تمرُّ عُمان بمرحلة استثنائية أكثر من غيرها من الدول، خاصة إذا أضفنا إليها ظرف وفاة السلطان الرَّاحل قابوس بن سعيد -رحمة الله عليه ورضوانه- فبالرغم من تشابه الظروف المؤلمة مع باقي الدول الخليجية، إلا أنَّ الفقد العظيم للسلطان الرَّاحل زاد من حجم المسؤولية على الحكومة؛ بضرورة ترتيب البيت الداخلي من جديد، وأسهمت الظروف الأخرى كفيروس كورونا، وانخفاض سعر برميل النفط في الشهور الماضية، واستمرار ارتفاع معدلات الدين العام، في الإسراع بضرورة ترتيب الوضع الداخلي للبلد.
قبل بناء بيت جديد، يحتاج الشخص إلى الكثير من الأعمال التي يجب أن يقوم بها؛ كالحصول على الموافقات الرسمية، وتعيين مكتب هندسي ومكتب استشارات مُشرفيْن على العمل، والموافقة على الخرائط وتعديلها، إلى أن يستقر إلى الخريطة النهائية… وغيرها من الأعمال المصاحبة؛ كاختيار أدوات البناء بكل تفاصيلها: الداخلية والخارجية، وبعدها يمكن أن يتخيل المنظر الخارجي للمنزل، ونوعية الديكور الداخلي، ورضا أهل البيت عنه، وملاحظات الزائرين له، وما ينطبق على البيت ينطبق إلى حدٍّ كبير على الدولة، ولكن بمئات الأضعاف من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق صاحب الأمر ومن معه، وإنْ كان التشبيه غير دقيق، إلا أنه يُمكننا أن نسمِّي عام 2020 -مجازا- مرحلة ترتيب البيت الداخلي.
هذه المرحلة ليست سهلة كما يَظنُّها البعض، بل هي مرحلة جوهرية ومفصلية لما بعدها، تتطلب وقتا وجهدا وفكرا وإصلاحات شاملة، ولحسن الحظ قد ذكرها مولانا السلطان هيثم بن طارق المعظم -نصره الله وأيده- في أول خطاب له لشعبه في شهر فبراير 2020، وملامح التطبيقات قد ظهرت في الشهور الماضية بكثافة في شكل مراسيم وتوجيهات وأوامر سامية، ومن المتوقع أن يستمر الإعلان عنها تباعا خلال الشهور المقبلة، والتي ستتوافق مع خارطة الطريق الشاملة الواضحة التي أطلقها مجدد النهضة في خطابه الأول.
تعتبر هذه المرحلة في غاية الأهمية؛ لأنها تهدف إلى تحقيق عدة أهداف؛ وأهمها:
- التجديد: عُمر عُمان تاريخيًّا يتعدى آلاف السنين، وعمر النهضة الحديثة 50 عامًا؛ فبعد مرور 50 عاما، كان لابد من الترميم والتعديل والتقييم، وإعادة ترتيب الأولويات، من أجل الانطلاق الرشيق للمستقبل.
- التخلص من الترهلات: يُراد لعُمان أن تكون رشيقة للمستقبل؛ وذلك يستدعي التخلص من جميع الحمولات الزائدة، والبحث عن بدائل بشرية وطبيعية تحقق انتاجية ملموسة وعوائد إضافية تظهر في الأرقام والحقائق.
- الاستدامة: تاريخ عُمان القديم والحديث مليء بالإنجازات في كل الجوانب؛ فالمسؤولية الوطنية في ظل الظروف المعقدة المحيطة أصبحت مُضَاعفة، وتتطلب استمرارية التنمية والتطور الملموس في الجوانب الحياتية المختلفة، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال جهود مضاعفة ومبادرات خلاقة مبتكرة.
- الانطلاق للمستقبل: قبل الانطلاق إلى المستقبل، لابد من وجود رؤية واضحة، وأهداف واقعية، وخطة وأدوات إشرافية وتشريعية وتنفيذية ورقابية وتقيمية، وإن كانت المرجعية موجودة في الخطة الوطنية 2040، إلا أنَّ المستجدات تتطلب مراجعتها من جديد، والتأكد من توافقها مع الظروف الطارئة، والتي طرأت في هذا العام على وجه الخصوص.
- التنافسية العالمية: السلطنة ليست بمعزل عن العالم؛ فهي تجدٍّد التزامها الكامل بكل المواثيق الدولية في المجالات المختلفة؛ لكنها في الوقت ذاته قررت دخول النادي العالمي والمنافسة في التقارير العالمية، كتقرير التنافسية العالمي، والالتزام بأهداف التنمية العالمية 2030، مع معرفة السلطنة المسبق بأنَّ مُتطلبات هذه الجهات كثيرة ومعقدة، وأهم مُتطلباتها مضاعفة الجهود، والعمل بحرفية ومهنية وفق معايير عالمية عالية الجودة؛ من خلال كفاءات وطنية مؤهلة تأهيلًا علميًّا وعمليًّا قويًّا.
- الثقة والمصداقية: احتفظت السلطنة بعلاقات جيدة مع الجميع، وتمتدُّ العلاقات لأكثر من العلاقات الدبلوماسية، بل تمتد إلى العلاقات التبادلية في المجالات المالية والاستشارية والحقوقية، وتبادل الخبرات في المجالات المختلفة، وما تقوم به السلطنة حاليا هو تعزيز لاستمراريتها في تثبيت شعار الثقة والمصداقية في جميع تعاملاتها المنوعة.
وختاما.. الانطلاق بصلابة وجسارة ورشاقة إلى المستقبل المليء بالتعقيدات ليس سهلا، بل يتطلب حزمة متكاملة من الرؤى واضحة، والتخطيط العميق والشامل، والتنفيذ السريع، وخطوات جرئية، وقرارات حازمة، وتعيين كفاءات أكثر تأهيلا، والدمج في مؤسسات، وتغيير تشريعات، وتجديد قوانين، وتقييم ومراجعات دورية، وغرس مفاهيم وثقافة وأفكار تتوافق مع التوجهات القادمة؛ لذلك ترتيب البيت الداخلي لعُمان هو ركيزة أساسية وجوهرية لحاضرها ومستقبلها: داخليًّا وعالميًّا.
خلفان الطوقي