المقربون من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يعرفون عنه أنه مستعد أن يفعل كل شئ، وأى شئ كى يؤمِّن فوزه فى الانتخابات الرئاسية التى من المقرر أن تجرى فى الولايات المتحدة الأمريكية يوم 3 نوفمبر المقبل، لكن يبدو أن ترامب وصل به الأمر حالياً إلى درجة اليأس من احتمال فوزه فى هذه الانتخابات لدرجة اعترافه بإمكانية خسارته لها حسب ما نشرت مجلة “بوليتكو” الأمريكية، ولدرجة أن عدداً من الأشخاص المقربين منه قالوا للمجلة أن “الرئيس بات يشعر بالخسارة وأنه قد يصبح رئيساً لفترة رئاسية واحدة”، هذا الاستنتاج لم يأت من فراغ ولكنه محصلة انطباعاته الشخصية عن مؤتمراته الجماهيرية وإخفاقها فى توفير الحشد اللازم لدعم حملته الانتخابية، ناهيك عن نتائج استطلاعات الرأى العام التى تظهر، وبشكل متواصل، هبوط أسهمه وفرصه فى الفوز مقارنة بمنافسه جون بايدن، لكن ونظراً لأن دونالد ترامب يخوض الانتخابات الرئاسية باسم الحزب الجمهورى وأن معركة هذه الانتخابات ليست معركة شخصية فقط بين ترامب وجون بايدن، ولكنها معركة أكثر تعقيداً فهى معركة الحزب الجمهورى ومستقبله ومشروعه السياسى وأجندة أولوياته الاستراتيجية فى مواجهة مشروع سياسى آخر وأجندة عمل استراتيجية أخرى للحزب الديمقراطى، ومن ثم فإن خيار الاستسلام أو خفوت الحماس من جانب ترامب فى هذه المعركة غير مسوح به من جانب الجمهوريين، الذين لديهم الاستعداد لخوض معركة الانتخابات الرئاسية والفوز فيها حتى لو استلزم ذلك تجاوز كل الخطوط الحمراء والخوض فى ملفات تعتبر “ملفات محرمة” مثل نقل المعركة الانتخابية من داخل الولايات المتحدة إلى الخارج والتورط فى صراعات قد تصل إلى مواجهات مسلحة، بل وربما يصل الأمر إلى تجديد التورط الأمريكى فى “حرب باردة” جديدة تكون الصين هى المستهدف فيها.
أحد مؤشرات هذا التوجه عودة ستيفن بانون، الرجل الذى اختاره ترامب ليكون أول مستشاريه للأمن القومى، إلى واجهة الأحداث مجدداً وفى هذه الظروف بالتحديد ليعلنها صريحة أن “للرئيس ترامب خطة حرب متكاملة لمواجهة الحزب الشيوعى الصينى أولاً ثم إسقاطه” وأن هذه الخطة من إعداد “مجلس حربى” يضم من أسماهم بـ “فرسان نهاية العالم الأربعة”.
ستيفن بانون الذى انخرط فى معترك العمل السياسى من بوابة “اليمين البديل” وهى حركة سياسية معادية للعولمة جذبت عدداً كبيراً من القوميين البيض الأمريكيين، ثم فرض نفسه قائداً لما أسماه بـ ” حركة حزب الشاى العالمية” ضد النخبة العالمية المالية التى وصفها نفسه بـ “حزب دافوس” فى إشارة إلى “منتدى دافوس العالمى” الذى يعد القيادة الرمزية لحركة العولمة العالمية، له أفكاره اليمينية المتطرفة التى استهدف منها “إعادة صياغة الولايات المتحدة ودورها فى العالم”، قبل أن يختاره ترامب كبيراً لمستشاريه الإستراتيجيين. هذه الأفكار هى ذات الأفكار التى أعلنها وتبناها ترامب أول عامين من رئاسته وبالذات شعار أمريكا أولاً والعداء للاتحاد الأوروبى ولسياسة العولمة وللهجرة وللعالم الإسلامى وبالأخص المهاجرين المسلمين، أى أنه كان إيديولوجياً بالدرجة الأولى وهو يؤسس للمعالم الاستراتيجية لإدارة ترامب، ومن ثم فإن عودته مجدداً ليخوض معارك ترامب بهذا العنف ضد الصين ومن منظور أيديولوجى وليس من منظور إستراتيجى – سياسى يؤكد أن هناك فريق قوى داخل إدارة ترامب تسنده قوى مهمة لها اعتبارها داخل الحزب الجمهورى غير مستعدة لخسارة معركة الانتخابات الرئاسية ، وأنها من أجل تأمين الدعم الشعبى لحملة ترامب الانتخابية مستعدة للعبث بكل الأوراق حتى ولو كانت إشعال حرب باردة جديدة إذا كانت ستؤدى إلى تأمين فوز ترامب بالرئاسة مجدداً.
المجلس الحربى الذى تحدث عنه ستيفن بانون فى مقابلة أجرتها معه قناة “فوكس نيوز” الأمريكية يضم من أسماهم بـ “فرسان نهاية العالم الأربعة”. الاسم مثير للانتباه ، وربما للخوف: “نهاية العالم” أى خطر التورط فى حرب نووية مع قوة عالمية نووية، ما يعنى أن المسألة ليست عبثية لأنه حدد أسماء هؤلاء الفرسان الأربعة وهم بالتحديد، حسب ما ذكر، كل من مستشار الأمن القومى روبرت أوبراين، ورئيس مكتب التحقيقات الفيدرالى كريستوفر راى، ووزير الخارجية مايك بومبيو، والمدعى العام ويليام بار.
ويبدو أن تصريحات ستيفن بانون ليست محض اجتهادات بدليل التزامن بين قيام ثلاثة من هؤلاء الأربعة هم أوبراين وبار وبومبيو بإعلان مواقف وتصريحات مغالية فى التشدد ضد الصين وبدليل التورط الأمريكى فى تصعيد دبلوماسى ضد الصين، ربما يتطور إلى ما تحدث عنه بانون قيام هؤلاء الأربعة فى وضع خطة حرب متكاملة ومتماسكة ليس لمواجهة الصين كدولة عظمى تنافس الولايات المتحدة على الزعامة الدولية بل ضد الحزب الشيوعى الصينى فى تطور من شأنه إعادة مناخ الحرب الباردة السابقة بين الولايات المتحدة الأمريكية كزعيمة للعالم الرأسمالى وبين الاتحاد السوفيتى كزعيم للعالم الاشتراكى أو الشيوعى، وأن هذه الحرب ضد الحزب الشيوعى الصينى ستشمل خوض حرب تكنولوجية ومعلوماتية واقتصادية ضد الصين يجرى الانتقال بعدها إلى “فتح بحر الصين الجنوبى”، أى تحريره من السيطرة الصينية وهذا التحرير لا يمكن أن يتم إلا بالعمل العسكرى، إضافة إلى تأليب الهند وغيرها من الجوار الإقليمى للصين للعمل ضمن هذه الخطة، أو هذه المعركة ضد الصين تأكيداً لذلك جاءت دعوة مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى من أسماهم بـ “العالم الحر” للعمل من أجل “الانتصار على الطغيان الجديد الذى تمارسه الصين الشيوعية”، على حد قوله. ففى خطاب ألقاه بومبيو فى كاليفورنيا (23/7/2020) حديث بومبيو تضمن مفردات تذكر بتلك التى طغت على لغة التخاطب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق إبان الحرب الباردة على نحو قوله أن “الصين هى اليوم دولة استبدادية أكثر فأكثر فى الداخل، وأكثر عدوانية فى عدائها للحرية” لم يكتف بومبيو بذلك لكنه اتهم الرئيس الصينى تشى جينج يانج بأنه “تابع مخلص لإيديولوجية شمولية مفلسة”.
هذا التصعيد الأمريكى غير المسبوق ضد الصين الذى تعمد أن يستعيد مجدداً “الإيديولوجية” كوجه أساسى فى الحرب الأمريكية ضد الصين تزامن مع تصعيد إجرائى أمريكى ضد الصين تمثل فى إغلاق القنصلية الصينية فى مدينة هيوستن بولاية تكساس بحجة أن الصين استخدمت هذه القنصلية فى عمليات تجسس اقتصادى. وكانت وزارة العدل الأمريكية اتهمت أربعة باحثين صينيين بتزوير تأشيرات وإخفاء علاقاتهم بجيش التحرير الشعبى الصينى (الجيش الصينى)، وتحدثت عن قيام مكتب التحقيقات الفيدرالى (إف.بى.آى) بإجراء تحقيقات يشتبه فى انتمائهم غير المعلن للجيش الصينى فى أكثر من 25 مدينة أمريكية. فى ذات الوقت اتهمت وزارة العدل الأمريكية الصين، بدعم اثنين من قراصنة الإنترنت اللذين استهدفا شركات التكنولوجيا فى أنحاء العالم، وأن هذين الباحثين قاما بتطوير خطط لمهاجمة الشركات التى تعمل على تطوير لقاح ضد “فيروس كورونا” المستجد.
هذه الاتهامات كانت مادة أساسية فى الخطاب الذى ألقاه مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكى فى كاليفورنيا حيث اتهم القنصلية الصينية التى أغلقت فى هيوستن بأنها “مركز للتجسس الصينى” و”لسرقة الملكية الفكرية”، وزاد على ذلك بالقول أن الصين “نهبت ممتلكاتنا الفكرية وأسرارنا التجارية الثمينة مما أدى إلى خسارة ملايين الوظائف فى أنحاء الولايات المتحدة”.
العبارة الأخيرة مهمة جداً بالنسبة لحملة ترامب الانتخابية أى الربط بين خسارة الوظائف وتردى الأوضاع الاقتصادية وبين ما يعتبرونه “إجراماً صينياً” فى محاولة مزدوجة أولها تبرئة سياسات ترامب الاقتصادية من مسئولية تردى الأوضاع الاقتصادية داخل الولايات المتحدة، وثانيهما كسب الولاء الشعبى للحملة الأمريكية ضد الصين على أمل أن يؤدى ذلك كله إلى خدمة ترامب انتخابياً.
الصين لم تقف عاجزة أمام هذا التصعيد لكنها، وكما يبدو واعية بأهدافه، لذلك هى تريد تفويت الفرصة على فريق ترامب لفرض مناخ حرب باردة جديدة يفيده انتخابياً، كما أن الصين تتابع الوضع المتردى لحملة ترامب انتخابياً، وحريصة على مواجهة التصعيد الأمريكى الساخن بتصعيد منضبط أملاً أن تمر الأشهر الثلاث المتبقية من عمر إدارة ترامب وبعدها تتم معالجة الأزمات مع إدارة جديدة أكثر تعقلاً لذلك لم تشأ أن ترد على إغلاق قنصليتها فى هيوستن بإغلاق القنصلية الأمريكية فى هونج كونج مثلاً، بل اكتفت بإغلاق القنصلية الأمريكية فى مدينة “تشيجدو” ، ومازالت تراهن على الزمن، لكنها ردت على ترامب وإدارته بتحرك من شأنه أن يفجر ثورة غضب هائلة فى أوساط هذه الإدارة بتوقيع اتفاق إستراتيجى مع إيران عسكرى واقتصادى واستخباراتى وصفه الخبير العسكرى الإسرائيلى “اميريار شالوم” بأنه “خطوة على طريق شرق أوسط جديد سيؤدى إلى كسر الحصار الأمريكى على إيران”.
د. محمد السعيد إدريس
4/8/2020