تلبية لدعوة كريمة من الأخ الفاضل محمد بن خلفان الخاطري لزيارة قريتهم المسماة ( مسفاة الخواطر ) الواقعة في جبل شمس الأشم، فقد يممنا وجهتنا إليها بمعية صاحب الدعوة والرامي الدولي السابق خلف الخاطري والأخ درويش الهنائي وعدد من الإخوة الكرام وأبنائي الخمسة..
اعتلينا جزءً عالياً من قمة جبل شمس الشامخ بارتفاعه وكبريائه وصموده وهدوءه ، وقصص كفاح أهله المرابطين فيه الذين لم يبهرهم زهو المدينة وترفها فعشقوا القمم ولسان حالهم يتشبه بقول الشاعر :
ومن لم يعشق صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر..
تقع مسفاة الخواطر في جبل شمس أسفل جرف صخري حاد أشبه بالهوة السحيقة، أو الفج العميق الذي تحيط به الجبال من كل مكان..
وبمجرد أن تلقي نظرة من الأعلى إلى الأسفل يترائى لناظريك ذلك المشهد الرباني الباذخ بالحسن والجمال، فالقرية في مجملها أشبه بمزهرية مليئة بالزهور والورود، وما أن تبدأ في النزول رويداً رويداً عبر ذلك الطريق الترابي الشديد الانحدار الذي امتدت إليه أيادي النهضة الحانية فجعلته سهلاً يسيراً، شأنه في ذلك شأن بقية الخدمات من كهرباء وماء.. وغيرها.
بدأنا جولتنا الاستطلاعية في حلة القطار مقر سكنى مرافقنا محمد الخاطري في الماضي، وما أن وطأت قدمه مكان مسقط رأسه ومهد طفولته حتى عادت إليه ذكريات الأمس بكل تجلياتها وحلوها ومرها، فتحدث إلينا قائلاً :
هنا ولدت وإخوتي الأربعة وأنا أصغرهم من مواليد ١٩٦٤م ، وهنا عشنا طفولتنا نلهث وراء أغنامنا التي كنا نشرب من ألبانها ونأكل من لحومها، ونلتحف بأوبارها، وكانت هي مصدر ثروتنا واقتصادنا فنبتاع منها ونشتري بعائدها أقواتنا وحاجاتنا، فلا غرو أن قدمناها على أنفسنا، وأمَّنا مسكنها، فجعلنا لها سرداباً أسفل مسكننا لنعيش نبضها ونسمع سكناتها وحركاتها، ولا أنسى أنني كنت في بعض المرات أنام بينها خاصة عندما يشتتد البرد القارس في فصل الشتاء..
ويتابع أننا ندين بالفضل بعد الله لهذه الحياة القاسية بأن علمتنا الصبر والتعود على المتاعب والمصاعب واجتيازها بعزم وإصرار، بدءً من عملنا في الجندية العمانية منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي (العسكرية هي عشق أبناء الخواطر، ففيها يجدون ضالتهم المنشودة وميدانهم الفسيح، ولهم حضور كبير مع فرق الرماية العسكرية لما يتمتعون من مهارات فائقة في هذه الرياضة )
بعد ذلك أدلفت بالأعمال الحرة وما صاحبها من حوادث وعثرات، ولا نزال في نزال مستمر مع تحديات الحياة المعاصرة ..
في حذر شديد مشينا على أرضية أطلال المنزل الملاصق لبيوتات توشك أن تنقضَّ، ولم يتبقى منها سوى جدران متهالكةوأسقف بالية يستقرؤ منها الكثير من العبر والذكريات الخالدة، فيما يطربك غيل القليلات بسيمفونية خريره فلا تتمالك نفسك من أن تعب من زلاله العذب حد الإرتواء..
في مسجد بو بحير الصغير بحلة القطار المجاور لتلك البيوتات البسيطة أدينا صلاة العصر، وهو بالكاد يتسع لعدد ستة أشخاص، ثم تابعنا مسيرنا باتجاه ضواحي القرية حيث النخيل وأشجار المانجو والطلح ومزارع الذرة، ويؤخذ على أصحاب هذه الضواحي تمسكهم بزراعة النخيل في هذه المنطقة رغم عدم موائمة المناخ للنخلة بسبب برودة الأجواء واعتدال الطقس شبه الدائم، مما يستوجب استبدالها بأشجار الفواكه كالرمان والجوز والمشمش والزيتون، وما شابهها..
أنهينا جولتنا في ضواحي وبساتين مسفاة الخواطر، ثم واصلنا مرحلة الصعود باتجاه جبل السراة، وفي بقعة قريبة منه التحقنا ببقية المجموعة التي انتهت من تجهيز وجبة العشاء التي تشكلت من الثريد والعرسي، فأخذت طريقها إلى تلك البطون المتشوقة إليها على أضواء القمر والنجوم الساطعة، التي تخفيها السحب السيارة تارة، وتجليها تارة أخرى في مشاهد كلاسيكية مبهجة، لتنتهي أمسيتنا المفعمة بالأنس والبهجة والصفاء والسعادة، وسوالف الذكريات الجميلة .
فشكراً لصاحب الاستضافة على كرم الضيافة، وللرفقة الرائعة، ولمجموعة العشاء المبدعة، واللهم أدمها من نعمة.
مسهريات يكتبها ناصر بن مسهر العلوي