في مجتمع السلطنة الفتي الذي يشكل فيه الشباب أكثر من 30% من مجموع عدد السكان، حيث بلغ العدد الإجمالي للشباب حسب إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في الفئة العمرية(18-29) سنة 1.2 مليون شابا وشابة بمنتصف عام2017 م، شكل الشباب العماني فيه ما نسبته 46.7 % منهم، وتشير إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أنه في منتصف عام 2018م بلغ عدد الشباب العماني في الفئة العمرية (18-29 )سنة 262,567 شابا وشابة وشكلوا مانسبته (22%) من إجمالي السكان العمانيين في السلطنة، وأن 50.8% من الشباب هم من الذكور. وهو مجتمع ينمو بصورة مطردة، حيث تشير الحالة الديمغرافية للسكان إلى أن نسبة عدد العمانيين بنهاية يونيو من عام 2020 تشكل 59.70% من عدد السكان بالسلطنة. في انخفاض ملحوظ لعدد غير العمانيين، كما بلغت نسبة النوع للشباب العمانيين في الفئة العمرية (18-29 سنة) 103 ذكور لكل 100 أنثى لعام 2018م، كما جاءت نسبة الشباب لكلا الجنسين متساوية تقريبا خلال عامي 2013 – 2018 بلغت نسبة النوع للشباب العماني 103 ذكور لكل 100 أنثى، كما شكل الطلبة في الفئة العمرية (18-29 سنة) ما نسبته 91 %من إجمالي الطلبة المقبولين في مؤسسات التعليم العالي )العام والخاص) للعام الأكاديمي 2017- 2018م، وشكل الطلبة المقيدون في مؤسسات التعليم العالي العام والخاص للفئة العمرية (18-29 سنة) ما نسبته (89.4%) من إجمالي الطلبة المقيدين، وبلغت نسبة الشباب الخريجين من مؤسسات التعليم العالي) العام والخاص( للعام الأكاديمي 2015/2016م حوالي(83%) من إجمالي الطلبة الخريجين.
وتشكل المؤشرات المرتبطة بالزيادة في اعداد الباحثين عن عمل فصلا جديدا تضيف إلى هذا الملف الكثير من التراكمات والتحديات، والتي تلقي بأعبائها على المركز الوطني للتشغيل ـ كونه مرجعية وطنية عليا في رسم ملامح المسار الوظيفي للمخرجات ـ مسؤولية إيجاد معالجات وطنية واقعية أكثر استدامة وتقنينا وتخطيطا واحترافية في سبر هذا الملف وتشخيصه وتوفير البدائل وتحديث قواعد البيانات وشحذ همم القطاعات المختلفة بالدولة في توفير الوظائف وتجديد الدماء الوظيفية وصناعة وظائف المستقبل وإنتاج المسار الوظيفي المرتبط بواقع الاحتياج والملي للطموحات والذي ينطلق من ميادين المنافسة والكفاءة والمهارة ومواءمة المخرجات لمتطلبات سوق العمل المتغيرة والمتجددة، حيث أشارت إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن إجمالي العمانيين الباحثين عن عمل في السلطنة 43 ألف و 858باحثا عام2016 م، وأن – %3.4 هي نسبة الباحثين عن عمل من إجمالي قوة العمل (18-60) سنة في السلطنة، شكلت الاناث ما نسبته (%63.9) من إجمالي الباحثين عن عمل في السلطنة، وأن النسبة الأكبر من الباحثين عن عمل هم من حملة الشهادة الجامعية، وأن أكثر من ثلاثة أرباع الباحثين عن عمل من العمانيين هم شباب (18-29) سنة بنسبة 76.5 %.، تشير الإحصائيات إلى أن (74%) من إجمالي الباحثين عن عمل في السلطنة هم (15-29 سنة)، حيث بلغت نسبتهم حسب الجنس (37%) للذكور، و(63%) للإناث؛ إنما هي نتاج للتطور الحاصل في التعليم والسياسات التعليمية التي اتجهت إلى زيادة أعداد الملتحقين من مخرجات الدبلوم العام بمؤسسات التعليم العالي وزيادة أعداد البعثات الخارجية للطلبة العمانيين لاستكمال دراستهم الجامعية الأولى، والتي فرضت في المقابل واقعا جديدا يستدعي البحث عن أطر وطنية قادرة على تحقيق معادلة التوازن بين الاستمرار في زيادة أعداد الملتحقين في التعليم العالي والمحافظة على سقف التوقعات الناتجة عن الخبرات والمهارات المكتسبة من هذه المؤسسات، وما يعكسه ذلك من فرص أكبر لبناء سياسات وطنية أكثر نضوجا واتساعا وعمقا وشمولية، تضع الشباب في أولويات الاهتمام، كونهم رقما صعبا مؤثرا في السياسات التنموية وترقيتها، وقادرا على صياغة ممارسات تترجمها في الواقع، فقد أشارت إحصائيات المركز الوطني إلى أن مخرجات التعليم العالي تزايدت في السنوات الأخيرة حيث بلغت في العام الدراسي 2014/2015 (19,063) طالبا وطالبة، وفي العام الدراسي 2015/2016 (23,830) طالبا وطالبة، وتشير إحصائيات التعليم العالي في عام 2015/2016 إلى أن نسبة الطلبة الخريجين من مؤسسات التعليم العالي داخل السلطنة 17.1% من إجمالي الدارسين داخل السلطنة، حيث تمركزت النسبة الأعلى للخريجين في تخصصات الإدارة والتجارة بنسبة 31.1% تلتها تخصصات الهندسة والتكنولوجيا المرتبطة بها بنسبة 25.3%، كما بلغت نسبة الطلبة الخريجين بالمرحلة الجامعية الأولى 93.6% بينما نسبتهم في مرحلة الدراسات العليا 6.4%.
وبالتالي تطرح هذه المؤشرات الناتجة عن تزايد أعداد المخرجات التعليمية وقلة حضور الشباب في القطاع الخاص حيث ما زالت النسبة لا تتعدى 13% من إجمالي المشتغلين في هذا القطاع مقابل 87% للأيدي الوافدة وسيطرتها على المهن والوظائف الأساسية في هذا القطاع، تطرح مسؤولية البحث في ترقية وعي الشباب والمواطن بشكل عام بالقيمة المضافة التي تحملها الوظيفة العامة ـ كونها تكليف وطني ومسؤولية اجتماعية وإنسانية وأخلاقية بالدرجة الأولى ـ عندما يلتزم القائم عليها المعايير والاسس والموجهات التي جاءت بها التشريعات، فهي مع كونها استحقاقا وطنيا لكل فرد اكتملت فيه شروط شغل الوظيفة وحقق المعايير، إلا أنها في الوقت نفسه مضبوطة بالتشريعات التي تمنحها القوة وتعزز فيها عوامل النجاح، وتبقى عملية إعادة صياغة فقه الوظيفة لدى الشباب، التحدي الأكبر الذي يجب على مؤسسات التوظيف والإعلام والتعليم والأسرة وأولياء الأمور العمل عليه، بالشكل الذي يضمن قدرة الشباب على استيعاب مضمونه والتعاطي الواعي مع مسببات تأخر تحقيقه في الواقع من جهة أو تصحيح النظرة الضيقة للوظيفة في إطارها الحكومي والمكتبي فقط دون غيره والمفاهيم المغلوطة والقناعات التي باتت متأصلة في ثقافة الشباب بما انعكس سلبا على تعاطيه مع غيرها من الوظائف أو نظرته للقطاع الخاص، على أن تفضيل الشباب للعمل في القطاع الحكومي أحد الهواجس التي باتت تلقي بظلالها على طبيعة الوظيفة، فقد أظهر الاستطلاع الذي نفذه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حول توجهات الشباب العماني نحو العمل لعام 2017، من أن طلبة العلوم الطبيعية والطبية والعلوم الاجتماعية والقانونية والدينية والفنون هم الأكثر تفضيلا للقطاع الحكومي بنسبة تراوحت بين (71.9- 86.0) في العامين 2015 ـ 2016، في حين ظلت العلوم الهندسية هي الأقل حيث بلغت في عام 2016(63%)، وفي عام 2015(65%)، وأشارت النتائج إلى أنه ما زال 7 من كل 10 من طلبة التعليم العالي يفضلون العمل في القطاع الحكومي عام 2016 مع تفاوت واضح بين الذكور والإناث، حيث ترتفع نسبة التفضيل بين الإناث إلى حوالي 80.6 % في حين تنخفض بين الذكور إلى 50.5 % .، وتتفق نتيجة هذا التفضيل في الدراسة التي نفذها المركز لعام 2015، كما أشارت إلى أن الغالبية العظمى من الشباب ما زالوا يفضلون العمل في القطاع الحكومي، وكانت أعلى نسبة لتفضيل القطاع الحكومي لدى الباحثين عن عمل بنسبة %92 وبانخفاض بلغ ثلاث نقاط مئوية عن العام السابق، أما أقل نسبة لتفضيل القطاع الحكومي فكانت بين طلبة التعليم العالي وبلغت 71%، والتي سجلت ارتفاعا بمقدار أربع نقاط مئوية عن العام السابق، بينما بلغت النسبة (83%)، بين المشتغلين مقابل (85%) في العام السابق له، ومجملا فإن أكثر من ثلاثة أرباع الباحثين عن عمل يفضلون العمل بالقطاع الحكومي حتى لو كان الراتب أقل بنسبة 50% عن القطاع الخاص.
وهو ما يعني الحاجة إلى مزيد من الرصد والمتابعة والمراجعة والتأطير المنهجي لبرامج التوعية والتثقيف للطلبة في مؤسسات التعليم المدرسي والعالي والمخرجات الوطنية من الداخل والخارج العماني، بالإضافة إلى الوعي المجتمعي والأسري نفسه باتجاهات الطلبة من مخرجات التعليم أو الباحثين عن عمل في نقل توجهاتهم إلى التخصصات المطلوبة في القطاع الخاص، كما أظهرت انخفاض نسبة من يعتقدون أن الدولة يجب أن تكون مسؤولة عن توفير وظيفة لكل شاب مقارنة بالعام السابق. وبالرغم من هذا الانخفاض إلا أن النسبة ما زالت مرتفعة بصفة عامة حيث إن 77% من هؤلاء الشباب على مقاعد التعليم العالي يتوقعون أن تؤدي الحكومة دورا رئيسيا في إيجاد فرص عمل مناسبة لهم، وترتفع النسبة لدى الإناث إلى 81.6% مقارنة بـ69.5 % للذكور، وما تفصح عنه هذه المؤشرات من إشكاليات تتعلق بالبناء الفكري وعمليات التوجيه وأساليب التوعية المتبعة حول الهاجس الوظيفي ذاته، فمع أن أغلب التخصصات التي تمارسها مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة تضع التخصصات العلمية والهندسية في قائمة أولوياتها، إلا أن عقدة الوظيفة الحكومية والعمل المكتبي باتت الوجه البارز في المسألة، بما يؤكد الحاجة إلى فهم المعطيات التي تضع الوظيفة الحكومية أولوية في التفضيل، وفي المقابل إعادة تصحيح الممارسات الحاصلة في القطاع الخاص وتوجيهها لبناء ثقة الشباب في القطاع وتعزيز الانخراط فيه بشكل أكبر خصوصا في ظل ما تشير إليه الإحصائيات من أن تركز الشباب العماني جاء في مجموعة المهن الكتابية في هذا القطاع، وحاز على أعلى تقدير حيث بلغ (55.435) للعمانيين مقارنة بـ(2.239) للوافدين.
وبالتالي أهمية تصحيح هذه المفاهيم وسد الفجوات وتقريب التباينات الحاصلة لتوجيه هاجس الوظيفة إلى كونه فرصة لتقوية دور أكبر للشباب لبناء عمان المستقبل، ودفعا له للمزيد من الوعي بقيمة الوظيفة باعتبارها رابطة وطنية، وسلوكا خدميا، ومحطة عطاء لا يقتصر نطاقها على الوظيفة الحكومية بل تشمل الوظيفة في القطاع الخاص والعمل الريادي والابتكار، فتؤسس فيه مشروعه الاقتصادي والاجتماعي، وتنمي فيه حس البحث في فقه الوظيفة عبر توظيف المهارة في مسار بناء المهارة وصقل الموهبة وتحقيق إرادة المنافسة لديه وشغف البحث والعطاء والإنتاجية ليصنع لها حراكا في واقعه ويبرز فرص تحولها في ذاته، هذا المنطق هو الذي نعتقد بأن على الباحث عن عمل أو الطالب على مقاعد الدراسة الوعي به، فمع التأكيد على أهمية الإبقاء على سقف توقعاته عالية بشأن البعد الاجتماعي والاقتصادي والذاتي للوظيفة، فإن عليه في المقابل أن يصنع منها هاجسا له يفصح فيها عن ذاته، ويقدم فيها انجازاته، ويعبر فيها عن إرادته، وينقل خلالها صورة القناعات التي يمتلكها نحوها، فيشد من عزيمة الإصرار لديه، ويقهر جانب اليأس في ذاته، ويتحلى بخلق الصبر والتحمل، وينشط جانب المنافسة وتقديم الأفضل لها وإعادة إنتاجها باستمراريته في البحث عن كل مسارات التجديد والتحول في فهمه لمنظور الوظيفة وموقعها في ذاته، وهو أمر مرهون بفلسفة بناء هذه القناعات وتمكين الخريج من الدخول في مواقع العمل والتجربة والتطبيق، وتجديد معارفه التخصصية وثقافته المهنية بتنوع برامج التدريب والتأهيل والتطوير، وكفاءة الخطاب المهني الذي يحظى به الطالب في مقاعد الدراسة أو الخريج الباحث عن عمل، حول مفهوم الوظيفة ومعاييرها وأدواتها ومتطلباتها، وتكييف برامج التدريب والتطوير والشراكات الطلابية بشكل يتيح للخريج فرصا أكبر للتكيف مع الوظيفة ونقل خبراته إلى الواقع، وعندها تتولد لديه ثقافة الوظيفة ويدرك المفاهيم والحقوق والواجبات والمسؤوليات والالتزامات التي تتطلبها والسلوك الذي ينبغي أن يرافقها، والمهارات والقناعات والأفكار والتوجهات التي تحققها في الواقع، وترقية جوانب الوعي بحقوقها وأولوياتها واشتراطاتها واستيعاب كل العمليات المرتبطة بها.
أخيرا فإن ما تفصح عنه مؤشرات التشغيل والوظائف في واقع حياة الشباب في ظل تزايد مخرجات التعليم العالي والدبلوم العام وما يقابله من نقص في الطلب عليها في القطاع الحكومي والخاص في ظل التحديات الناتجة عن انخفاض أسعار النفط والتحديات المرتبطة بجائحة كورونا (كوفيد 19) والتي ألقت بظلالها على قطاع التشغيل والأعمال والوظائف، تجعل من مسألة الحضور الوظيفي وتحمل المسؤولية واستشعار مفهوم أعمق لها في حياة المخرجات جزءا من معادلة الحل، وعبر إيجاد الحزم التصحيحية والمعالجات الجادة التي تحفظ للشباب مساحة الأمان والأمل بالتحاقه بهذه القطاعات لبناء مرحلة جديدة تضبط واقعه وتوجه اهتماماته وتبني فيه فرص التجديد وتعزز من قيم المواطنة والولاء والانتماء لديه، فيتناغم هذا الهاجس مع طبيعة الشباب ذاته، وشغف الرغبة لديه في الإنجاز والتفوق في الممارسة، والقوة في إثبات حضور له في واقع العمل والمسؤولية معززا بسمو المبادئ وقيم العمل ورغبة التعلم الذاتي المستمر، وتجدد عطائه واهتمامه بالبحث والعمل والإنتاجية والتطوير، وسعيه المستمر نحو إحداث الابتكارية في الممارسة، ومع التأكيد على أن أحقية الشباب في تعبيره عن هذا الهاجس وشعوره بالقلق من عدم تحققه، حالة صحية تبعث في النفس الجدية في التعاطي المستقبلي معها وفهم مقتضياتها والمحافظة على شرف القيام بها والشعور بالمسؤولية نحوها، فيخلص في عمله، ويطوّر من تفكيره، ويقدم نفسه لمجتمع الوظيفة في رصانة خبراته وتجاربه وأنشطته ومشاركاته ومبادراته، لذلك ليس غريبا أن تشكل الوظيفة هاجس الشباب العماني الطموح لخدمة وطنه، وتعميق مسارات الوعي والثقة بالمنجز الوطني، وهو ما لا يتأتى إلا عبر تجريب الشباب العماني والثقة فيه وتمكينه وتعزيز مسؤوليته نحو تحقيق الأهداف المنوطة به.
ويبقى الرهان اليوم على المركز الوطني للتشغيل في التثمير في عمليات التحول التي يشهدها في أدائه والمساحة المتاحة له في رسم معالم البناء الوظيفي للكفاءات الوطنية والتحاقها بسوق العمل الوطني في القطاعات الأمنية والعسكرية والمدنية والقطاع الخاص، مستفيدا من الفرص التي أتاحتها ظروف المرحلة وأوجدتها المتغيرات الناتجة عن انخفاض أسعار النفط وكورونا (كوفيد19)، وما أكده خطاب عمان المستقبل لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ نحو تلمس هاجس الشباب بقوله: “وسوف نحرص على الاستماع لهم وتلمُّس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم، ولا شك أنها ستجد العناية التي تستحقها”. موجهات قادمة تحتوي الشباب وتستمع لهم وتنصت إليهم وتأخذ بأيديهم، تحتضن الكفاءة وتحفظ لها مساحة واسعة من الحضور في بناء مستقبل عمان، وتوجيه ذلك كله في إعادة تصحيح هاجس الشباب نحو الوظيفة وتعميق التفاؤلية في قدرة القطاع الحكومي والخاص على كسب الرهان لصالح بناء الثقة في احتواء مبادرات الشباب العماني وابتكاراته وتوفير أرضية النجاح له.
د. رجب بن علي العويسي