في كل يوم تجد رسالة جماعية أو لوحة أو إعلانًا للتبرع لبناء مسجد، أو جامع، حتى خلنا أنَّ بناء دور العبادة هو فعل البر الوحيد الذي يجزي الله النَّاس عنه أجرا، وكادت القرى الصغيرة تنوء بالمساجد، وتغص بالمصلّيات، وأصبح لكل تجمعٍ سكنيّ مهما كان قليلاً، مسجد أو أكثر، وتنافس البعض في البناء ليس لغرض الأجرِ والثواب، بل أصبح هدفهم كسب شهرة مُعينة، أو لإعلاء اسم قبيلة، أو لوضع اسم صاحب المسجد على لافتته، أو لغرض دعائي شخصي، أو لمنافسة فرد على مكانة اجتماعية، أو للفت الانتباه، أو لصرف المُصلين عن جامع آخر.. فخرج الأمر من كونه (صدقة جارية) إلى نوع من التباهي، والتفاخر.
وفي المُقابل ينام بيننا أسرٌ فقيرة في (منازل) مهترئة، وبيوتٍ تكاد تسقط على رؤوس قاطنيها، وتحت أسقفٍ لا تقي برد الشتاء، ولا حرَ الصيف، تتضوّر جوعاً، وتسأل اللهَ الستر والعفاف، غير أنَّ فاعلي الخير لا يرونهم، ولا يبحثون عنهم، ولا يعيرونهم التفاتة، فبناء المساجد بالنسبة للبعض هو الأولوية القصوى، والغاية الكبرى، وهو فعلُ البرِّ الوحيد الذي يسعون إليه، ويكسبون الأجر والثواب من خلاله ـ حسب اعتقادهم ـ، وقد يبنون مسجدا ضخما، يكلف مئات الآلاف من الريالات، بينما ينام جار هذا المسجد جائعًا، عارياً، لا يلقى قوت يومه، ولا يجد مسكناً لائقاً له ولأسرته الفقيرة!!.
ولعل قصة الرجل التي تمَّ الكشف عنها قبل أيام، والذي يعيش هو وأسرته في (عُشةٍ) طوال سنوات تُعد نموذجاً حيّا لما نتحدث عنه، وهي ليست القصة الوحيدة، وليست الأخيرة، ففي كثيرٍ من المناطق توجد بيوت تكاد تنهار على رؤوس ساكنيها، وأسرٌ لا تجد قوت يومها، بينما يغض المجتمع النظر عنهم، ليلتفت إلى بناء مسجدٍ ثالث أو رابع في قرية صغيرة، لا يتعدى سكانها العشرات، والتي هي ليست بحاجة لدارِ عبادةٍ جديد، بل هي بحاجة لمن يلتفت إلى فقيرٍ معوزٍ، أو محتاجٍ متعفّفٍ، أو مديونٍ ليس بينه وبين السجن سوى يومٍ وليلة..فأيّ العملين أهم؟..وأيّ البناءين أجدى وأنفع للنَّاس؟!
قد يقول البعض إنَّ الحكومة مسؤولة عن هذه الأسر الفقيرة، وتصرف لهم معاشا شهريا، ولدى وزارة الإسكان برنامج للمساعدات الاجتماعية يهتم بمثل هذه الفئات، والواقع يقول إن إجراءات الحكومة في هذه الجوانب بطيئة، وطابور المستحقين طويل، والمعاشات الاجتماعية ليست كافية، وتحتاج إلى إعادة نظر، ورغم أن هناك بعض رجال الأعمال وجمعيات الأعمال الخيرية الذين يقومون ببناء منازل للمعسرين، غير أنَّ كل هؤلاء محكومون بميزانية سنوية، وتعتمد (الجمعيات) على تبرعات أهل الأيادي البيضاء، وهي تقوم بتوزيع ما يصلها عبر قوائم طويلة حسب قدرتها، ورغم ذلك فإنَّ هذا كلّه لا يعفي هؤلاء الذين يسارعون ببناء المساجد من مسؤوليتهم تجاه مثل هذه الأسر المكسورة الجناح، إن كانوا يريدون فعلاً عمل الخير لوجه الله، ولا يرتجون من ورائه جزاء ولا شكورا، ولا يبتغون اكتساب صيتٍ بين النَّاس، ولا مزاحمة الآخرين في البناء لغرض دنيوي.
إن بناء المساجد قد يكون أمرا ملحا وضروريا في حالات معينة، ولكنه قد يكون بذخا زائدا عن الحاجة في بعض الحالات، فكما أن المجتمع بحاجة إلى بناء دور العبادة، فهو بحاجة أيضاً للالتفات إلى توسيع دائرة العطاء والأجر، فالمجتمع بحاجة أكبر لبناء مسكنٍ ملائمٍ لفقير، أو لمّ شملِ أسرةٍ محتاجة، أو إنشاء مستوصف طبي، أو بناء مكتبة، أو عمل مجتمعي يكون نفعه للناس جميعًا، وهو ـ كما المساجد تمامًا ـ صدقة جارية لا ينتهي أجرها، كما أنّ على وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أن تقوم بدور أكبر في تنظيم بناء المساجد، وتوجيه فاعلي الخير إلى أعمالٍ خيرٍ أخرى لا تقل أجرا وثوابا عن بناء دور العبادة.
فاعمروا الأرض ليس ببناء المساجد فقط، ولكن بما ينفع الناس، وما أكثر ما ينفعهم.
مسعود الحمداني