إن قراءة نصوص الخطابات السياسية، ورصد المقاصد المختبئة تحت ظل الحروف والمتوارية بين طيات الكلمات، بغرض الكشف عن المعاني غير المعلنة، وأنطقة المسكوت عنه بين السطور، هو عملية مُضنية تستدعي التنقيب والتفتيش بين حنايا النسق اللغوي، والسياقات المحيطة بإنتاج الخطاب، لتكون بذلك الخطوة الأولى نحو معرفة أثر الخطاب ودوره في بناء المجتمعات على مختلف الأصعدة.
وفي محاولة لقراءة معطيات المشهد الخطابي السياسي في عُمان، ومن أجل الوقوف على تخوم الحقائق أنهت الباحثة أمل بنت محمد النوفلية -التي تشغل وظيفة مديرة دائرة المحتوى الإلكتروني في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون- دراسة الدكتوراه في إحدى الجامعات الماليزية، وكانت رسالتها موسومة ب”تأثير الخطاب السياسي للسلطان قابوس في بناء محتوى البرامج الاقتصادية في تلفزيون سلطنة عمان” واشتملت هذه الرسالة على تحليل الخطاب السياسي ما بين عامي 2008 و 2015 ، وبالرغم من أن القضايا الاقتصادية تجسد متن خلافي في المجتمعات العربية، وحقل من التغيرات المتلاحقة على هامش تسابق الدول نحو الهيمنة الاقتصادية، إلا أنها تكتسب أهميتها من اهتمام الدول بها وصناعة السياسات الاقتصادية المناسبة، ومن المعلوم أن السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه منذ توليه لمقاليد الحكم اتجه إلى لفت الأنظار نحو القضايا الاقتصادية الحالية والمستقبلية، والتحذير من تبعات بعض السياسات الاقتصادية القائمة على النفط ومشتقاته، في رؤية استشرافية تنذر باحتمالية تدهور الوضع الاقتصادي العالمي، وأهمية الاتجاه نحو تنويع الاقتصاد لإن النفط مورد غير متجدد وسينضب لا محالة.
وسعت الدراسة لرصد أبرز الأطروحات الاقتصادية الواردة في الخطابات، والتعرف على مسارات البرهنة التي انطوى عليها الخطاب، والكشف عن القوى الفاعلة وسماتها، إضافة إلى تقصي الأطر المرجعية التي استند عليها الخطاب كمنطلقات راسخة، وترافق مع ذلك تحليل مضمون برنامج “رؤية اقتصادية” الذي يُعد من أبرز البرامج التلفزيونية الاقتصادية من تقديم وإعداد الإعلامي عبدالله الشعيلي، وهدف تحليل البرنامج إلى تحديد القضايا التي تم طرحها في عدد حلقات البرنامج، وذلك لمعرفة مدى انعكاس ودور الرؤى الاقتصادية التي احتضنتها ملامح المشهد الخطابي في دفع البرنامج لتبني قضايا اقتصادية بعينها، ومدى الاتفاق بين كلا الطرفين، وتنتمي هذه الدراسة إلى الدراسات الوصفية، واعتمدت على نوعين من التحليل، الأول تحليل الخطاب، والثاني تحليل المضمون، وتم توظيف مجموعة من الأدوات البحثية المتمثلة في استمارات تحليل الخطاب وتحليل المضمون لجمع البيانات اللازمة، ومن ثم إخضاعها للمعالجة والتحليل الإحصائي.
وتوصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج من أهمها: تفوق مضامين الخطاب السياسي للسلطان قابوس على المضامين الاقتصادية الأخرى في برنامج “رؤية اقتصادية”، واهتمام البرنامج بالقضايا الواردة في الخطاب وتناولها بالتحليل والتفسير، وفي الوقت ذاته لا ينصرف البرنامج عن القضايا الاقتصادية الملحة، والأحداث والفعاليات المهمة، بل يتناولها وفق درجة الأهمية، وبالاستناد على معطيات ومؤشرات يقدمها المشهد الاقتصادي المحلي والإقليمي والعالمي، الأمر الذي يعكس مساعي القائمين على البرنامج الاقتصادي للمضي نحو صناعة نسق مهني من الإعلام الاقتصادي الذي يهتم باختيار الموضوعات التي تهم المشاهد وترفع الوعي المالي والاقتصادي، ومن النتائج الأخرى جسدت النهضة والتنمية أحد أهم القوى الفاعلة الإيجابية في الخطاب السياسي للسلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، وخلصت الدراسة إلى مجموعة من التوصيات منها ضرورة اهتمام وسائل الإعلام بشتى صنوفها بالخطابات السياسية وقراءة ما وراء النصوص، وتعزيز قطاع الإعلام الاقتصادي المرئي في تلفزيون عمان من خلال إضفاء سمة التخصصية وتوظيف الأدوات الإنتاجية والفنية التي تجدد من روح العمل البرامجي، إلى جانب تسخير الجهود كافة، لتحليل الخطاب والوقوف على أبرز القضايا التي ينطوي عليها، ومن ثم طرحها على طاولة النقاش في البرنامج، لتعزيز المفاهيم المرتبطة بها، وترسيخ المعطيات التي قدمها الخطاب.