سلطنة عمان الشامخة منذ ما قبل التاريخ، الراسخة في موقعها في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية منذ الألف الثامنة قبل الميلاد، وهي التي حباها الله عزوجل باستراتيجيّة المكان وعزيمة الإنسان. المكان الذي جعلها أرض حضارة شامخة كل يوم تشرق فيها الشمس قبل أيّ مكان آخر.
ما زال الباحثون يكشفون عن مدى رسوخها سواء عبر التنقيبات الأثريّة أو الأبحاث التاريخيّة. ويبيّنون قدرة الإنسان العماني الذي حوّل بيئته الجافّة إلى بيئة جاذبة للسكنى، فأقام المستوطنات البشريّة بعد ابتكاره نظام ريّ فريد من نوعه هو نظام الأفلاج، فطوّر مهاراته في البحث عن مصادر المياه وشقّ القنوات لتصله لأماكن سكناه في زمن كانت تستخدم فيه أدوات بسيطة وبدائية لا تضاهي آلات ومعدّات هذا الزمان. وقد أثبت الإنسان العمانيّ على مدى التّاريخ قدرته على التعامل مع مختلف الظروف، وأثبت كفاءته عبر تاريخه على البقاء والديمومة، وعلى إقامة دولة قويّة في كافّة الأصعدة.
شهدت عمان منذ عام 1970م مرحلة ثانية من تاريخها الحديث والمعاصر، نقلتها نقلة كبيرة نحو القرن العشرين بصورة دقيقة مرسومة تحت قيادة المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور (1970-2020م)، وها هي تستمرّ تحت راية جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور -حفظه الله ورعاه-؛ لتستكمل عمان مسيرتها المباركة نحو متطلبات الحداثة في القرن الحادي والعشرين.
يمثل كل من التّاريخ واللغة والتراث ركائز أساسيّة للهُويّة الوطنيّة لأيّ أمّة، وأمر الحفاظ عليها يُعدّ واجباً ومطلباً مهمّاً في كلّ زمان، ويتمّ هذا عبر العديد من القنوات، سواء من خلال ترسيخها عبر المناهج الدراسيّة في مختلف المراحل الدراسيّة، وعبر السياسات العامّة المتعلّقة بصون التراث والمحافظة عليه، وتفعيل دوره في الجوانب التعليميّة والاقتصاديّة وغيرها.
لقد كان هذا التوجّه من أولويات بناء الدولة الحديثة التي أسّسها المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- ؛ لا يفتأ في خطاباته وتوجيهاته يركّز على ضرورة وأهميّة المحافظة على التاريخ والتراث العمانيّ؛ لكونهما مكوِّنين أساسيين من مكوّنات الهوية الوطنيّة، ففي أوّل لقاء لجلالته -طيّب الله ثراه- مع أجهزة الإعلام والصحافة العمانيّة في 22/ 10/ 1985 م قال في ردّه على سؤال حول أسباب اهتمامه بالتّاريخ والتّراث: ” من المعروف، وهذه كلمة تقال دائما ولا بأس بأنّ الذي ليس له ماضٍ ليس له حاضر ولا مستقبل، وأنّ من نسي تراثه وتاريخه لا بد أن ينساه الناس، ويصبح كالإنسان الذي لا يعرف أبويه ويصبح مشرداً، لا أحد يعرف شيئا عنه ولا أحد يعرف أصله ويكون – كما نقول – طفيليّاً-. ومن هذا المنطلق كان اهتمامي أنا الشخصيّ، واهتمام حكومة السلطنة وأيضا اهتمام الشعب العمانيّ ككلّ بتراثه وتقاليده فهو ينظر إلى ماضيه ليستمدّ منه مستقبله، حاضره يعيشه، لكن القصد هما جناح الغابر وجناح المستقبل”.
ولهذا كلّه وجب الحفاظ على التاريخ العماني الشامخ وتشجيع الدراسات المرتبطة به وسط عالم نرى فيه العديد من الدول حديثة النشأة تبحث عن ماضٍ لها؛ لترسمه لأجيالها المعاصرة، فكيف بدولة راسخة الجذور في التّاريخ، يتشتت فيها الجهد البحثيّ هنا وهناك، وتتضارب فيها المصالح، ويتمّ عبرها شخصنة القضايا التّاريخيّة، ولربّما وصل الحال بالبعض للمتاجرة به.
إنّ وجود مركز بمسمّى “المركز العماني للدّراسات التاريخيّة” باعتباره مؤسّسة علميّة متخصّصة لها استقلالها الإداريّ والماليّ، أمر من شأنه دعم البحث العلميّ التّاريخيّ، عبر التنقيب عن هذا التّاريخ في مختلف فتراته التاريخيّة وفي مختلف القطاعات الجغرافيّة التي شملته، وذلك باستقطاب الباحثين العمانيين الذين حملوا مضنّة البحث التّاريخيّ بجهودهم الشخصيّة لغياب مؤسّسة ترعاهم وتوجهّهم حتّى الآن. كما أنّ مركزًا بهذا الثِقل سيكون مناطًا به إقامة الفعاليّات التاريخيّة كالمؤتمرات والندوات والملتقيات، تُترجم من خلالها رؤية وأهداف كبرى تركّز على البحث التاريخيّ؛ لكونه رافدًا رئيسًا لمؤسّسات الدّولة المختلفة، ومتسقا مع التوجيهات السامية لسلطان البلاد المفدى فيما يتعلق برؤية عمان2040 كذلك.
وينطلق المركز أيضا عبر رؤيته السامية للمحافظة على التّاريخ العماني وفق منهجيّة علميّة رصينة، وإلى نشر المؤلّفات والمطبوعات التي تعرّف العالم الخارجيّ بتاريخ هذا البلد وعمق أصالته واسهامه في التاريخيّ الإنسانيّ والحضاريّ، ويكون المركز مدعوما كذلك بالخبرات المميّزة في مجال الدعاية والإعلام الحديث بأنواعه المختلفة الالكتروني والمسموع والمرئيّ والمقروء، وقنوات التّواصل الاجتماعيّ؛ ليكون الصوت العلميّ الناطق كلمة وصورة عن سلطنة عمان ذات التّاريخ المجيد.
إنّ رفع كفاءة البحث العلميّ التّاريخيّ لا تتمّ إلا بتفعيل دور الشباب العمانيّ المجتهد في التنقيب عن تاريخه عبر العصور المختلفة، المتسلِّح بالوعي وبالمؤهِّلات العلميّة اللازمة؛ والذين-بلا شكّ- سيستثمرون مهاراتهم وإمكانيّاتهم العلمية لتسهم في بناء رصيد وطنيّ تاريخيّ رصين يقدّم للأجيال القادمة، فتحافظ الأجيال عليه عبر تطوير أدوات البحث فيه، واكتشاف كنوزه من خلال أدوات بحثيّة حديثة، فيقدّم مكتوباً على هيئة دراسات مستقلّة، أو تطويره لاحقا لتنبثق منه سلسلة مجلّات علميّة محكّمة متفرّدة يتمّ عبرها تشجيع الباحثين على الغوص في زوايا هذا التّاريخ وتكامليته مع العلوم الإنسانيّة والتطبيقيّة الأخرى كذلك، بإدارة عمانيّة تعي الواجب والمسؤوليّة الوطنيّة الملقاة على عاتقها.
إنّ من شأن هذا المركز أن يعمل فيه الباحثون المؤهّلون بأدوات البحث ومناهجه ليكونوا مدربين لغيرهم من الفرق البحثيّة المتطوّعة والراغبة بالدخول في هذا المضمار، ويقدّمون الاستشارات التاريخيّة للمؤسّسات والشركات باعتبارهم ممثلين لهذه الجهود الوطنيّة لمن يعنون بوضع المناهج في التاريخ، ويقدمون التدريب لكلّ من أراد تدريس التاريخ سواء في مؤسّسات التعليم العام أو العالي أو حتّى المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة بالإضافة للمؤسّسات الإعلاميّة؛ فيكون هذا المركز قبلة لكلّ المهتمين بالتاريخ العمانيّ، ويصبح للبلاد صوتا واحدا ورؤية واحدة ينقل من خلالها تاريخ عمان، ذلك أنّ التّاريخ هو ميراث الشعوب وليس ملكا لحِقبة زمنيّة بعينها أو مرتبط بشخص ما.
إنّ الدّول التي تسعى إلى الحفاظ على أمجادها -من خلال استلهام معاني العزّة والقوّة من تاريخها، لتفعيله في حاضرها، وتستشرف به مستقبلها- لهو استراتيجيّة لدى العديد من الدول الكبرى اليوم، وبالتالي فإنّ إقامة مركزٍ معنيٍّ بدراسة التاريخ العمانيّ ونشره وتوثيقه في زمن ثورة المعرفة يُعدّ مطلباً يتحتّم علينا العمل من أجله، ووضعه ضمن خططنا واستراتيجيّاتنا المقبلة، وذلك بالعمل على توحيد الجهود وتوجيهها التوجيه السليم وفق الأطر العلميّة وبأيدٍ عمانيّة مخلصة ستكون حتماً حائط الدّفاع الأوّل لكلّ من يتجرّأ على سرقة تاريخنا والتّمادي في تشويهه والتّدخّل في أبسط أبجديّاته، والاعتداء على رموزه المحفورة في تراب هذا البلد العزيز.
د. بدرية بنت محمد النبهانية
باحثة في التاريخ
(مقال منشور في منصة أثير ٦ أغسطس٢٠٢٠م)