يشكل موسم الحج للامة الإسلامية موسما عظيما، بما يحمله من معان سامية، وتحقيقا لأمنية عزيزة على كل قلب كل مسلم ومسلمة في شتى بقاع الأرض، حيث يأتون ملبيين دعوة الحق جل وعلا، لتأدية هذه الفريضة التي اشترطت الاستطاعة فيها. وقد كان موسم الحج على امتداد التاريخ الإسلامي ليس موسما لأداء عبادة فقط، وإنما كان محفلا عالميا يلتقي فيه المسلمون من كل بقاع الدنيا، مجتمعين في بيت الله الحرام، في شهر الله الحرام ذي الحجة. رجال ونساء ، شيبة وشبابا، صبيانا وأطفالا. وشاءت الأقدار في هذا العام وبسبب ما يمر به العالم أجمع من تفشي فيروس Covid-19 وما يتبعه من مضاعفات أن يقتصر موسم الحج لهذا العام على المقيمين داخل المملكة العربية السعودية. وسنحاول بمناسبة هذه الأيام المباركة في السطور القادمة استحضار شخصية نسائية لا زالت جهودها وآثارها قائمة الى اليوم في خدمة حجاج بيت الله الحرام، ألا وهي السيدة زبيدة بنت جعفر(ت:216هـ/831م).
من المعروف أن المرأة في المجتمع الإسلامي عموما لم يقتصر دورها في الناحية الاجتماعية فقط، وإنما تعدى ذلك الدور ليشمل الجوانب السياسية والدينية وغيرها، ولم يكن موسم الحج باستثناء لذلك، فالدورا التاريخي للمرأة ظل بارزا في هذه المناسبة الدينية العالمية، ولعل أبرز مثال نجده عبر التاريخ الاسلامي كافة هي السيدة زبيدة بنت جعفر، والتي سماها والداها أمة العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، وهي التي لقبها جدها أبو جعفر المنصور زبيدة لبضاضتها ونضارتها وبياض بشرتها. وزبيدة – وكنيتها أم جعفر – هي ابنة عم الخليفة هارون الرشيد(ت:193هـ/809م) وابنة خالته في الوقت نفسه، فأمها هي سلسل شقيقة الخيزران بنت عطاء، وهي أم الخليفة محمد الأمين. ولعل عين زبيدة التي لا زالت تحمل اسمها تخلدها إلى أن يطوي الله طيا.
ولقد توافرت لزبيدة ام الأمين العديد من الصفات جعلتها المرأة الثانية في حياة الخليفة هارون الرشيد بعد والدته، فقد كانت معروفة بالأدب والعقل الراجح والفصاحة والبلاغة، وقد كانت مستشارة لزوجها في أكثر من قضية كذلك.
أما فيما يتعلق بموسم الحج، فقد قامت بما لم يقم به أحد قبلها. حين لاحظت معاناة الحجاج في الحصول على الماء الصالح للشرب، على دروب قوافل الحج آنذاك، وذلك أثناء رحلتها للحج سنة 186هـ/802م، مما حدا بها مباشرة أن تأمر مهندسو الدولة بدراسة إمكانية توفير الماء للحجاج على طريق الحج المعروفة لمكة المكرمة. فأشاروا عليها أن الامر ممكن إلا أنه صعب، إذ يحتاج لحفر أقنية بين السفوح ونحت للصخور لمسافة ليست بالقصيرة بل تستمر لأكثر من عشرة أميال، وأن هذا الأمر سيكلف كثيرا. إلا أنها لم تتردد في ذلك، فأمرت وكيلها بالشروع في تنفيذ هذا المشروع، وأحضروا أكفأ المهندسين للقيام بالأمر، حتى وصلوا لنبع المياه في الجبال وأوصلوه بعين حنين بمكة ولا زال يذكر قولها لخازن مالها: “اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارا”. يروى أنها في هذه الحجة بلغت نفقتها في ستين يوماً أربعة وخمسين ألف ألف (مليون) درهم. وكانت تنفق في اليوم الواحد آلاف الدنانير قائلة: ثواب الله بغير حساب”.
نعود لمشروع الماء الذي رآه مهندسو الدولة العباسية أمرا ليس من السهولة التي تعبر عنه الكلمات، ففي ذاك الزمان فالأمر مكلف مالا وجهدا، إلا أن الخير الذي رأت به زبيدة الأمر جعلها تشرع ببنائه، وتبذل ما تستطيع لأجله، في فترة تاريخية تعد الأزهى في الدولة العباسية حتما، والعين هذه إلى يومنا هذا تعرف باسم عين زبيدة. وإن كان البعض يعتقد أن العين تمتد من العراق إلى مكة المكرمة فهذا ضرب من الخيال، ولكن الآثار تشير أن عين زبيدة تنبع من وادي نعمان في شرق مكة المكرمة باتجاه الطائف، والتي لا تخفى على كل زائر للطائف خروجا من مكة المكرمة، فتظهر أمامهم على سفوح الجبال بقايا بناء قناة زبيدة التي أسستها أم الأمين.
وقد عمل المهندسون على التأكد من استمرار جريان المياه في هذه القنوات عبر تزويدها بفتحات جانبية، لمواقع متوقع تجمع السيول فيها لتمد القناة الرئيسة بالماء، وجميعها تزود القناة الرئيسة بالماء، وهم عمل يشبه نظام السواعد في الأفلاج العمانية إلى حد كبيرة. وأمرت السيدة زبيدة كذلك بإيصال المياه إلى جبل عرفة، ليشرب منها الحجاج يوم عرفه، وهيأت الأماكن الخاصة لذلك على شكل حنفيات حجرية جميلة، ومن ثم تجميه مياه الوضوء وتجميعها ليتم صرفها الى المزارع المجاورة لجبل الرحمة.
لم تكتف السيدة زبيدة بذلك، بل امتدت القنوات خلف جبل الرحمة لمنطقة يسميها أهل مكة بالمظلمة، لسقي المزارع، وهناك آثار بسيطة للسد الذي أنشئ لتغذية هذه القنوات، ومن ثمَ تصل إلى بقية الحرم المكي، واستفادت منه المزارع المجاورة بالإضافة لحجاج بيت الله الحرام. الجدير ذكره أن هذه القنوات بقيت مكشوفة على السطح حتى تأخذ مسارا آخرا تحت الأرض وصولا إلى بئر عظيمة مزينة بأحجار كبيرة جدًا تُسمّى أيضًا “بئر زبيدة”، في منطقة تُسمّى اليوم بمحبس الجن، وإليها ينتهي امتداد هذه القناة العظيمة المعروفة بقناة عين زبيدة، عبر درب يعرف بدرب زبيدة كذلك.
وقد وصف شيخ الحجاز أبو محمد اليافعي (ت:768هـ/1367م) هذه العين بقوله:
“إن آثارها باقية ومشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة ذات بنيان محكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جدًا، لا يوصل إلى قراره إلاّ بهبوط كالبئر، ولظلمته يفزع بعض الناس إذا نزل فيه وحده نهارًا فضلاً عن الليل”.
رحم الله زبيدة أم الأمين على هذه الخدمة الجليلة لحجاج بيت الله الحرام، ورحم الله كل من عمل بتفان لإنجاز هذا العمل الذي ظلت آثاره قائمة لزمن ليس بالقصيرمنذ سنة 194هـ/809م، ففي كل شربة ماء للحجاج كانت ألسنتهم تلهج بالدعاء لمن كان السبب في تيسير وصوله إليهم. وفي الأخير وإن كانت الظروف استثنائية لهذا الموسم فلابد أن نقول كل عام والأمتين الإسلامية والعربية بألف خير في هذه الأيام المباركة، أعادها الله على الجميع بالخير والسلامة والرخاء.
د.بدرية بنت محمد النبهاني
باحثة في التاريخ