وانهالت عليَّ ضربا وركلا .. وشتما .. وأنا لا أشعر بشيء ..
واقف .. جامد كصخرة .. كنت أفكر في جدتي .. جدتي المسكينة .. الرقيقة .
وحين أدركت بأن جدتي فقدت عينها .. فقدت كل سعادتي .. وفقدت كل طفولتي .. وتحولت فجأة من طفل صغير مشاكس .. مرح .. مشاغب .. إلى رجل كبير حزين .. ملتاع .. مكظوم ..
فقدت جدتي عينها بسببي ..
ومع ذلك .. كانت تحضنني .. وتقول لي : ( لا عليك يا حبيبي.. هذا أمر الله يا حبيبي .. لا تحزن .. مازال لدي عين أخرى .)
كانت عينها اليمنى تنزف قيحا .. و دما ..
وكانت تقبلني ..
كانت تتألم ألما فظيعا في الجانب الأيمن من وجهها .. ولكنها كانت تخفي ألمها .. وتدفن وجعها وعذابها عنا جميعا …. كانت تضحك معي .. وتداعبني ..
يالله .. أية مخلوقة أنت يا جدتي الحبيبة .. أي روح تملكين .. أي جمال تدسين في قلبك .. أي عظمة تسكن صدرك .
…
بعد عدة أشهر من معاناة جدتي ..
نهضت صباحا على صراخ وبكاء أمي وخالاتي ..
لقد ماتت جدتي متأثرة بذلك الجرح العميق الذي سببته لها في عينها ..
ركضت نحو جسدها الممدد .. المسجى في فراشها… المغطى بشالها الأحمر الجميل ..
كانت غرفتها تعبق برائحتها الجميلة .. رائحة الورس الذي كانت تدهن به ثيابها وفراشها .. وسجادتها العتيقة .
سحبت الوشاح الذي يغطي وجهها .. وحضنتها .. ومت في جسدها .. التصقت بها .. قلت لهم دعوني معها .. ادفونني معها .
حاولت النسوة انتزاعي من جسدها النحيل .. فلم يستطعن لذلك سبيلا ..
فجاء أبي وأخي .. ورفعوني من فوقها .. واقتلعوني من حبها ورائحتها ..
من شدة لوعتي وحزني عليها .. أنبني ضميري وعذبني عذابا عنيفا .. فقررت قطع يدي اليمنى .. يدي المجرمة التي أعتدت على أجمل وأرق مخلوقة كانت في عالمي .
أحضرت سكينا حادة .. ووضعت يدي اليمنى على عتبة الباب .. وقبضت السكين بيدي اليسرى .. وحاولت أن أضع السكين على معصمي ولكن يدي اليسرى لم يكن هناك “شيطانا” يسكنها .. كانت يدا طيبة .. يدا هادئة .. فأنتفضت وأرتعشت ولم تتمكن من قتل أختها .. فسقطت السكين منها .
فدخل أبي فجأة .. ورآني على تلك الهيئة .. فهرع نحوي وأبعد السكين عني .. وحضنني .. وقال لي بكل هدوء .. وخشوع .. ويقين ( جدتك كبيرة في السن .. لقد ماتت وانتقلت إلى رحمة ربها .. أنت لم تقتلها .. ولكن الله أختارها لتكمل حياتها في ذلك العالم الجميل .. فلا تعذب نفسك .. جدتك الآن في سعادة كبيرة .. وراحة عظيمة ) .
..
فقدت بفقدانها قسطا كبيرا من الحنان .. وكما هائلا من الحب
.. كانت تزودني به جدتي ..
وتحقنني به آناء الليل وأطراف النهار ..
الجدة
حب لا يوصف ..
وحنان لا يتوقف ..
..
جدتي ..
سامحيني أيتها العظيمة ..
سامحيني أيتها الرقيقة الحميمة ..
كم أشتاق إلى حضنك .
وكم أشتهي رائحة الحب في صدرك .
رحمك الله رحمة واسعة
عبدالله الفارسي