أدخل أسواق الدنيا لأعيش حيوية المدن وروحها , وأدخل سوق مطرح لأبحث عن السوق نفسه.
وأمشي في أسواق العواصم وانا أتحسس جيبي , وأمخر سوق مطرح و أتحسس الجدران وأسائل الجدران عن الجدران.
أين سوق مطرح ؟ حشرجة بمرارة الصبر والعلقم.
أين التجار الذين كانوا هنا ؟ دهشة بزحام الوجوه العابرة للمخيلة.
اين وجوه المتسوقين التي تطرز المكان بفضة خناجرها وكأنها مدعوة لبرزة السيد أحمد بن ابراهيم ؟
أين المحازم والتفاق وكأن العابرين هنا يتأهبون لمعركة كبيرة ؟.
أسئلة بحجم الغياب وغربتي.
لقد جاء معالي المهندس عبدالله بن عباس رئيس بلدية مسقط الأسبق إلى خور بمبه ومعه حلم أن يبقى السوق مطرحيا في وجوهه وروحه ودكاكينه وبضائعه.
وأن يكون بحرا آخر لمطرح لتتلاقى زرقة الماء التي تصطخب بالأشرعة والنواخدة بكرنفال ألوان البضائع وجلبة البيع والشراء.
وجاء المهندس بن عباس بأمنيات أن يبقى خور بمبة المتجذر في الأزمنة كسوق دمشق الذي تحج إليه قريش في رحلة الشتاء والصيف في غابر الأيام , لتتبضع من خاناته سيوفا وحرابا كسيوف وحراب بيزنطا ، وتحمل منه لنساء قريش نسخا من خلاخيل الامبراطورة “إيريني” وأقراط الملكة زنوبيا وشالات تدمر ، وفواكه الغوطة وفستق حلب.
وأراد رئيس بلدية مسقط أن يحضر سوق مطرح في التاريخ كسوق الحميدية الذي تركه الأمويون قبل ألف وأربعمائة عام ولا يزال يبيع بشوتا كبشت معاوية بن أبي سفيان ، وزنانير كزنار الملك نقفور.
ولا زال محجا لفناني باب الحارة يتبضعون من خاناته للأزمنة الغابرة الكوفية والعقال المرعز والبرقع , وينتقون السيوف والشبريات والأغماد المشغولة بالعاج والأحجار التي تلمع في الدراما السورية.
وكانت من قرارات المهندس بن عباس بناء بوابات تجعل من سوق البندر كسوق “كراوفورد” في ممبي ، أو كسوق “لارامبلا” في برشلونة ، وإضفاء لمسات على سقفه تقربه من حصن جبرين ، وإدخال الأخشاب لأسقفه لتتناغم وإطارات أبواب المحلات لينبض المكان بروح الأسواق العمانية القديمة في نزوى والفيحاء وشاذون وعبري وصلالة والرستاق.
لقد بدت لمسات بلدية مسقط في عهد المهندس بن عباس بمثابة تبرئة لذمة التاريخ في الحفاظ على سوق وصل إلينا مع خواتيم عهد اليعاربة وعشنا نموه في عهد سلاطين الدولة البوسعيدية المجيدة , وتلألأ في “فترينة” الزمان في العهد الميمون لسيد عمان.
ولكننا للأسف تقاطعنا مع هذه التبرئة للذمة وفشلنا كمواطنين في الإبقاء على السوق بروحه وشخوصه وبضاعته ومرتاديه , فلم نقرأ جهد الحكومة في بنائه القراءة الصحيحة , ولا قاربنا جهدها المقاربة الصحيحة فتركناه للوافدين يكررون فيه نسخا مشوهة لأسواقهم , ويفرضون علينا ذوقهم وبضاعتهم.
ولم يكن سوق بندر مطرح وحده الذي خرج على نص حياتنا العمانية , فالريف القصي الذي اعتاد الاستيقاظ على “مسحاة البيدار” و “توليم الصوار” باتت تطرق دروبه البكر الأقدام الوافدة ، وتتصدر غدور نخيله الوجوه العابرة من شطآن “شيتاجونج” وضفاف نهر “الجانج” وقد تحزمت ب “الصوع” كما يتحزم العمانيون ، إلا ان النخيل كالخيول تعرف فرسانها.
أدخلُ سوق مطرح اليوم أسائله عن جمعه الحلاو الذي بدكانه كان يبدأ خور بمبه صفه الأيمن من الدكاكين , وبرائحة حلواه المشعشعة زعفرانا ولوزا تتعطر أيام البندر , فيرد علي وافد هندي يجلس في المكان تحت لافتة جديدة تحمل اسم “ركن الإختيار” ، وقد تغير الدكان من بيع الحلوى إلى الملابس : بابا جمعة فيه موت , وبابا علي بن جمعة “بنَّدْ حلوى”.
أتركه لأنشغل بقراءة لافتة دكان للملبوسات والعطور تحمل اسم علي البادي ، وكانت تشغل هذه المساحة في الماضي مدرسة مختلطة لأبناء البانيان.
وأمضي خطوات في الصف الايسر نحو دكان مصلح الساعات “السيت وارا” والذي اعتاد أن يدس إحدى عينيه في مجهر حديدي ينتهي بعدسة مقعرة ليتفحص ماكينة ساعة “وستن” وفدت إليه لإصلاحها من مؤذن يريد أن يضبط مواقيت الأذان , أو ينهمك بتغيير ميناء لساعة “أوريس” لمزارع عجز من رؤية عقارب الساعة الغارقة تحت غبش الزجاج القديم خشية ان تفوته مواعيد زفاف السواقي للماء.
كان “السيت وارا” لا يزال لعهد قريب في المكان ، ولكن الساعات تغيرت من “الوستن والأوريس” إلى “السيكو والكاسيو” الرقمية ، وتغير الفحص من التدقيق في حلقات الماكينة بالمجهر إلى مجرد تبديل للبطارية دونما حاجة لمجهر يطبق عليه بجفنيه.
كما تغير أصحاب الساعات الذين كانوا يرتدونها في زنودهم وهم يسقون الزرع أو يزينون بها أطواق الخناجر ، فقد بات زبائن “وارا” من بني ملته الذين يمتهنون كل شيء ويستحثون السيت وارا ليضبط دقة ساعاتهم ليكونوا عند مرافي المواعيد.
وأتوقف عند شرفة خشبية كان يجلس عليها الصراف “ناووه” و قبالته صندوقه الزجاجي الذي تطل منه روبيات الهند وباكستان وعملات الخليج العربي ، فقد غادر ناووه مطرح ليموت في الهند تاركا للسوق شرفته الخشبية.
وتحملني الخطوات قليلا لأقرأ لافتة أخرى تبيع الفستق والسبال واللوز فأسأل البائع الهندي عن عبدالله بن ثاني أو “عبدالله التفاق” كما كنا نناديه , فيضحك الهندي من غباء سؤال تحجر في مآقي الزمان , فعبدالله التفاق رحل مع الأزمنة الجميلة للسوق , ومعه كل تفاقه ومحازمه ورصاصه.
كان عبدالله التفاق هنا يعيد تجديد بنادق “الكند” , ويتدخل في خشب “مرفس البوعشر” , ويعيد تشكيل سبطانة “البرشوت” , ويجدد أزمنة “الفلسي والمعدن والصمع وأبو صلوم”.
اتأمل المكان الذي كان يشعشع هيبة ورجولة , وأستعيد الأوتدة وقد تعانقت فيها التفاق والمحازم , وارتد ببصري إلى صناديق المكسرات وأكياس الشوكولاته , فالبائع يكلمني وهو يمضغ لبانة من بعض ما يبيع ، بينما التفاق “بن ثاني” كان يمضغ العمر وفي كفيه زيوت البنادق وشموخ المحاربين.
أقف الآن في منتصف خور بمبه وهنا كانت في أزمنتنا القريبة مصطبة عالية يرتقيها خلفان العنقودي ليطاول أهرامات من الصفاري المعدنية التي يبيعها.
كان العنفودي طوال النهار يبيع الصفاري والصواني والمغارف وإذا جن الليل حمل طوله الفارع وسمرته للليل حارة العريانة أو العرين ليملأ سهرها بحلقات المالد , بينما يفترش المكان اليوم الباعة الجائلون الذين يعرضون فصوص الخواتم والخيازرين المنقوعة في طلاء رديء .
وامضي إلى اليمين من صفاري العنقودي فأستعيد وجه محمد عبد العظيم وهو يجلس أمام قوارير عطر “بو متوه ” التي تتعانق عليها صور الببغاوات , وعبوات معدن عطر “بنت السودان “المزدانة بحوريات إفريقية , وقوارير عطر بعبق العود والعنبر والورد والخس , فيما يجلس اليوم في نفس المكان وافدون تحت لافتة “متجر الحديثة” يتحايلون على عجوز من هامبورج أو سائحة من يوكوهاما أو كهل من حقول عباد الشمس في هولندا ليبيعونهم أوشحة من كشمير وشالات من البنجاب وكميما من الفلبين .
وقبالة دكان عبد العظيم يقع اشهر “حفائس” السوق إنه “حفيس” الثري المطرحي طالب بن محمد الزكواني صاحب اشهر وأكبر عمارات مطرح ، والذي تتناول البلدة على مائدته غداء اليوم الثالث للعيد.
في هذا “الحفيس” كان يلتقي طالب الزكواني بأعيان عمان وأثريائها , وخلف هذه الجدران كانت تتم صفقات بيع البسر العماني بمئات الآلاف من القروش بينما “يتقنبر” اليوم في المكان وافد تحت لافتة “بن سليم الحارثي” يبيع الحلي الصناعية الرديئة التقليد , فما أقسى الفارق في المكانين وبين البائعين.
وأعود للصف الأيمن لدكاكين خوربمبه وإلى حيث كان يجلس عبدالله بن سلوم الراشدي الذي يصدر التمر إلى الهند وبورما لألتقي بوافد آخر يبيع تحت لافتة “حسبن حسن علي” تراثيات و”أنتيكات” آسيوية للسياح الأجانب على أنها عمانية.
وأعود إلى اليسار بنفس السوق لأتنفس زمن الحلاو زهران الهنائي الذي كان هنا يجلس خلف “دست حلوى” , وبيده “مقشطة” يغرف بها الحلوى على صحون من النحاس لزواره , أو لزبائنه الذين تشوقوا لالتهام حلواه الساخنة.
اقف في المكان واستعيد لسعة سخونة الحلوى كجو مطرح ، واسترجع قشاط الحلوى كأزمنة لن تعود.
لقد رحل زهران ومعه حلواه وقشاطه وصحونه النحاسية وخلفه في المهنة ابنه الشيخ محمد بن زهران الهنائي ليضع على دكان والده لافتة باسم جابر بن زيد.
تصدمني التسمية التي لا تليق بمصنع حلوى ، بل هي أليق لاسم مسجد أو معهد أو مكتبة تبيع مسند الربيع بن حبيب وهيميان الزاد وطلعة الشمس وتلقين الصبيان وجواهر النظام وإرشاد الأنام وبرهان الحق ، ومع ذلك استمرت اللافتة ولم يستمر محمد بن زهران في الجلوس مكان والده بل اكتفى بالاشراف عن بعد , فيأتي عماله بالحلوى من مصنع العريانة او العرين ليعرضوها تحت لافتة جابر بن زيد ولكن جودتها ظلت مستمرة.
ويأخذني التحنان لصبا المكان فأصل إلى دكان تزحمه التعاليق وبضاعة سوق “تشورا بازار” في ممبي وكان هذا المحل يبرق في الماضي بماركة “فيلبس” المملوكة لجعفر باقر عبداللطيف فاضل , وكانت الأرفف تسطع بإنارة الماركة الهولندية من لمبات وثريات ومراوح وبطاريات , وبأجهزة من الأجيال الجديدة للراديو فتتزاحم في الأسماع البي بي سي وإذاعة صوت الساحل وصوت العرب .
وأصل عند مقهاة “بيري” فأمد الأرجل على أريكتها وفي يدي كوب شاي كرك ، فهنا كان يجلس المتعبون من التجوال في السوق يشربون الحار حامض في الصيف و الشاي الساخن في الشتاء وأمامهم البحر ولهاث الحمالين وحشرجات النوارس.
“هنا لعبتُ الحواليسَ يوماً
ووازنتُ بين الحصى والحصى
وهنا تخاتلتُ والخصمَ
أَنَّى دنا أو قصا
وهنا أناخَ الزمانُ
المطايا السبوقَ
وألقى العصا”
وعند هذه “المقهاة” يقترب خور بمبة من نهايته ليتفرع لسكتين جديدتين واحدة باتجاه الغرب هي سوق الظلام والثانية باتجاه الشرق هي السكة الشرقية.
بينما يواصل دكان الحلاو سنجور مد خط الصف الأيسر لخور بمبه لينتهي بالبحر ولتعانق حلواه بموج الخور الذي يراود المكان في سنن المد والجزر.
لقد لحق ولد سنجور هو الآخر بصاحبيه جمعة الحلاو وزهران الحلاو وتحول دكانه لبيع الأنتيكات القديمة للعابرين الذين يترجلون من السفن الفندقية السياحية ليتنفسوا سوق البندر الذي لا يعبر البندر ويتخيرون تذكارات من المكان مكانا لا تعبر عن المكان.
أتأمل سوق الظلام قبل أن أدخله, وأستذكر أزمنة عمان التي كانت تتردد على المكان.
من أرفف خانات هذا السوق الذي كان مشرقا رغم التسمية المعتمة كانت تتزين عمان للعيد والمناسبات , ومنه تتخير مصر العيد وكمة المدرسة السعيدية , ومن تجاره الكبار كانت تجهز ملبوسات أعراس بناتها .
أدخل سوق البز أو سوق الظلام وفي ذهني الربابنة الكبار لسوق البز أمثال مهدي جواد سليمان و “لكشميداس تاريا ويد” الذي يختصر في “لكوه” ولال بخش الجواذري المتخصص في “الزري بو خوصة وبوخوصتين وأنواع وألوان السناجيف والشنابر والفولك والفصوص والمنمنمات” وموسى عبدالرضا اللواتي الذي تطور للالبسة الجاهزة , بينما يشاركهم في نفس مهنة بيع البز مال الله حبيب مراد الذي اختار السكة المقابلة لسوق الظلام او السكة الشرقية.
لا زال “مادهوجي ولجي” يفتتح سوق الظلام بدكانه الأول في الصف الأيمن ويليه دكان حميد ذلك التاجر النحيف الذي يضع كمة كقباب المآذن فتزيد من طوله ونحافته .
لقد رحل حميد ومعه “كورجات” الأوزرة واللواسي والهافات وفانيللات الصيف القطنية , وورث الدكان بعده ابنه محمد رضا الذي احتفظ بالدكان اسميا وتخلى عنه فعليا لوافد ، رغم أن الوافد استمر يبيع بضاعة اقرب لمالكه السابق حميد .
وقبالة دكان حميد هناك أطالع دكان جواد محمد علي وهو من الشباب المكافح والنادر الذين استمروا في المكان , ويليه دكان علي بن جمعة ندواني.
وعلى بعد خطوات يجلس القرفصاء عبد الأمير عبد الرضا هاشماني حاسر الرأس بدشداشة كويتية كدشاديش زمان ، وحواليه الارفف المزخومة بطاقات الثياب الرجالية والنسائية.
وعلى بعد خطوات يتحامل رجل كهل من بقايا الامس ومعه بضاعته المتجددة بزمن اليوم هو رضا عبدالله الساجواني أحد بقايا الرعيل الأول الذين يتعطر بهم السوق ويتجاذب بأنفاسه أيامه.
سلمت على الرجل فبدا صامتا لا يود الكلام ، وحين رفعت هاتفي لأصوره أشار بيده مبديا عدم الرغبة في التصوير ، فتركته معتذرا وقد أعاد مسك رأسه بيديه ربما لوجع ألم به أو لحسرة على أيام السوق وايام رجاله.
وأقترب من دكان أشهر بائع كميم في سوق الظلام إنه علي رمضان سليمان الذي يباشر العمل بنفسه في بعض الفترات ويترك الباقي لمساعده الوافد الذي يستقبل كميما عمانية من بركاء وحيل الغاف وحلة الشيوخ.
جلست إلى الرجل ليتحدث بحسرة عن سوق يحتضر وزبائن يتقاصرون , ولذلك يتقاصر هو الآخر عن المجيء الا ليشرب الشاي كما يقول ويتنفس الأزمنة.
أتأمل دكانه المملوك لأوقاف مسجد الميامنة والذي آل إليه بخلو من التاجر المعروف محمد سلطان يوسف الذي سبقه لتجارة الكميم ، وكان المنافس له ثم ترك له المكان فانتقل محمد سلطان يوسف خارج سوق الظلام ليلتصق دكانه بالسوق من الجهة الخلفية متخيرا مواجهة البحر , وموسعا تجارته لتنتقل للمقاولات , وليستثمر من نفس ممتلكات مسجد الميامنة عمارة العصائر لعشر سنوات فيعيدها لاصحابها بعد استنفاذ الأجل ويترك المكان إلى مناطق حيوية أخرى في مسقط ككل الكبار الذين كانوا هنا يضيئون الزمان.
وابلغ منتصف السوق لأبحث عن دكان عبدالله عبدواني المعروف ب “عبدالله ولد التيس” الذي كان يفترش حر المكان بين المئات من “طاقات الثياب النسائية واللواسي والحظايا والأوزرة” .
كانت ولايات الداخلية معظمها هنا في دكانه لارتباطه بالمصاهرة بامرأة من إحدى ولاياتها, ولأنه كان يبيع بضاعته بالأجل لحين ميسرة , وكان أشهر من يمتهن بيع البز الذي يشتريه من الوكلاء ويبيعه بالمفرق.
وفي كل موسم يفد إليه الزبائن ليتبضعوا احتياجات عام كامل ومع تصريف غلل الموسم يأتون للسداد ولشراء الإمداد الجديد للموسم الجديد ومناسباته الجديدة في العمر , وقد ترك هو الآخر المكان ليرثه ابنه محمد ويحوله من الملبوسات إلى العطور , ويوكل أمره لوافد يقف خارج الباب ليجتذب زبائن لن تجد في العطور التي لا تمثل ماركات رواجا.
ويحاول الابن الثاني لعبدالله التيس مقبول عبدواني مجاراة أبيه فيفتتح دكانا قبالة دكان أبيه ، فما يلبث هو الآخر التخلي عنه.
وأبتعد خطوات نحو دكان الصيدلي علي عبد الحسين الذي كان يجمع النخبة من المطرحيين وابناء الولايات ، يبثونه وجعهم فيصف لهم الدواء دون وصفة ، ويبثهم حكايات اسفاره الى المانيا وبلاد الانجليز والى اسيا وشرقها الساحر.
لقد اعتزل الصيدلي علي عبد الحسين السوق وجاور السيد محمد بن أحمد البوسعيدي بمزرعته بحلبان , وتصرمت الأعمار واندلقت قوارير الدواء ولم تندلق الأمراض.
وأقترب من النهايات لأتوقف عند دكان تقلبت عليه الأسماء والدهور إنه دكان “تاول” أحد أهم العلامات التجارية , وقد كان يتلألأ في السوق كآخر مداولاته تحت اسم صيدلية مزون بإدارة محمد بن حبيب فاضل , قبل ان يغير الصيدلية ويترك سوق الظلام ليجاور البحر هو الآخر ويكبر الاسم ويزداد سطوعا في أكثر من مجال واكثر من مكان إلى الآن .
وأختتم ظلام سوق الظلام بدكان “البانيان جولاب” الذي تخصص في بيع الشوكولاتة السويسرية وأواني الطبخ “الستيل” , وقد رحل هو الاخر وبقيت صورته على الحائط تغني الأزمنة ، ليبدا بعده سوق الصاغة بدكان خميس بائع الفضيات المسكين الذي يجلس خلف صريدان ينفخ جمره بمنفاخ يدوي.
وبين دكان “مادوهجي” في البداية الى دكان جلاب في النهاية تتزاحم لافتات باسم محمد رضا و “رتنال جنيش بهاي ودج سميت” وغيرها.
وأعود للسكة الشرقية لسوق البندر الذي يبدأ بدكان “دوار كاداش” لبيع المنسوجات ، واعبره سريعا لأتوقف عند دكان المعلم مزار الذي لا يزال يحمل اسم عمر عبدالعزيز معلم مزار ولا زال يبيع فنر “البتريمكس” والقناديل ودلال القهوة وأباريق الشاي ومشابك الفئران وجرار السمن ومنافيخ المواقد اليدوية و “مجاز” تشذيب النخل والشجر وحصاد القت , إلا أن المعلم رحل والدارسين تركوا الدرس قبل أن يكتمل.
وأمضي بنفس السكة لأتوقف بالقرب من مصنع حلوى سالم بن سيف الأخزمي عند دكان مال الله حبيب مراد أحد رواد توكيلات الملابس القادمة من الهند واليابان وشنغهاي وأهم الأسماء التي كانت تسطع في تجارة البز و الذي تقدم ذكره في سياق الحديث عن سوق البز , لقد تصرم الاسم والنشاط وطويت صحائف التجارة لصالح مهدي جواد سلمان .
وتنتهي السكة بأشهر أسماء دكاكين سوق مطرح وهو دكان مستر فويس الذي كان يعلق صورة كلب ينبح أمام مكبر “الجرامافون” أو “السنطور”. وعنده تحمض عمان افلامها الفوتوغرافية بل والسينمائية لاحقا حيث يرسلها للخارج لتحمض وتطبع في عملية تستغرق أحيانا لأسابيع والذي بدل هو الآخر نشاطه لبيع الحقائب والأحذية و”رولات” التغليف تحت لافتة جديدة باسم “جوهرة صور للتجارة” وقد تم إنزال صورة الكلب الذي ينبح في مكبر الجرامافون فليس هناك من يستمع للنباح.
وقبالة دكان مستر فويس كان يرتقي الحلاو سالم الأخزمي مسطبة لبيع الحلوى وخلفه مراقٍ موقدة لحلوى توشك أن تجهز , وقد رحل الحلاو وحلواه و تغيرت المصطبة إلى محل بسيط لبيع مشابك الشعر البلاستيكية بعد أن كانت حلواه تشتبك مع حوارات الجالسين على موائد السادة في مسقط وأثرياء مطرح .
وأواصل المشي باتجاه القلعة والفرضة إلى الجهة الشرقية لأبحث عن الشيخ علي عبداللطيف وباقر عبداللطيف حيث يتولى معايرة أوزان البضائع وتصديرها في الفرضة والذي امتدت املاكه لتشمل مزارع في نخل وغيرها ومنه أعود لسكة سوق الجملة والتي تختص بالمواد الغذائية لأقف عند دكان ورثة موسى الحاج شعبان فدكان “هارنيس هاريش كومار”؟ ومنه استعيد روح “لالوه رضائيه” , وبالقرب منهما أتساءل عن موسى خميس الذي يبدو خلف منضدة دكانه كاستاذ جامعي بنظارته. وقبالتهم كان هناك “كيمجي رامداس” يلتقي بأثرياء عمان من الذين يبيعونه البسر ويبيعهم الرز والقهوة والسكر والطحين وحليب كارنيشن وغيرها من الماركات التي يحتكر توكيلها.
وقد ترك سوق مطرح لمواقع جديد ليرفع دكانه لافتة باسم “زريق للمنسوجات”.
وابتعد قليلا لأقف عند دكان كان قد استاجره الخال سليمان بن خلف الخروصي والاخ بدر بن سالم السيابي بين اواخر الستينيات ومطلع السبعينيات ليجربا حظهما في التجارة ثلث الملك فامتهنا بيع المواد الغذائية , وقد تركاه سريعا مع بداية العهد ليرفع الدكان اليوم لافتة “فخر نجوم للتجارة” لبيع الأدوات المنزلية والهدايا والكماليات.
وألقي نظرة حسرة على “حفيس” سلمان ناجواني الذي تعاقب عليه أكثر من نشاط إلى أن استقر لسنين لبيع ماكينات الخياطة “سنجر” اليدوية , ثم انتقل لبيع الادوات الكهربائية , إلى أن انتهى “الحفيس” كمخزن مهمل وقد توارت نوافذه الزرقاء خلف سديم الزمان.
وأقترب من نهاية سوق الجملة لأقف عند دكان الشيخ محسن بن حمد الراشدي الذي كان يجمع بين التجارة والمشيخة ، وكان دكانه ملتقى للمعسرين ليدفعوا حين ميسرة , وكذلك كان بيته دوما موئلا للعابرين للبندر من فنجا والداخلية.
وقبالته كان دكان التاجر المطرحي المعروف سيف بن سليمان الحارثي حيث يواصل ابنه محمود بن سيف رسالة والده ولكن بخط مختلف ، فوالده كان يبيع ما يملأ المراجل من رز وبهار وملح , بينما اكتفى محمود ببيع المراجل وادوات المائدة وكأنَّ “صفاري” خلفان العنقود الذي كان يصف اهرامات صفاريه بالجوار قد أدخلها محمود الحارثي بدكانه.
لقد تمدد محمود ليجمع دكان والده ودكان الوجيه محسن بن حمد متخذا الدكان الآخر لوالده رديفا .
وقد التقيته وأنا أعد هذه المادة فتجاذبنا أطراف الحديث عن العريانة والسوق والسعيدية والآباء ، وعن ماضٍ كان يضيئه والده وعن حاضر يشرق بوجوده هو فيه ليواصل الرسالة.
كان محمود الحارثي زميل السعيدية ورفيق الصبا والجوار والآمال ،
وأودع محمود الحارثي تاركا الرجل يواصل الرسالة ويرد على مكالمة هاتفية قد يكون موضوعها بعض المراجل والمغارف لمأدبة كبيرة ومناسبة فرح تحتاج لمثل هذه الاحجام من الأواني.
وأمضي في سكة اخرى تبدأ من “حفيس” طالب الزكواني باتجاه الغرب لأتوقف عند دكان أختر البلوشي الذي يحمل اسم “علي بابا للتحف” والذي دخله يوما جون كيري وزير الخارجية الأمريكي السابق وفيه هز سيفا عمانيا وتفحص فضة مكحلة ، لانعطف يمينا حيث كانت مطرح تتبضع اللحم من الماركيت وتحولت فيما بعد مأوى لسميروه وشعبان الثنائي المطرحي ، حيث كانا يأويان إلى هنا بعد ان ينفض سامر البيع في الصباح وينظف العمال المكان ، فيأتيان على هودج الليل ليتوسدا السواعد ويبحران في سديم العمى نحو النجوم والأقمار ، ويسفحان في المكان الزمن المتسارع حسرة وشقاء وقد تحول اليوم لدورات مياه ولكنها مهجورة.
واواصل المشي حتى دكان سالم بن محمد الوهيبي المتعهد بتصدير التمر في المواسم ، والذي كان يشغل نفسه كل نهار ببيع “الآنات السعيدية” التي تمثل العملات المعدنية المتدولة في مسقط وولايات الساحل للروبية الهندية ، وقد رحل هو الآخر ولم يورث التجارة لأولاده فقد ارتفعت على دكان الوهيبي لافتة “الركن الذهبية للأقمشة” ويبدو ان الهندي اخطأ حتى في كتابة العنوان فأنث كلمة الركن بدلا من أن يذكرها.
وبجوار دكان الوهيبي يواصل أبناء “هيرشنجدرا ديبجند كرمجن” تجارة ابيهم في بيع الليمون المجفف ولكنهم اختلفوا مع أبيهم الذي كان يبيع الليمون العماني بينما هم يتاجرون بالليمون القادم من الصومال والهند الى جانب نبات الآس والزعفران , وبجوار دكانهم يواصل ابناء “داس ماترداس” تجارة ابيهم في بيع المواد الغذائية.
واستمرت العيادة القديمة في الجوار مكانها حيث تشغلها اليوم صيدلية مسقط.
وأواصل المشي وأنا استذكر في المكان مطهم “هوتيل آدم” المتخصص في وجبة “الأب جوشت” وقبالته تنور بيع السمك المشوي لأنتهي بالدروازة التي أقف عند جدارها الشرقي ولأواجه على يمين مركز شرطة مطرح دكاكين الدرامكة وقد رحلوا واختفت بجوارهم لافتة نقليات عيسى ومالك لصاحبيها عيسى بن سعيد الكندي ومالك بن ابراهيم الكندي.
وارنو الى يسار مركز الشرطة نحو دكان “الخنجي” الذي يتقاسم الماء هو وناصر بن عبداللطيف السركال بيع مضخات رفع الماء حيث ترتفع اليوم لافتة باسم أسواق دبي لبيع مفارش الاسرة والوسائد وبجواره “مقهاة” سعيد المقهوي التي صبت هي الاخرى منذ زمن فنجانها الاخير.
اما “هوتيل” الجواذري فغسل صحونه ومثله “هوتيل” داوود أطفأ تنوره وأوصد علي بن منصور باب محل قطع الغيار ، واستمر مطعم تاج محل يعرض خبز التنور والدال ، بينما حمل خميس الكتبي خزانته التي يبيع عليها نفائس الكتب لتحل بجوارها مكتبة باكستانية تحمل اسم مكتبة المدينة المنورة المتخصصة في كتب الرقي والادعية وبجوارها أخرى هندية تحمل اسم صلالة للكتب تبيع كتاب قاهر الارواح وكتب الطلاسم والعلاجات الشعبية.
لقد ملأت هاتفي صورا للمكان وتوزعت على صفحة ملاحظات الهاتف بعثرات حروفي ، وقبل أن الملمها في هذه السطور تساءلت ما إذا كان رجال السوق تعبوا فتبعثروا أم نحن الذين تعبنا من القبض على سيرهم وحكاياتهم؟.
وأعود إلى خيط البداية لأبحث عن كأس شربت في مقهى “خميس جوك” وأشم البحر والازمنة لأصحو على حقيقة أن خميس جوك ترك المكان فلم اجد غير أريكة “حاجي بيري” لاطفيء عطشي بكاس ماء بارد وأنا أتأمل سقف خور بمبه وعبدالله عباس لأسجل ان معالي عبدالله بن عباس لم يكن مهندسا ليحمل للمكان مسطرة وقلم رصاص ، بل كان فنانا ملهما حمل لخور بمبه فرشاة وعلبة ألوان ليعيد صبغ وجه مطرح بذائقته المفرطة ، ولكنه وهو يرسم ابتعد حلاق السوق “ثانوي” وخرج كل الشمامير واغلقت المقاهي وغابت اللوحة وبقي الإطار.
وانا اخطو نحو سيارتي تذكرت قول نزار :
كان واضحاً أن المدينة قد انتقلتْ..
والأرصفةَ قد انتقلتْ..
والشمسَ قد غيَّرتْ رقم صندوقها البريديّْ
والنجومَ التي كنّا نستأجرُها في موسم الصيفْ
أصبحتْ برسم التسليمْ…
كان واضحاً.. أن الأشجارَ غيَّرتْ عناوينَها..
والعصافيرَ أخذت أولادها..
ومجموعةَ الأسطوانات الكلاسيكيّةِ التي تحتفظ بها.
وهاجرتْ..
والبحرَ رمى نفسه في البحر.. وماتْ..
نعم إنه سوق البندر الذي أكتبه بحبر الغربة وغصص الأسئلة.
حمود بن سالم السيابي
نشر هذا المقال بعدد سبتمبر ٢٠١٧ من مجلة التكوين الصادرة عن دار الغشام