مَضَى على وفاة الأخ الشيخ خلفان بن مُحمَّد العيسري خمس سنوات، وحقيقةً نفقد هذا الرجل الذي كان شُعلة من النشاط، وما زالت نصائحُه ومحاضراتُه تُتَناقل بين الفينة والأخرى. وقبل شروعي بكتابة هذا المقال، كُنت أجهِّز مقالًا لمُتابعة الأوضاع الراهنة التي تمرُّ بها بلادنا من تصاعد أرقام المصابين بجائحة كورونا، وتصريحات معالي الدكتور وزير الصحة الموقر، التي كانت بمثابة التماس من معاليه للمواطنين والمقيمين بضرورة المحافظة على أرواحهم.
هذا الالتماس يتكرَّر في كل لقاء لمعاليه عبر الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا يبخل معاليه أبدا في توجيه النصح والإرشاد في كل وقت وحين، وما جعلني أغيِّر محور المقال عندما وصلني مقال للراحل الشيخ خلفان، يقدِّم قراءة لمسيرة العمل في السلطنة خلال العقود الأربعة الماضية، وسأحاول أن أُلخِّص للقارئ الكريم المحاور الأربعة التي كتبها كاجتهاد منه.
وحقيقة الأمر عندما تأملت هذه المحاور، رأيت أن المرحلة المقبلة لابد أن ترتكز على الفكر العماني في إدارة البوصلة، وإذا كانت المرحلة الماضية مع انطلاق مسيرة النهضة فرضتْ علينا أن نستورد بعض الثقافات والافكار لكي تُعيننا على العمل، وأعتقد أنَّ المرحلة المقبلة ونحن نستشرف رؤية عمان 2040، يجب الارتكاز على الفكر العماني، خاصة بعد أن أصبح ناضجا وواعيا ويتحمل المسؤولية بكل إتقان.
قراءة الراحل الشيخ خلفان -كما استنتجتُ من مقاله- تُبيِّن فيه أنَّ الخلل في تركيبة العمل يتلخَّص في عِدَّة محاور، وقراءتي المتواضعة للوضع تبيِّن خللًا في عدة محاور؛ حيث استوردت السلطنة في بداية نهضتها أربع ثقافات لتُعِين السلطنة على الانتقال لدولة عصرية.
الثقافة الأولى: استوردت السلطنة كوادر من بعض الدول العربية واحتضنتها الحكومة في قطاع الخدمة المدنية، وهذه الثقافة كما يراها الراحل الشيخ خلفان مبنيَّة على البيروقراطية المُمِيتة. نتيجتها كانت الترهل في الأداء الحكومي، وقد تحدثتُ مقالات وتصريحات حول هذا الترهل، ولعل تصريح معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية كان واضحا، وفيه انتقاد مباشر، ونتمنى ونحن نعيش مرحلة انتقالية أن نتخلص من تلك البيروقراطية، ونستعين بكوادر وطنية في العمل، قادرة على رسم خارطة جديدة بأفكار ابتكارية وإبداعية.
كما أنَّ السلطنة استوردت ثقافة من دول آسيا خاصة من (الهند وباكستان وبنجلاديش)، واحتضنها القطاع الخاص، وهذه الثقافة مبنيَّة على التحكُّم في هذه العمالة خاصة الرخيصة منها، وقلبت علينا الطاولة لتتحكم في التجارة، بعد أن تمكنت وما زلنا للأسف مع هذه الثفافة، وهنا أعتقد أنه يجب علينا أن نتشدد في محاربة الظاهرة التي نتجت على اعتمادنا على هذه الثقافة؛ وذلك بتمكين رواد الأعمال وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
استوردت أيضا السلطنة ثقافة من بلد صديق، وهي ثقافة غربية، وجاءت من بريطانيا، وتركزت في القطاع العسكري والأمني، وهذه الثقافة كما يرى الراحل خلفان العيسري أثبتت كفاءتها في الانضباط والاستقرار الأمني في البلاد، وأخرجت كوادر محلية قيادية منضبطة على جميع المستويات.. وأيضا استفادت البلاد من الثقافة الغربية، والتي تركزت في (قطاع النفط والقطاع المصرفي)، وهذه أثبتت كفاءتها في الإنتاجية والاحترافية والمهنية. وعلينا أنْ نبني عليها طموحات الشباب بعد أن أصبح قادرا الآن على قيادة الدفة في قطاعي النفط والغاز، وبعد أن أصبح قطاع المصارف يُدار بنسبة تصل إلى نحو٩٠% من كوادرنا الوطنية.
… إنَّ النجاح أصبح أمرا لابد منه، خاصة بعد التجارب من عدة الثقافات، فأصبحنا نعرف الثوب الذي يُناسبنا، فلا بد من التخلص والتحرر من الثقافات التي تُؤخِّرنا، خاصة في القطاعيْن العام والخاص.
كما أشرتُ فإنَّ المرحلة المقبلة مهمة، خاصة وأنَّ عددًا كبيرًا ممن تربُّوا على الثقافات العربية في قطاع الخدمة المدنية قد تقاعدوا، وأن الفكر القادم لابد أن يكون واعيا ومحفزا، وأن يكون تركيزنا وبشكل مباشر على بناء الإنسان العماني، وهذا الهدف رسمه المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وجاء في مقدمة مرتكزات رؤية “عمان 2040″؛ فالمرحلة القادمة مهمة لبناء الإنسان بتوجهات جديدة مبنية على الابتكار والإبداع، وتسخير التكنولوجيا والثروة الصناعية الرابعة وإنترنت الأشياء، كما لابد أن نستمر في غرس القيم، والمحافطة على الإرث العماني الأصيل، وعدم التهاون في هذا المطلب للمحافظة على الديمومة في الحياة، بوتيرة تحافظ على مكانة المواطن العماني في مختلف مراحل العمر.
أعتقد أنَّ المرحلة المقبلة يجب أن تكون مختلفة؛ فهذا ما سنراه في المستقبل؛ حيث بدأت ملامح الرؤية تتضح بفضل القيادة الحكيمة لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- الذي شرع خلال فترة وجيزة بإصلاحات لمعالجة التشوهات، وبناء عمان الجديدة لتستمرَّ نهضة متجددة وفق رؤية عمان 2040، وهي رؤية طموحة كان جلالته -حفظه الله- أحد مهندسيها ببراعة.
وفي اعتقادي كل المعطيات الآن في صالحنا، وبمقدور الجميع من أبناء السلطنة الوقوف جنبا إلى جنب نحو مستقبل زاهر وواعد. نسأل الله أن يحفظ عُمان وأهلها، ويوفق سلطاننا المعظم في تكملة مسيرة العطاء، وأن يغفر للوالد الراحل باني النهضة العمانية السلطان المؤسس قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- والحمد لله أولا وآخرا.
حمود بن علي الطوقي