جاء النبي محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه – رسولا للبشرية كافة، حاملا شعلة النور الإلهي، ناقلا البشرية لمرحلة التوحيد برسالته التي هي الأخيرة، وجاءت رسالة الإسلام ومشعلها القرآن الكريم، بلسان عربي مبين، ليختم الله تعالى بها سلسلة رسائله للبشرية. فالإسلام ليس دينا جديدا، وإنما هو تكاملية رسالات الله تعالى، شريعة إلهية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وكان التدرج سمة واضحة في منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ بعشيرته الأقرب، ومن ثَمَّ وجه الدعوة للقبائل المجاورة، ليؤسس الدولة الأولى في المدينة المنورة، رغم كل التحديات والصراعات الفكرية التي واجهها في سبيل إثبات رسالته ووحدانيتها، بالتفاوض تارة، وعبر سلسلة من الغزوات والسرايا تارة أخرى، ليأتي الفتح الأكبر فتح مكة سنة 8هـ/629م، الذي به فُتِحَت بلاد العرب عامة. منتقلا لمد نور الرسالة للدول المجاورة والأراضي العربية الخاضعة لأقوى دولتين آنذاك الروم والفرس. رسالة ومنهج سار عليه خليفته أبو بكر الصديق (11هـ/632م-13هـ/634)، لتصل الدولة لأوج تنظيمها السياسي والإداري والعسكري في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (13هـ/634م -23هـ/643م).
فعمر بن الخطاب الشديد بأسا ونسبا ومكانة، الخليفة الفاروق -والذي لا زال رمزا نفخر به في عدالته وحرصه-قاد مسيرة الفتح الأعظم في التاريخ الإسلامي. عمر الذي كان إسلامه نصرا للإسلام، أسلم جهرا وهاجر جهرا، عمر الذي انشرحت صدور المسلمين في مكة حين أعلن إسلامه، واهتزت قريش بذلك، اختاره أبو بكر اختيارا دقيقا، كما جاء في الروايات التاريخية، يقول الطبري(ت:310هـ/923م) في ذلك: ” وذكر انه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر؟ فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه. ويا أبا محمد، قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه لا تذكر يا أبا محمد. مما قلت لك شيئا. قال نعم، ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبد الله أخبرني عن عمر؟ قال: أنت أخبر به، فقال أبو بكر: عليَّ ذاك يا أبا عبدالله، قال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله، قال أبو بكر رحمه الله: رحمك الله يا أبا عبدالله، لا تذكر مما ذكرت لك شيئا، قال: افعل. فقال له أبو بكر: لو تركته ما عدوتك، وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئا، ولوددت أني كنت خلوا من أموركم، وأني كنت فيمن مضى من سلفكم يا أبا عبدالله، لا تذكرن مما قلت لك من أمر عمر، ولا مما دعوتك له شيئا”(الطبري، ج2، ص591).
وضع الفاروق نُصبَ عينيه بعد استتباب الأمن في شبه الجزيرة العربية، استكمال رسالة قائد الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام، ونشر الدين الحنيف، وأن الأوان قد حان للانتقال لمرحلة أعلى، وتحرير الجزء العربي الخاضع لسلطة الفرس والروم فعمل على إعادة تشكيل جيوش الفتح التي ابتدأها الخليفة أبو بكر الصديق لغاية هو أعلم بها حتما. فشاور وانتقى خير الكفاءات لهذه المهمة الكبرى، بمشورة من الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف(ت:32هـ/653م)، حين وصف سعد بن أبي وقاص بأنه ” الأسد في براثنه”.
والعراق الإقليم الكبير الواقع شمال الدولة الإسلامية، كان يخضع لسلطة الدولة الساسانية الفارسية لردح من الزمان، وبعد محاولات الفتح الأولى في عهد الخليفة أبو بكر الصديق، أخذ الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب على عاتقه استكمال عملية الفتح ونشر راية الإسلام وتعزيز استقرار الدولة من كافة النواحي. ففي أول يوم من المحرم سنة أربع عشرة بدأ الخليفة الفاروق باستشارة الصحابة والناس في الخطوة التالية، فترك المدينة المنورة برعاية علي بن أبي طالب، ونادى في المهاجرين والأنصار، فكانت الآراء قد اجتمعت على التحرك لقتال الفرس، فنزل بمنطقة تسمى صرار في البداية، وكان عمر بن الخطاب في مقدمة الجند، فأشار عليه عبدالرحمن بن عوف قائلا: ” فما فديت أحدا بأبي وأمي بعد النبي صلى الله عليه وسلم قبل يومئذ ولا بعده، فقلت بأبي وأمي اجعل عجزها بي، وأقم وابعث جندا ، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد، فإنه إن يهزم جيشك ليس كهزيمتك، وإنك إن تقتل أو تهزم في انف الأمر خشيت ألا يكبر المسلمون، وألا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدا، وهو في ارتياد من رجل، وأتى كتاب سعد على حفف مشورتهم، وهو على بعض صدقات نجد، فقال عمر: فأشيروا عليّ برجل ، قال عبدالرحمن : وجدته، قال من هو؟ قال: الأسد في براثنه، سعد بن مالك ومالأه أولو الرأي”. (الطبري، ج2، ص611)
هكذا تم اختيار قائد الحملة وكان نِعمَ الرجل، ونِعمَ القائد، فكان سعد بن أبي وقاص بن مالك(ت:55هـ/647)، الصحابي الجليل المبشر بالجنة، وأول من رمى بسهم في الإسلام، وأخو سعد بن معاذ سيد الأوس في المدينة المنورة . اختاره الفاروق وأخبره بكافة جوانب الموضوع، وأحاطه بذلك، فتحرك سعد بالجيوش. وكان الفاروق يتابعه حتى استقروا في موقع القادسية، فأرسل إليه الخليفة يطلب منه أن يصف له المكان وصفا دقيقا وكأنه يراه، فأرسل له سعد التفاصيل، وهذا يعكس اهتمام الخليفة الفاروق بالمواجهة القادمة للجيش الإسلامي، وأنه حريص على المتابعة الدقيقة، وتكشف لنا الروايات التاريخية ذلك، ويقال في هذا أن عمر بن الخطاب لم يدع ذا رأي ولا شرف ولا خطيبا ولا شاعرا ولا وجيها من وجوه الناس إلا سَيَّره إلى سعد بن أبي وقاص. وبعد سلسلة من المفاوضات والمناوشات الفرديه والجماعية بين الفريقين، ظهر فيها الفرس عُلوَّاً على المسلمين، جاءت ليلة الحسم، الليلة التي بدأت فيها المواجهة الفعلية بين الفريقين مع بزوغ الفجر، وما أتت الظهيرة إلا ورستم قائد الفرس ورمزها العسكري الكبير قد قُتل، وانهزم الفرس وتشتت أمرهم. وكتب سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب بالفتح وبعدد من قتلوا من المسلمين وأرسل البشير للمدينة المنورة، والذي كان الخليفة ينتظره على أحر من الجمر.
جاءت القادسية بدروس وعبر عظيمة. يأتي على رأسها تطبيق مبدأ الشورى الذي بدى جَلِيَّا في القادسية، بدءا من المشورة في اختيار قائد الجيش، انتقالا لاختيار موقع معسكر المسلمين، فالمثنى بن حارثة أشار على سعد بن أبي وقاص بمكان المعركة المناسبة، وذلك حين قال له ألا يقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، وألا يجعل المياه خلفه، وأن يجعل الصحراء خلف جيشه. مشورة جاءت مبنية على خبرة المثنى في بلاد العراق أولا، وفي طبيعة الفرس ثانيا، ثم أتاه كتاب من عمر يشير عليه بنفس الرأي، هذه التوافقية في الرأي تدل على أهمية تطبيق مبدأ الشورى بين المسلمين، وعدم دكتاتورية الرأي خاصة فيما يتعلق بأمن الدولة. ومن الدروس الكبيرة التي تركت مردودا نفسيا كبيرا في نفوس الجند عامة والدولة في المدينة المنورة خاصة، هي الدفعة المعنوية الكبيرة، والثقة في الجيش الإسلامي، فالفرس استهانوا بالعرب وبمقدراتهم العسكرية، واعتبروا في سلسلة الروايات التاريخية أن نصرهم حتمي إن ما حدثت المواجهة بين الفريقين، ولهذا برزت أهمية التكتيك العسكري الجيد، الذي جلب النصر الكبير، فالعرب قليلو خبرة في مواجهة جيوش منظمة كجيوش الفرس، ولهذا كان الانتصار أكبر دفعة معنوية للدولة الإسلامية بكافة مستوياتها. ومن الدروس المهمة التي نخرج بها من قراءة أحداث هذه المعركة، أهمية المتابعة للجيوش ورعايتها من قبل هرم السلطة السياسية في الدولة، فعمر بن الخطاب ضرب خير مثال بذلك، فأنشأ ديوان الجند ليضمن للجند الأمان النفسي والمالي لهم ولأهاليهم، وهم يقطعون الأراضي لأيام وليال، كما أنه عكس الاهتمام الكبير بهذه المواجهة، ولا أدل على ذلك من خروجه يوميا ينتظر البشير، كان يمكنه أن يطلب من أي كان أن يفعل ذلك، ولكنه حرص الراعي على الرعية، وحين أتاه البشير، استقبله استقبالا عظيما، ظل يسايره مشيا والبشير لا يعلم أن الخليفة هو الذي يُماشيه، ويستحثه ليخبره الأخبار. لله درك يا عمر، أي رجل انت وأي حاكم كنت. في الأخير، لا زالت القادسية رغم اختلاف المؤرخين على تاريخ وقوعها، لا زالت على قائمة المعارك العظيمة الحاسمة في تاريخ العالم جميعه، فهو كما أسلفنا كان بداية النهاية للدولة الساسانية الكبيرة، وكأن بوابة الشرق فتحت بالقادسية. فرحمة الله على تلك الأرواح التي صدقت وعدها لله تعالى.
د. بدرية بنت محمد النبهاني(باحثة في التاريخ )
*مقال منشور في جريدة عمان 14سبتمبر2018