بيروت مدينة مسيلة للدموع، تماما كانت مسيلة للفرح. لكن حتى في الفجيعة لم تستطع مدينة أن تتألق، مثلما تألقت بيروت وهي تحمل أشلائها وأحشائها، كمدينة للحياة والأمل المتجدد.
وفي لحظة نووية كاملة التخصيب، بدت بيروت كاسفنجة تمتص كل مقذوفات ومكبوتات الحقد والكراهية، والفساد المتناسل إفسادا متأصلا في جبين طبقة سياسية تناوبت على نحرها وذبحها من الوريد الى الوريد. حتى بدا انفجارا المرفأ بمثابة الضربة ما بعد القاضية.
ومع الإعلان عن تقاطر أسراب طائرات الإغاثة والمساعدات الطبية السعودية، والأوروبية، تردّد أن جمارك مطار بيروت منعت فجر اليوم ادخال المساعدات الإماراتية لتضميد جراح بيروت وقد استشهد مع مينائها الذي غنته فيروز، عشرات الضحايا، والاف الجرحى والمفقودين، ومئات الاف المشردين خارج بيوتهم.
وفي زيارة عزاء لبيروت قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون “ان بلاده ستقدم مساعدات غير مشروطة للبنانيين، وأن فرنسا ستنسق مع الأمم المتحدة كي يستفيد منها كل أبناء لبنان”. لكن العبارة الجوهرية التي قالها ماكرون: “لا يمكن إجراء إصلاحات مع وجود فساد”.
إنه الفساد الذي تمأسّس في ظل منظومة المال والسلطة والسلاح الحاكمة والمتحكمة في البلاد، والتي يمسك بناصيتها حزب الله ضمن معادلته الاستراتيجية المعروفة “غطوا على سلاحنا نغطي على فسادكم”. وهي المعادلة التي وفرت للحزب كل التغطيات المطلوبة في معابر التهريب ومسالكه الشرعية وغير الشرعية.
إنها المعابر البحرية والجوية والبرية، التي تتسرّب عبرها شحنات حزب الله العسكرية والتجارية المختلفة دونما حسيب ولا رقيب، وهي المعابر التي يُدخل ويُخرج عبرها حزب الله ما يشاء، وساعة يشاء، وفي أي اتجاه شاء، له ولمن يشاء.
ما تقدم ليس اتهاما متحاملا على حزب نصراالله. بل الحقيقة التي يؤمن بها اللبنانيون. الحقيقة التي تعرفها جيدا الأجهزة العسكرية والأمنية والجمركية والقضائية فضلا عن الإعلامية. وهي الحقيقة المحمّية بالبيانات الوزارية لحكومات متعاقبة امتلك فيها الحزب بفائض السلاح “الفيتو” على تشكيل الحكومة كما على قرارتها.
انفجار مرفأ بيروت، هو الحدث الزلزالي الأكبر في تاريخ لبنان. وبحسب توصيفات الخبراء هو الانفجار الثاني بعد هيروشيما، من حيث مساحته التدميرية والتفجيرية الهائلة. وبات مصطلح “بيروشيما” التوصيف الذي يعطي الدلالة الكاملة على ما أصاب بيروت.
عقب انفجار بيروشيما استذكر اللبنانيون مقطع من خطاب شهير لنصرالله في اطار الحرب النفسية مع إسرائيل قال فيه: “كم صاروخ من عنا، زائد حاويات الامونيا في حيفا، نتيجتهم نتيجة قنبلة نووية.. ويقول لك يجي كم صاروخ ينزلوا بهذه الحاويات بمنطقة يقطنها 800 ألف نسمة يقتل منهم عشرات الالاف”. استذكار اللبنانيين هذا فرض طرح السؤال حول مدى قدرة إسرائيل على استخدام خطط حزب نصرالله النفسية تجاهها في اغتيال بيروت.
إذن، بيروشيما، تفجير متناسل أقله من فساد المنظومة الحزبلّاهية اللبنانية، التي اهتزت أركانها بفعل الانفجار. لكنها المنظومة التي وشت بعض إجراءاتها، بمحاولة امتصاص الأسباب الحقيقية الكامنة وراء بيروشيما الذي لا قدرة لأحد منطقيا على تمويهه عبر العبث بمسرح الجريمة وإتلاف بعض الأدلة. لكن العبث بوصفه أحد مشتقات الفساد النيتروني أيضا، متأصّل في الإدارة والأمن والقضاء والسياسة والاقتصاد والمال.
وما تعالي الأصوات المطالبة بتحقيق دولي أو عربي في تفجير بيروشيما، إلا تعبيرا عن اللاثقة في تشخصيات أجهزة الدولة الأمنية والقضائية وتحقيقاتها. إنها اللاثقة المشتقة من زواج السفاح بين مكونات منظومة المال والسلطة والسلاح، وهي المنظومة التي سارعت بلسان وزير الداخلية الى رفض التحقيق الدولي، وهو الرفض الذي يثير الشبهات، سيمّا وأنه يذكر برفض مماثل للتحقيق الدولي باغتيال الحريري.
فالمعلومات المتسربة على لسان مدير مرفأ بيروت وأيضا مدير الجمارك تتحدث عن مراسلات متعددة للجهات القضائية بهدف النظر في أمر القنبلة النووية في العنبر رقم 12. ما يعني أن القضاء اللبناني ضمنا، وسواء غلّ يد نفسه، أم غلّت جهات ما يده، هو في دائرة الاتهام المباشر بهذه الجريمة التي لا بشاعة تدانيها والتي لا قبل لأحد على تحملها.
في جريمة اغتيال الحريري، سارعت بعض السلطة ومنها حزب الله الى اتهام إسرائيل بالوقوف وراء الاغتيال الزلزال. وأعدوا سيناريوهات خيالية بذلت فيها جهود استثنائية تتهم إسرائيل التي لا أحد ينكر عليها إجرامها المتمادي في حق فلسطين وعبرها.
في جريمة اغتيال بيروت، وللمفارقة سارعت منظومة المال والسلطة والسلاح اياها، الى عدم اتهام إسرائيل العدوة، رغم عن كلام شهود عيان عن صاروخ أصاب المرفأ تزامنا مع تحليق إسرائيلي. وبخطاب تضليلي مرتبك ومرتجف اتهمت المنظومة مخزنا للمفرقعات والألعاب النارية بالوقوف وراء انفجار بيروشيما.
وحدها العمالة لإسرائيل هي التهمة الجاهزة لاغتيال الغاضبين من سياسات المنظومة التي تعيش وقتا مستقطعا ما قبل لفظ أنفاسها السياسية الأخيرة.
قبل انفجار بيروشيما، كانت الأنظار شاخصة الى لفظ المحكمة الدولية في لاهاي حكمها باغتيال الحريري، وكانت جهود القيادات العسكرية والأمنية تنصب على محاولة ضبط واحتواء ردّات الفعل التعبيرية عن غضب مكبوت.
وكانت الوقائع الميدانية في الجولان وجنوب لبنان والتهديدات الإسرائيلية الحزبلّاهية المتبادلة تشي بانفجار الوضع تزامنا مع اعلان حكم المحكمة بهدف التشويش عليها، علما أن مسارها لم يزل طويلا.
لكن بيروشيما أطاح بجلسة المحكمة الدولية، وأجلها لنحو أسبوعين كافيين كي تلملم بيروت أشلائها وتحاول أن تضمد جراحها وتعيد تمشيط شعرها وتعلم كيف تم العبث بها. ولتفك ألغاز الباخرة “روسوس” لصاحبها الروسي “إيغور غريتشوشكين” والذي تخلى عنها بعدما أعلن افلاس شركته المسجلة في قبرص بعد عام على احتجاز باخرته التي وفدت الى مرفأ بيروت محملة بنحو 2750 طن من نيترات الامونيوم في رحلة مشبوهة من جورجيا الى الموزابيق.
قصة رجل الاعمال الروسي وشركته وباخرته المحتجزة في بيروت، عنوان فاضح عن الفساد وتبييض الأموال، اللذين ينسج عنكبوت الفساد على منوالهما، كل الاعمال والعمليات غير الشرعية وغير المشروعة، كالتي اقترفتها وتقترفها منظومة الفساد الحزبلّاهي اللبناني.
علي شندب