” لو أهل عمان أتيت، ما سبوك ولا ضربوك”. جملة في بضع كلمات، عَبَّر بها النبي صلوات الله وسلامه عليه عن موقفه من أهل عمان. جملة تعكس طبيعة النظرة المحمدية لهذا الجزء من الدولة الإسلامية الفتية التي بدأ في تأسيسها بالمدينة المنورة. وهذا الرأي بالتأكيد لم يكن وليد حدث واحد فقط. فأهل عمان اتصلوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم -عبر عدد من الوفود من أهمها وفود الصحابي الجليلي مازن بن غضوبة الطائي السمائلي إليه، ووفود ثمالة وحدان إليه استكمالا بوصول سفير وموفد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل عمان، عمرو بن العاص السهمي.
وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم البدء بمراسلة دول الجوار منذ سنة 7هـ /628م، وما إن وصل العام 9هـ/630م حتى شكل نقطة تحول في تاريخ الدولة الإسلامية الأولى سياسيا، حيث عُرِف هذا العام بعام الوفود، وعام السفراء. خاصة بعد الفتح الكبير، فتح مكة سنة 8هـ/629م، واستقرار أمر الإسلام وأمر الدولة في حدود نجد والحجاز، بدأ النبي يوجه نظره لتوسيع رقعة الدولة، واستكمال الرسالة المكلف بها، ألا وهو نشر الإسلام. ولكنه لم يرسل جيوشا، بل أرسل سفراء، انتقاهم بكل عناية، مراعيا قدراتهم وإمكانياتهم حتما، وفي ذات الوقت، واستقبل الوفود التي جاءته معلنة الطاعة والولاء، والدخول في حرم الدولة التي هزمت قريش، أكبر قبائل العرب نفوذا وقوة.
وعمان شأنها شأن دول الجوار، كانت محط أنظار النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل لملكيها وبعض قبائلها عددا من الرسائل، من ضمن الثلاثة والأربعين رسالة التي أرسلها صلوات الله وسلامه عليه لملوك العرب والعجم وزعماء القبائل، يدعوهم فيها إلى الإسلام (البرطماني، 2012م) ، وإن اتخذت هذه الرسائل في مكوناتها محاور أساسيه. إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن عهد أهل عمان بالإسلام لم يأت فقط من هذه الرسالة والدعوة الرسمية، فقد سبق ذلك مازن بن غضوبة، الذي أتاه طائعا معلنا إسلامه، طالبا منه صلوات الله عليه وسلم أن يدعو الله لأهل عمان. ويبدو أن هذا الحدث لم يكن ببعيد زمنيا عن إرسال عمرو بن العاص وأبو زيد الأنصاري لأهل عمان. وقد كانت عمان في وقتها يحكمها جيفر وأخاه عبد ابني الجلندى بن المستكبر بن مسعود بن حرار بن عبد عز بن معولة بن شمس (العوتبي ، 2005).
لقد انطوى تحت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأبعاد السياسية والفكرية، فهي تساعد في تحليل الوضع السياسي القائم في عمان آنذاك، بالإضافة إلى أنها تفيد في تتبع تاريخ الإسلام في عمان، وموقف العمانيين من هذه الدعوة (الدُّروبي، 2002)، وكأنه صلى الله عليه وسلم يدرك ماهية أهل عمان، وماهية هرم السلطة فيها ومخاوفهم كذلك. وسنستعين هنا بنص الرسالة كما جاءت عند الأزكوي (الأزكوي، 2005) ، وجاء في نص هذه الرسالة:
” بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين. وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي في ملككما. كتب أبيّ بن كعب”.
ولنستقرء بعض الأبعاد السياسية في هذا النص:
إن الباحث في نهج المراسلات النبوية، يتوقف عند حكمته صلى الله عليه وسلم من إرسال عمرو بن العاص السهمي فيما يمكن أن نعتبره أول مهمة رسمية له بعد دخوله في الإسلام، الذي أسلم بمعية خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة بعد فتح مكة سنة8هـ/629م، فعمرو داهية العرب، ورئيس وفد قريش للنجاشي، سياسي مجبول على التفاوض وحُسن الحديث، وفوق هذا هو ابن سيد بني سهم من قريش العاص بن وائل السهمي، ولهذا أرسل لملوك عُمان، رسولاً عربيِّاً سياسيٌ بطبعه، قادرا على التصرف بحنكة في أي موقف وأي ردة فعل من أهل عمان. وفوق هذا، تكريم منه صلى الله عليه وسلم لهذا الشاب حديث العهد بالإسلام.
ابتدأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الرسالة باسمه محمد بن عبدالله، دون أن يوضح صفته السياسية باعتباره رسول الله. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم استفاد وعمل بما حدث في الحديبية، حين رفضت قريش توقيع الصلح بصفته نبي الله لأنهم لا يعترفون به كذلك، فاكتفى بكتابة اسمه. والوضع هنا يقع بنفس الموضوع، فهذه دعوة للإسلام، قبل ان تكون دعوة للانضمام سياسيا للدولة. مع الأخذ في الاعتبار أن هناك نسخة أخرى للرسالة كتب فيها ” محمد رسول الله”.
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اسمي جيفر وعبد ابني الجلندى، يعكس نظام حكم ثنائي في عُمان آنذاك، ولعل الحكم أشبه بما لدينا اليوم من ” الملكية الدستورية”. وأن عبد بن الجلندى كان أقرب لرئيس الوزراء لأخيه الملك المتوج جيفر بن الجلندى.
الرسالة جاءت قصيرة في مفرداتها، وافيةً في معانيها، مُظهِرةً الهدف المباشر منها. وابتدأها النبي بالسلام، رسالة الإسلام الخالدة، وهدفه الأسمى، إعمار الأرض وبنائها ونشر قيمه السمحة.
يحدد بعدها النبي مباشرة الهدف من الرسالة وهو دعوة الملكين للإسلام، وكما يقال ” الناس على دين ملوكها” ولهذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم راسل الملوك، ومن يأتي بصفتهم كزعماء القبائل الكبيرة المتنفذين آنذاك.
” أسلما تسلما”. تسلما في ملككما وفي نفوذكما وفي بقاء بلادكم بين أيديكم، موضحا الان صفته الرسمية، فهو رسول من ربه، للناس كافة، وأن قيامه بهذا الأمر ينبع من هذه الصفة، فهو رسول الله لينذر الناس بالحق، ويبلغ رسالة ربه، للطائع والعاصي، للمسلم والكافر. هنا اختصر النبي صلى الله عليه وسلم فحوى الدعوة المحمديةٍ.
بعد التمهيد وبعد تبيان الصفة الرسمية لإرساله هذه الرسالة، يوضح النبي لجيفر وعبد نتائج قرارهم. فإن هم قبلا بالإسلام دينا أقرهما على حكمهما، وضمن لهما استمرارهما على رأس هرم السلطة في بلادهما. وهذه رسالة غير مباشرة في النظر لأنظمة الحكم السائدة في شبه الجزيرة العربية آنذاك، وكذلك تلبية لحاجة بشرية وهي حب السلطة والحفاظ عليها. وهي حِسبَة كان على جيفر وعبد التفكير مليا فيها، من حيث استمرار الأسرة في الحكم، ولعل النتيجة التاريخية كانت واضحة لقرارهما من استمرار أسرة آل الجلندى على هرم السلطة السياسية في عمان حتى عصر الدولة الأموية (41هـ/661م – 132هـ/749م)، ويؤكد الدُّروبي ذلك فيقول:” ولعله لا يخفى أن مثل هذا المسلك يعانق الجوانب النفسية في الإنسان المدعو، لأن الإنسان بطبعه مجبول على النظر إلى مصالحه، والقيام على رعايتها، وغالبا ما يعادي الأفكار الجديدة التي تجرده من مكتسباته، أو تسبب الضرر لمصالحه…” (الدُّروبي، 2002).
النتيجة المقابلة إن هما رفضا إجابة الدعوة، سيكون الحرب. وهنا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم لغة ترهيب مباشرة، بأن مصيركما هو الحرب، مستفيدا من السمعة الكبيرة التي انتشرت عن جيوش المسلمين وعن قتالهم وانتصاراتهم على قبائل العرب وعلى رأسها قريش، وقدرته على مناوشتها والوقوف في وجهها وهي زعيمة القبائل العربية في الحجاز عموما.
لم يكتف النبي بتهديد الحرب، بل كان واثقا من انتصاره فيه، فيقول لهما:” فإن ملككما زائل عنكما” أي أنى لن انتصر عليكما فحسب، بل سيكون على رأس هرم السلطة آخرون غيركما، فينتهي ذكر اسرتكم من التاريخ السياسي لأرضكم. وستظهر على ساحة المعركة صدق رسالتي ونبوءتي.
إن هذا التحليل حتما مَرَّ على جيفر وعبد ابني الجلندى وهما يمعنان القراءة في رسالة مختومة بخَاتَم النبوة “محمد رسول الله” ، فكان لزاما أن يطلبا مهلة من عمرو بن العاص للمشاورة والتفكير، ورغم أن المصادر العمانية لا تذكر رفضا للدعوة كما ذكرتها بعض المصادر العربية، إلا أن خلاصة الموضوع أن الرد لم يأتِ مباشرة، بل كان رَويَّاً حكيما، ولهذا طلب جيفر بن الجلندى من عمرو بن العاص مهلة ليشاور القوم، مؤكدا له ان هذا الأمر ليس بالهيِّن، ويقال في هذا أن الملك عقد مجلسا استشاريا ضم وجوه الأزد آنذاك، بل قيل أنه “استدعى كعب بن برشه وكان نصرانيا، والذي سبق أن التقى النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلن اسلامه بين يديه (البرطماني، 2012م)، ليأخذ منه الحقيقة كما رآها.
هنا جيفر بن الجلندى أراد أن يتخذ القرار ليس لخدمة مصلحته بالبقاء في الحكم فقط، أراد أن يضمن السلام للأرض التي ينتمي إليها كذلك، وأنه حين يدعو الشعب للدخول في الدين الجديد سيكون لمصلحتهم ومصلحة الأرض التي ينتمي إليها. نهج عماني لا زال مستمرا، فالأرض ومن عليها أولا ، ومن ثم تأتي الأمور الثانوية. الحفاظ على الأمن والسلام الداخليين نهج عماني راسخ لا زلنا نعيشه ليومنا هذا، وسيستمر بإذنه تعالى جزءا من موروثنا الفكري والسياسي خالدا في نفوسنا وأجيالنا القادمة.
د.بدرية بنت محمد النبهاني
باحثة في التاريخ
*مقال منشور في جريدة عمان، 16أغسطس2018م