نُشر في العدد (16) من مجلّة الهدف الرقمية
(في سياق القراءة الاستراتيجية لما جرى ويجري في لبنان
وعلى الجبهة الشمالية، فإننا نربط بالضرورة ما بين الاستراتيجيات والسياسات والحروب الصهيونية ضد لبنان والأمة العربية على مدى اثنين وسبعين عاماً، أي منذ النكبة الفلسطينية، وبين الهزيمة العسكرية والمعنوية الصهيونية في الحرب العدوانية على لبنان وحزب الله عام/2006 وما بين التطورات اللاحقة حتى اليوم ومن ضمنها التدمير الشامل لمرفأ بيروت الذي يصب في النهاية في خدمة المشروع الصهيوني؛ سواء أكان للموساد الدور الرئيس فيما جرى وهذا الأرجح، أو لم يكن….).
غصت الصحافة العبرية منذ هزيمتهم في الحرب العدوانية عام/2006، بسلسة تصريحات لا حصر لها لقادة ومحللين عسكريين إسرائيليين تحمل التهديد والوعيد بالدمار والخراب والمذابح الجماعية ضد لبنان؛ فتحدث جنرالات وسياسيون كان لهم دوراً مركزياً في العدوان على لبنان صيف/2006 عن “أن العقيدة الحربية الإسرائيلية تجاه لبنان تحمل عنواناً واحداً وهو “الدمار والتدمير”، والتلويح باستهداف البنى التحتية للدولة اللبنانية والجيش”. وتشير النظريات العسكرية التي أفصحوا عنها علنياً “أن إسرائيل ستواصل الاعتماد على الضربات الجوية”، وتحليلياً جاء أن هذه التهديدات قد تهدف إلى ردع حزب الله عن الدخول في حرب مع إسرائيل، ولكنها تعكس في الوقت ذاته العقلية العسكرية الإسرائيلية متداخلة مع روح الانتقام للفشل الذريع الذي منيت به أعتى قوة في الشرق الأوسط على يد مقاتلي المقاومة اللبنانية.
ففي أقرب تهديد صهيوني أوعز وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس للجيش الإسرائيلي، بالاستعداد لضرب البنى التحتية للدولة اللبنانية، إذا ما نفذ حزب الله عملية استهدف من خلالها إسرائيليين، للرد على مقتل أحد عناصره بغارة إسرائيلية على العاصمة السورية، دمشق. بحسب ما جاء في صحيفة “يسرائيل هيوم”، الجمعة: 31/07/2020″، وكان قائد سلاح الجوّ الإسرائيليّ الجنرال أمير ايشل، قد هدد أيضاً قائلاً: “في الحرب القادمة سنُدمّر لبنان عن بكرة أبيه/ 18/7/2020”.
ولكن بالعودة قليلاً للوراء، إلى تداعيات ما بعد الهزيمة العسكرية والمعنوية الصهيونية عام /2006، نتابع الكثير الكثير من الوثائق والأدبيات والتصريحات والتهديدات التي تتحدث عن نوايا ومخططات التدمير الشامل للبنان والبنية اللبنانية التحتية، ففي مقال تحليلي له تحت عنوان: “لبنان أثر هجوم الكلمات”، قال المحلل العسكري لصحيفة يديعوت احرونوت 14/8/2009) اليكس فيشمان: “من المحظور أن نقع في الخطأ: التهديد من جنوب لبنان بالنسبة لإسرائيل حقيقي وهو آخذ في التزايد يوماً بعد يوم، رغم ذلك ليست في إسرائيل أية نية لتحقيق الواقع القائم، هذا لا يمنع السياسيين عندنا من إطلاق تصريحات معاكسة تماماً، هذه التصريحات الحماسية ولتكونوا واثقين من ذلك محفوظة في الجوارير عميقاً استعداداً للجنة التحقيق القادمة، وهكذا في كل اثنين وخميس يحذر رئيس الوزارء عندنا وكبار الوزراء أو صغارهم من أن إسرائيل تعتبر حكومة لبنان مسؤولة، وأننا لن نصمت ولن نضبط النفس. هم لن يرتكبوا خطأ حكومة اولمرت في 2006 وستسجلهم كتب التاريخ كمن حذروا وتوقعوا المولود قبل ميلاده، كما أن هذه التصريحات تتمخض في الواقع عن استراتيجية إسرائيلية جديدة في مواجهة لبنان: ليس هناك المزيد من الفصل بين حكومة بيروت وحزب الله، كل حادثة مع حزب الله في إسرائيل أو في الخارج هي تحت مسؤولية لبنان كدولة، ولأن حزب الله هو جزء من حكومة لبنان، فكل حرب ضد حزب الله تعني الحرب مع دولة لبنان، ليس هناك شك أن سخونة تموز حزيران قد دفعتنا إلى الصعود فوق شجرة عالية”.
وبحسب أنطوان شلحت (محلل فلسطيني خبير بالشؤون الإسرائيلية)، فإن الجنرال غادي أيزنكوت (قائد المنطقة العسكرية الشمالية في الجيش الإسرائيلي) هو أول من تحدّث عن هذه الإستراتيجية، في مقابلة أدلى بها إلى صحيفة يديعوت أحرونوت، بوقت مبكر (3/10/2008). كما أشار شلحت (المشهد الإسرائيلي 11/1/2009) إلى أن هذه العقيدة، منبثقة من عقيدة “الجدار الحديدي” التي صاغها زئيف جابوتنسكي زعيم “التيار التنقيحي” في الحركة الصهيونية، في عشرينيات القرن الفائت، وتبناها بعده بن غوريون، ومفادها خلق قناعة لدى الفلسطينيين بعدم جدوى التجرؤ على إسرائيل، بجعلهم يدفعون ثمناً باهظاً، يحجمون بعده عن مهاجمتها، وهذه هي أسطورة، أو نظرية، الردع الإسرائيلية.
وبرأي الروفيسور دان شيفتن، فإن هذه العقيدة تتطلب “زرع دمار غير قياسي في النقاط والبؤر الحساسة لمطلقي الصواريخ على إسرائيل، والهدف ليس اصطياد الصاروخ الأخير، وإنما فرض تغيير جوهري في معادلة الكلفة والجدوى للمقاومة عن طريق رفع عنصر الكلفة بشكل دراماتيكي.. إن ما سيحدد نتائج الحرب، استعداد إسرائيل لفعل الأعاجيب، وبصورة أساسية الرد بشكل منفلت العقال ضد إطلاق الصاروخ الأول بعدها” (يديعوت أحرونوت 15/1/2009). وقد تأسست هذه العقيدة القتالية التي تبنتها إسرائيل بالأساس على ترويع الفلسطينيين، ووأد مقاومتهم، وتكبيدهم ثمناً باهظاً بالأرواح والممتلكات. وهذا الوضع سيجعل “حماس –هكذا يأملون– تفكر عشر مرات قبل أن تقرر تنفيذ عملية إرهابية ما من قطاع غزة، بعد أن ترى كيف تبدو غزة، ينبغي لها أن تكون مجنونة كي تضغط مرة أخرى على الزناد”. (أليكس فيشمان هآرتس 22/1/2009). وكان البروفيسور مارتين فان-كرفيلد (أستاذ الدراسات العسكرية في كلية التاريخ في الجامعة العبرية، وأحد كبار المتخصصين في الإستراتيجية العسكرية) طرح هذا الخيار، في وقت مبكر، داعياً إلى توجيه ضربة قاسية للفلسطينيين للانفصال نهائياً عنهم؛ ف”لا جسور مفتوحة ولا علاقات اقتصادية ولا سياسية. فصل مطلق على مدار جيل أو جيلين، أو وفقاً لما يحتاجه الأمر..لإعادة ميزان الردع.. هذه الأمور يجب أن ننفذها بسرعة مطلقة وبقوة دون أن نتأسف.. أنا في هذه الحالة سأستعمل المدفعية وليس الطيران، لأنني أريد أن أنظر إليهم في عيونهم؛ إذ لا فائدة من هذه الحملة إن لم تبرهن بأعمالك أنك يمكن أن تعمل كل شيء.. علينا أن نضربهم بقسوة بكل ما بوسعنا حتى لا نعود إلى ذلك وحتى لا يهاجموننا من الخلف عند خروجنا، علينا أن نضرب بكل قوة وقسوة بحيث لا نحتاج إلى ضربة ثانية.. من الأفضل جريمة واحدة وثقيلة نخرج بعدها ونغلق الأبواب من خلفنا” (إمتساع حضيرة 8/3/2002).
وينتقد توم سيغف (من المؤرخين الإسرائيليين الجدد) هذه النظرية التي “رافقت المشروع الصهيوني منذ بدايته”، والتي تتأسّس على أن “إسرائيل تسدّد الضربات إلى الفلسطينيين من أجل أن تلقنهم درساً (بدعوى) أننا اليهود مندوبو التقدّم والحضارة، والحنكة العقلانية والأخلاق، والعرب هم رعاع بدائيون ذوو نزعات عنيفة وهوجاء، جهلة لا بُدّ من تربيتهم وتعليمهم الفهم الصحيح بطريقة “العصا و الجزرة”. ويفترض أن قصف غزة “يقضي على سلطة حماس” وفقاً لفرضية أخرى ترافق الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، وبموجبها في الوسع أن نفرض على الفلسطينيين قيادة “معتدلة” تتنازل عن تطلعاتهم القومية. هذه التبريرات بالنسبة لسيغف ثبت بطلانها مراراً وتكراراً “غير أن إسرائيل تعيد إنتاجها من حرب إلى أخرى” (هآرتس في 28 /12/ 2008).
غيورا آيلاند: تدمير جيش لبنان
وجاء على لسان غيورا آيلاند، الرئيس السابق لشعبة التخطيط والعمليات في القيادة العامة “أن الهدف الأول للهجمات الجوية حال اندلاع مواجهات مع حزب الله يجب أن يكون البنى التحتية للدولة اللبنانية”. ويقول آيلاند في مقالة نشرها معهد بحوث الأمن القومي إن «حزب الله ينشط في ظروف مثالية من ناحيته، ففي لبنان هناك حكومة شرعية مدعومة من الغرب، ولكنها خاضعة بشكل كامل لحزب الله». ويقترح آيلاند، تحذير لبنان في أقرب وقت ممكن وتهديدها بأنه «في الحرب القادمة سيتم تدمير جيش لبنان وستدمر البنى التحتية المدنية وسيعاني السكان اللبنانيون»، ويتابع: “لا يمكنهم في بيروت الذهاب إلى البحر بينما في حيفا يجلسون في الملاجئ/ عرب 48 الصحف العبرية/ 05/10/2008 “.
ويرى آيلاند إن “إسرائيل خسرت حرب لبنان الثانية وقد تخسر الحرب الثالثة، لأنها تحارب العدو غير الصحيح، إذ أنها تحارب حزب الله بدل دولة لبنان”، ويتابع قائلاً “التحسن في قدرات حزب الله منذ الحرب يتوازن مع التحسن في قدرات الجيش الإسرائيلي ولكن الأهم: لا يمكن الانتصار على تنظيم غوريلا يعمل تحت غطاء دولة محصنة من الرد”. ويتابع: “وكون حزب الله يبني تحصيناته تحت القرى الجنوبية فإن ذلك يشكل صعوبة على قدرات الجيش على المناورة، كما أن تركيز الجهود على مناطق الإطلاق لن ينجح في تقليص عدد الصواريخ التي ستتلقاها إسرائيل إلى أقل من عدة عشرات في اليوم”.
آيزنكوت: تفعيل نموذج الضاحية الجنوبية
عرض قائد منطقة الشمال في الجيش الإسرائيلي، غادي آيزنكوت، من جهته، “عقيدة الحرب” في أي مواجهة جديدة مع حزب الله، وهدد بتطبيق “نموذج الضاحية الجنوبية” في التدمير ضد القرى الجنوبية، مؤكداً “أن الحديث يدور عن خطة عسكرية مصادق عليها”.
وقال آيزنكوت، الذي كان خلال الحرب رئيس شعبة العمليات في القيادة العامة، في مقابلة مطولة مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» يوم الجمعة /10/2/2008 “في الحرب القادمة ستفعّل إسرائيل في لبنان «عقيدة الضاحية»، ضد أي قرية تنطلق منها صواريخ باتجاهها، وستعتبر كل قرية جنوبية «موقعاً عسكرياً”، ويقول: “إذا قصفوا من داخل القرى، فتلك هي خطة القيادة، نيران عنيفة جداً”.
ويضيف آيزنكوت الذي يعتبر أحد المرشحين لمنصب رئيس هيئة الأركان في الدورة القادمة: “ما حل بالضاحية الجنوبية عام 2006 سيحل في كل قرية تطلق الصواريخ على إسرائيل، وسنوجه إليها قوة غير متكافئة (تناسبية) ونلحق بها أضراراً ودماراً هائلاً، من ناحيتنا سنعتبر تلك القرى قواعد عسكرية وليست مناطق مدنية، نحن نعرف أن حزب الله سينفذ قصفاً أكثر اتساعاً من الحرب الأخيرة وسنرد بالمثل، كل قرية تطلق الصواريخ على إسرائيل سننزل عليها قوة غير متكافئة تسبب دماراً هائلاً، ولن نفرق كما في الحرب الأخيرة بين أهداف لحزب الله وأخرى للحكومة”. ويوضح آيزنكوت “أن ما أتحدث عنه ليس توصيات، بل خطة مصادق عليها، ولن نعمل بعد الآن على اصطياد منصات الإطلاق، فهذه خطوة عبثية، حينما يكون في الجانب الآخر آلاف الصواريخ والقذائف لا يمكنك أن تصطادها، يمكن الانبهار بعملية هنا أو أخرى هناك ولكن الجبهة الداخلية ستتعرض للقصف”. ويسأل آيزنكوت، هل الخطة سارية أيضاً على سوريا؟ فيقول: “نعم في سوريا يدركون جيداً أن ما قمنا به في الضاحية نعرف كيف ننفذه عندهم، وكل ما قلته عن حزب الله بشأن العقاب وتوجيه الضربات الموجعة صحيح أيضاً بأضعاف مقابل دولة لديها مراكز قوة”، ويقول إن «المحميات الطبيعية (قواعد الإطلاق في المناطق الجبلية)» انتهت؛ من الآن فصاعداً في كل “قرية صواريخ أرض أرض” وكل قرية هي موقع عسكري مع مركز قيادة ومركز استخبارات ومركز اتصالات، عشرات الصواريخ مخبأة في المنازل، في الطوابق الأرضية وعلى بيوت أدراج الأسطح، وتدار القرى من قبل رجال حزب الله. بكل قرية حسب حجمها يوجد عشرات النشطاء المحليين وإلى جانبهم مقاتلون من الخارج، وكل شيء جاهز لحرب دفاعية ولإطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل”.
وأخيراً حذر آيزنكوت، مما أسماه «الهدوء الوهمي» في منطقة الشمال، معللاً الإنجازات المتواضعة للجيش في حرب لبنان الثانية بانشغاله في قمع الانتفاضة الفلسطينية.
سيبوني: إنزال ضربات هائلة
وينضم الكولونيل غابي سيبوني، صديق آيزنكوت ورفيقه منذ خدمتهما سوية في «غولاني»، ومؤخراً في قيادة منطقة الشمال إليهما، حين يقول في مقالة نشرها «معهد أبحاث الأمن القومي»، إنه “من أجل تفادي الإنجرار إلى حرب استنزاف في الشمال على غرار الحرب على حدود غزة، وكرد لمواجهة شاملة في الشمال وفي غزة، يجب أن يسعى الجيش بدرجة أولى لتوجيه “ضربة هائلة وغير متكافئة، تستهدف نقاط الضعف للعدو، بحيث تكون جهود ضرب قدرات الإطلاق ثانوية”.
ويضيف: “فور اندلاع مواجهات سيتطلب من الجيش العمل بسرعة وحزم واستخدام قوة هائلة غير متكافئة مع تهديد وعمليات العدو، لإلحاق الأذى وإنزال عقاب يتطلب مسيرة ترميم طويلة وباهظة”. ويتابع: “يجب تفضيل ضرب المنشآت المدنية على مطاردة كل قاعدة إطلاق. العنوان في سوريا للعقاب هو الجيش والدولة ونظام الحكم، وفي لبنان العنوان، إلى جانب مكونات القدرة العسكرية لحزب الله، المرافق الاقتصادية ومراكز قوة الحزب. وكلما تعمق التماهي بين حكومة لبنان وحزب الله، يجب قصف قسم من البنى التحتية اللبنانية”.
استراتيجية الضاحية تتجذر في الخطاب الأمني
وربما يكون المحلل يارون لندن خير من شرح دلالات وتداعيات “استراتيجية الضاحية”، إذ كتب في يديعوت احرونوت 6/10/2008 تحت عنوان: “استراتيجية الضاحية” يقول: “هو تعبير مرشح لأن يتجذر في الخطاب الأمني الإسرائيلي، فالضاحية هي الحي الشيعي في بيروت، والتي في أثناء حرب لبنان الثانية جعله طيارونا مدينة أشباح”. وغادي آيزنكوت، قال في مقابلة مع “يديعوت احرونوت” نشرت يوم الجمعة أموراً واضحة أساسها: في الصدام التالي مع حزب الله لن نكبد أنفسنا عناء صيد عشرات آلاف وسائل إطلاق الصواريخ، ولن نسفك دم جنودنا في محاولة السيطرة على “المحميات الطبيعية”، بل سندمر لبنان ولن نخشى احتجاجات “العالم”، وسنقوض الـ 160 قرية شيعية أصبحت القواعد العسكرية الشيعية ولن نوفر البنى التحتية للدولة التي يسيطر عليها حزب الله عملياً، هذه الاستراتيجية ليست تهديداً جاء بزلة لسان من ضابط متحمس بل خطة مقرة”. ويضيف متأسفاً: “خسارة أن هذا المفهوم لم يؤخذ به في الأيام الأولى بعد الانسحاب من لبنان، خسارة أنه لم يؤخذ به فور “فك الارتباط” عن غزة وصليات الصواريخ الأولى نحو النقب الشمالي، ففي الحالتين أوهمنا أنفسنا بأن “الشعب” ليس زعماءه، وأن “الشعب” فقط لرزقه يسعى، بل إنه أسير لدى “الأسس المتطرفة وغير المسؤولة”، لو إننا اتخذنا فوراً “استراتيجية الضاحية” لكان من المعقول الافتراض بأننا كنا وفرنا على أنفسنا مشاكل كثيرة. “الضاحية” في غزة كانت ستوضح لحماس بأن ليس في رأينا أن نضربهم ضربة متوازنة”.
ويختتم، بقوله:”استراتيجية الضاحية” هي وصفة التفكير الجامد لمعظم العرب، بالنسبة لهم، “الصهاينة” هم مجرمون، ولكن “الصهاينة” هم عموم اليهود مواطنو إسرائيل، وكذا اليهود الذين لا يؤيدون الصهيونية على الاطلاق، والدعائيون العرب من المتعلمين في الغرب وحدهم يميزون بين “الحكومة الصهيونية” وبين الشعب اليهودي “الذي ليس لنا معه أي نزاع تاريخي وعشنا معه بانسجام على مدى مئات السنين”.
كيف ستبدو الحرب القادمة…؟
وعن دلالات ومغازي عقيدة الضاحية نشرت هآرتس /5 /10/2008 تحليلاً جاء فيه: “كيف ستبدو الحرب القادمة؟ سلسلة منشورات علنية من الأيام الأخيرة تعطي جواباً مفاجئاً: ربما لا تختلف كثيراً عن الحرب السابقة، فبعد الفشل الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية في صيف 2006 والانتقاد الذي تعرض له الجيش في أعقابها، يسود الاعتقاد بأن الجيش الاسرائيلي سيعود بسرعة إلى مفاهيم العمل القديمة لديه وعلى رأسها ترسيخ مكانة المناورة (حركة قوات المدرعات والمشاة) وتفضيلها على النار (السلاح الدقيق، ولا سيما من الجو)، ولكن، مقابلة مع قائد المنطقة الشمالية، إلى جانب مقالين لضابطين كبيرين في الاحتياط يشاركان في سياقات التفكير العسكري، تظهر بأن الجيش الإسرائيلي سيواصل إعطاء أولوية عليا لاستخدام النار، رغم أن الأهداف التي ستضرب ستكون مغايرة عن الأهداف في الجولة الأخيرة”.
ويستخلص التحليل: “القاسم المشترك بين التصريحات التي أدلى بها الجنرالات الثلاثة؛ هو التشديد المتجدد على القوة الجوية، من اعتقد أن سلاح الجو سيزاح جانباً في أعقاب نتائج الحرب في لبنان قبل سنتين من شأنه على ما يبدو أن يخيب”.
شهوة تنفيذ عمليات خطيرة تشتد
وكان المحلل السياسي الإسرائيلي البارز، ألوف بن، أعد مؤخراً تقريراً مطولاً نشره في صحيفته “هآرتس/ 28/ 9 / 2008 تحدث فيه عن شهوة الإرهاب والعمليات الخطيرة لدى أولمرت، وعن ازدياد ثقل وزن رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الخارجية، “الموساد”، مئير دغان في الأجهزة الأمنية ودوائر اتخاذ القرار في “إسرائيل”، وخاصة في أعقاب سلسلة “عمليات ناجحة” نفذتها “إسرائيل” في دول العالم، وخاصة في إيران وسورية، ويبدأ “بن” تقريره كاتباً: “في كل يوم خميس يأتي رئيس الموساد دغان مع عدد من كبار مساعديه إلى مكتب رئيس الحكومة إيهود أولمرت في تل أبيب، من أجل أن يعرضوا عليه عملياتهم المخططة ليحصلوا على موافقته، إلى جانب تقارير عن عمليات تم تنفيذها”.
ويتابع “بن”، “إن هذه اللحظات التي يحبها أولمرت، فهو يهتم بكل التفاصيل، ويرغب برؤية المقاتلين وضباطهم قبل أن ينطلقوا لتنفيذ عملياتهم ليعرف شعورهم من تعابير وجوههم، غالباً ما يصادق على كل ما يحضره دغان من مخططات”، وأضاف “في العامين الأخيرين ازداد وزن دغان في دوائر اتخاذ القرار في الأجهزة الأمنية، بعد أن ثبتت تقديراته في عدة مجالات وخاصة في مسألة الحرب الأخيرة على لبنان، قبل عامين”، ويكتب، “من عملية إلى عملية تعاظمت شهوة أولمرت ودغان لتنفيذ عمليات أكثر جرأة وخطورة وبعيدة المدى”، وأشار بن إلى ما قاله أولمرت في جلسة الحكومة التي أعلن فيها استقالته، إذ قال “إن سجل التاريخ سيتحدث يوماً ما عما أنجزته حكومته، وهي إنجازات لا يمكن البوح بها في هذه المرحلة”، وينقل الكاتب ذاته عن مسؤول كبير في حكومة أولمرت قوله “لربما بعد 50 عاماً سنعرف ماذا فعل دغان وأولمرت معاً، إن إنجازات جهاز الموساد مذهلة، وأكثر من الخيال”.
فما الذي سيتحدث عنه التاريخ إذن عن الثنائي اولمرت-دغان سوى الإرهاب والاغتيالات…؟!
اليوم استمرار للأمس…!
ونقول- ليس مفاجئاً اليوم كل ذلك، كما لم يكن مفاجئاً ذلك بالأمس القريب أو البعيد على حد سواء… فاليوم هو استمرار للأمس عندهم، ولكن بأدوات أحدث وأشد بشاعة وإرهابية. تحملنا هذه اللغة الحربية الإرهابية مرة أخرى لنتوقف وننعش الذاكرة بتلك الأدبيات التي تشكل جذور البلطجة الإرهابية الإسرائيلية المتصاعدة يوماً عن يوم… وجذور لوثة الشارونية المجازرية الإبادية وسياسة قطع رؤوس الفلسطينيين والعرب…!
ونعود هنا إلى ذلك الوقت، حينما طلب شارون من وزير حربه بن اليعازر في بدايات حكومته الأولى تصعيد الحرب ضد الفلسطينيين؛ مطالباً إياه بمنتهى الوضوح بـ “قطع رؤوس الفلسطينيين بغية اجبارهم على الاستسلام”، لم يكن ذلك الشارون فريد من نوعه ونزعته الدموية. وحينما تبنت الحكومة الإسرائيلية آنذاك بالإجماع الخطط “الشوكية / حقل الاشواك” و”الجحيمية” و”المتدحرجة” و”الواقية” وغيرها، وصولاً إلى “أول الغيث”، لم تكن تلك الخطط في الحقيقة؛ إلا ترجمة مكثفة للأدبيات الإرهابية والدموية الصهيونية ضد عرب فلسطين. وحينما انطلقت حملات الاجتياحات والتدمير الشامل للبنى التحتية المجتمعية المدنية والأمنية الفلسطينية، والقتل المكثف والاعتقالات والعقوبات الجماعية ضد الفلسطينيين، في إطار اجتياحات “السور العراقي” التي لم تتوقف على مدار الساعة منذ ذلك الوقت، لم تكن هذه الحملات في الحقيقة؛ إلا تصعيداً محموماً وهستيرياً لحرب إجرامية، لم تتوقف أصلاً منذ النكبة قبل اثنين وسبعين عاماً. والأهم من ذلك، أن فكر ومخططات وتطبيقات الإرهاب والتدمير والقتل ضد الشعب الفلسطيني كله، بشيبه وشبانه ونسائه وأطفاله لها امتدادات وجذور فكرية عنصرية عدائية حتى النخاع.
واستتباعاً – يحملنا كل ما سبق إلى استحضار أدبياتهم في عهدهم القديم والحديث التي تشرع لهم ممارسة شتى أشكال الإرهاب الدموي تحت تسمية “العنف المقدس ضد الاغيار”. فكثيرة هي نصوص “العهد القديم” التي تتحدث عن الحرب والقتل والتدمير والإبادة كأساس لأخلاقياتهم في التعامل مع “الأغياز” وهنا (الجبابرة) عرب فلسطين، وهي نصوص تحمل مضمون الوصايا والتوجيهات لما يجب أن يكون عليه سلوك الغزاة اليهود، حيث تحض على الحقد والكراهية والقتل والابادة.
وترتقي نزعة العنف والقتل والإرهاب لديهم إلى مستوى فلسفي مع جابوتنسكي وتلاميذه من أمثال بيغن وشارون ونتنياهو وباراك وموفاز ويعلون وغيرهم، حيث جاء في أدبيات هؤلاء مثلاً: “أن قوة التقدم في التاريخ ليست للسلام، بل للسيف”، و”أنا أحارب إذن أنا موجود”، و”أولاً وقبل كل شيء يجب أن نقوم بالهجوم عليهم – أي على العرب”، و”لا يمكن الوثوق بالعربي بأي حال من الأحوال، وبالتالي فإن الطريقة الوحيدة للتعامل معه هي قتله”. وذلك لم تكن فتوى حاخامهم الكبير عوباديا يوسف حينما قال: “إن العرب يتكاثرون كالنمل، وبالتالي فليذهبوا إلى الجحيم”، و”تمنى للمستوطنين النصر على الفلسطينيين الأغيار المجرمين /عن القدس المقدسية 27/10/2002.
وفي هذا الصدد كذلك تحديداً كان الجنرال موفاز وزير الحرب السابق، قد أطل علينا ايضاً معربداً: “أن غزة ستهتز وترتعد تحت وقع “أول الغيث” ، و “أن الزهار وهنية سيلحقون بالشيخ ياسين والرنتيسي”، وخاطب ضباط وجنرالات الجيش: ” لا ترحموا أحداً من العرب لأن أمن إسرائيل فوق كل شيء” يديعوت 6/9/2005. ثم ليأتي “آفي ايتام” المتشدد عن حزب “هئيحود هليؤومي” ليطالب مجدداً ب”قطع رؤوس الفلسطينيين وفي مقدمتهم قادة حماس” عن موقع عرب 48 /19/6/2006.
إننا أمام مجتمع إرهابي متعطش للدماء العربية وملوث بالعنصرية والنزعة الدموية الإجرامية، التي لخصتها لنا الباحثة النرويجية “آن كريستين”، حينما أكدت في وقت مبكر من الانتفاضة: “أن أكثر من 70% من أفراد الجيش الإسرائيلي هم مجرمو حرب وفقاً للمعايير الدولية”، وهي الحقيقة الدامغة التي أكدها لنا حديثاً “د.يحيعام شورك” الكاتب والمؤرخ والمحاضر الإسرائيلي في “بيت بيرل”، في دراسة حملت عنوان “جذور البلطجة والقوة في المجتمع الإسرائيلي”، حيث قال: “إن نزعة القوة في المجتمع الإسرائيلي ليست وليدة الأمس، فهي ترجع إلى زوايا الماضي المعتمة، قبل تجسيد الفكرة الصهيونية…”. ويؤكد: “لقد تجندت كتب التعليم من جهة، وبرامج العمل من جهة أخرى لصالح تحسين وتنمية ال”نحن” وتحطيم ال “هم”، أو شرعنة ال”نحن” وشيطنة ال”هم ” (الفلسطينيون والعرب) ..”. ويختم المؤرخ الإسرائيلي شورك بحثه مؤكداً أيضاً: “إذا كانت الحال كذلك.. لماذا لا نفهم بذور البلطجة الكامنة داخلنا وبين ظهرانينا…؟! وإذا أضفنا إلى كل ذلك تدخل الصهيونية الدينية في السياسة، وهي التي تقدس العمل الصهيوني، فإن الأمر يعني تلقائياً إعطاء المبررات لكل عمليات سلب الأرض ومكان العمل وتسويغ كل عدوانية واستعلاء تجاه البيئة المحيطة – إن كانت فلسطينية أو عربية – ألا يكفي ذلك…؟!” عن موقع المشهد الإسرائيلي 25/9/2005.
ولذلك نثبت في الخلاصة المفيدة باندهاش كبير: هذه هي الطبيعة الإرهابية الإجرامية الإسرائيلية في أوج تجلياتها…! فلماذا يتهافت العرب في ضوء كل ذلك إذن على التطبيع الشامل مع تلك الدولة، ومع ذلك المجتمع الذي لا يرى فيهم سوى نمل وديدان يجب سحقها…؟! ولماذا يلتزمون الصمت والفرجة على التصعيدات الإرهابية والاستباحات المفتوحة ل فلسطين ولبنان…؟! فهم في “إسرائيل” يخططون ويبيتون ويعملون من أجل قطع رؤوس العرب وتدمير لبنان وسوريا، بل وإلغاء الكيانات العربية سيادياً وإدارياً ومعنوياً وعسكرياً وسياسياً.. فلا يتوقعن أحد إذن أن يخرج (الشارونات) الذين فرخهم الفكر والنهج الشاروني مثل أولمرت وموفاز وتسيفني وباراك ونتنياهو من جلدهم وعن طبيعتهم… أو عن ذلك الثراث الإرهابي الدموي وعن ذلك المجتمع العنصري الملوث بلوثة الشارونية وتفريخاتها الإرهابية.
نواف الزرو