تعود العلاقات بين عُمان وجزيرة سقطرى لفترات زمنية طويلة، وتؤكّد المراسلات المتبادلة بين الأئمة وأهل سقطرى – التي وجدناها- على تبعيّة الجزيرة لسلطة حكّام عُمان، إذ جاء في كتاب بيان الشرع للشيخ محمد بن إبراهيم الكنديّ( ت:580هـ/1115م)، ما يفيد أنّ الإمام الجلندى بن مسعود(ت:134هـ/751م)، قد صالح أهل سقطرى على رؤوس استلمها منهم في السنة الأولى من عهده باعتبارها جزية مقابل الحماية، واستمر أهل سقطرى في دفع الجزية في السنة الثانية، كما يبدو من الرواية، إلا أنها قلّت نتيجة دخول عدد منهم في الإسلام، فأصبح يأخذ الجزية على الرأس ولم يقبل من عبدة الأوثان إلا الإسلام أو القتال.
وفي عهد الإمام الصلت بن مالك الخروصي (237/851م-273هـ/886م) اتضحت معالم هذه العلاقة بصورة أكبر من خلال عدد من المراسلات وجدناها منثورة في كتب الفقه العماني، وفي دراسة مقارنة لأكثر روايتين تاريخيتين يُعدّان الأقرب للفترة التاريخية هذه، وهما تلك الواردة في جامع الفضل بن الحواري، والرواية الموجودة في كتاب بيان الشرع، وهما يؤكّدان أنّ حادثة سقطرى لم تكن حادثة عاديّة، وأنّ الإمام حرّرها وانتهى الأمر، وإنما كان لها تبعات أخرى.
طلب الإمام الصلت بن مالك من رئيس علمائه وكبيرهم في ذلك العصر الشيخ أبو عبدالله محمد بن محبوب بن الرَّحِيل (ت: 260هـ /873م) كتابة هذا العهد لأهل سقطرى، وبعد قراءة تاريخيّة لهذا العهد في جامع الفضل بن الحواريّ (ت:278هـ/891م) ، وهي الرواية الأقرب تاريخيا للحدث، تتّضح أمامنا نقطتان رئيستان، الأولى أنّ هناك عهدين تم توقيعهما باسم الإمام الصلت بن مالك بشأن سقطرى، وما يذكره الإمام السالمي(ت:1332هـ/1913م)، من أنّ النصارى قد خانوا العهد ونقضوه إنّما كان يقصد به العهد الأول، ولعلّه كان تجديداً لعهد سابق عقده الإمام الجلندى -كما أسلفنا-. يقول السالمي: ” وفي أيّامه رضي الله عنه خانت النصارى ونقضوا ما بينهم وبين المسلمين، فهجموا على سقطرى، وقتلوا والي الإمام وفتية معه، وسلبوا ونهبوا وأخذوا البلاد وتملّكوها قهرا… فكتبت امرأة من أهل سقطرى يقال لها الزّهراء للإمام رضي الله عنه قصيدة، تذكر له فيها ما وقع من النصارى بسقطرى وتشكو إليه جورهم وتستنصره عليه”.
وجاء لدى الكندي في بيان الشرع: ” وفي جواب محمد بن محبوب رحمه الله، عن نصارى سقطرى والصلح الذي هو عليهم وصفه لهم أن ينقضوا ذلك الصلح أو للمسلمين أن ينقضوه؟ فقال: ليس للفريقين ذلك وهم على صلحهم الأول على جميعهم على عدد رؤوسهم على من كان له يسار منهم، ليس على الفقراء ولا على الزمناء ولا على الصبيان ولا على النساء شيء من ذلك، ويؤخذ به ذلك من قبل به منهم، فإن هلك الذين قتلوا به كان على جماعة الباقين من أهل اليسار منهم على ما وصفت لك. قال له: فإن هربوا على الوالي أيأخذ من أموالهم ما يلزمهم من الصلح ؟ قال: نعم للوالي ذلك” .
وتؤكّد الرّوايات أنّ النصارى الذين خانوا العهد لم يأتوا من خارج الجزيرة، وإنّما كانوا من سكّانها الذين كتب لهم الصلت بن مالك بالعهد الذي ذكرناه، وهم الذين عاهدهم الإمام الجلندى بن مسعود -كما أسلفنا-.
وفي قراءة متأنيّة لرسالة الإمام الصلت بن مالك التي كتبها الشيخ محمد بن محبوب في كلِّ من كتاب جامع الفضل بن الحواريّ، وكتاب بيان الشرع يتّضح لنا التالي:
أرسلت الرسالة لقادة الإمام الصلت بن مالك الخروصي، في هجوم قام به النصارى على سكان الجزيرة من المسلمين، من رجال ونساء وأطفال. فكتب لهم الإمام عهدا على لسان محمد بن محبوب، جاء فيه: “هذا ما يقوله الصلت بن مالك بسم الله الرحمن الرحيم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ومقاليد كل شيء عنده، الواحد الأحد، العَلِّي الجد الذي ليس لعظمته حد ولا لملكه عد…. فالزموا تقوى الله في الغيوب وداووا بها داء العيوب وتجهزوا للقاء الله بالطهارة من العيوب، فإن الله يغفر لمن يحوب ثم ينصح إذ يتوب…. ومما أوصيكم به أن تتقوا الله ولا تبيعوا شيئا من الأسلحة بسقطرى ولا تشربوا النبيذ. ولا يتحدّث أحد منكم وامرأة خاليا، ولا يشتمن بعضكم بعضا. ولا يكون في شيء من مجالسكم لهو ولا لعب ولا هزل ولا كذب. فمن ظفرتما عليها إثما عن محمد بن عشيرة وسعيد بن شملان أو صح معكما من أصحابكما أنه شرب نبيذا حراما أو خلا بامرأة يحدثها غير ذات محرم منه مما تسبق إلى قلوبكم فيه التهمة أو يكون متهم باللهو واللعب والغناء أو شيء مما يكرهه الله والمسلمون أو آذى أحد من المسلمين أو يكون منهم إلا عددهم أو باع سلاحا في أرض الحرب، فقد أذنت لكما في قطع صحبهم وإخراجهم من عسكركم وقطع النفقات والآدام عنهم. ومن كان عنده شيء من أسلحة المسلمين فيقبضون منهم إلا مرتاب منهم. واستغفر الله بحوب منه فأقبلوا توبته واقبلوا عثرته وردوا عليه نفقته ورزقه إلى من أن يسألكم الله ويرجعون إلينا إن شاء الله. ومن أراد من أهل سقطرى من أهل الصلاة من رجال أو نساء أن يخرجوا إلى بلادهم، فاحملوهم في حمولتكم وأنفقوا عليهم من مال الله حتى يصلوا إلى بلاد المسلمين إن شاء الله. ومن كان هنالك من أولاد الشراة وأعوان المسلمين فاحملوهم إلى بلاد المسلمين فإن تلك دارا لا يصلح لهم بعد تلاحم الحرب بيننا وبينهم. انقضى”.
يبدو أنّ هذه الحملة استنفذت عددا كبيرا من الرجال، ولعلها كانت معركة قاسية جدا، لأنّ الرواية التي نقلت عن محمد بن محبوب في أمر المفقود قد ذكر فيها أنّ حازم بن همام وعبد الوّهاب بن يزيد قتلا خلال هذه الحملة.
لقد كان لهذا الإجراء – الذي قام به الإمام الصلت بن مالك-أثر كبير في نظر العديد من الناس؛ فقد رآه العديد منهم انسحاباً من سقطرى، وعدم نصرة لأهلها؛ لأنّه أمر بإخراج المسلمين، ومن تبقّى من الشراة من الجزيرة.
وما يؤكد صحة هذه الرواية، أن سقطرى تأتي كذلك في إطار المحاججة بين العلماء وإمامة عزان بن تميم، حيث نجد في كتاب بيان الشرع رواية حول هذا، يقول صاحب كتاب بيان الشرع: “… وإن قالوا بعد الحجة، قيل لهم: وما الحجة في ذلك؟ فإن قالوا: إذ لم ينصف أهل إزكي، قيل لهم: فإن الذي عزل الصلت بن مالك كان من حجتهم إذ لم ينصف أهل سقطرى ويأخذ لهم الحق من الذين اعتدوا عليهم، وأنتم تبرأون منهم بعزلهم إياه، وتتولون من برئ من عزان بن تميم إذ لم ينصف أهل إزكي، فما القول في ذلك؟ والسبيل واحد …”.
إن خاتمة العهد واضحة كما ذكرنا، تمثّلت في إجلاء الشراة وأهاليهم من الجزيرة -وهم من شكّلوا القوة العسكرية فيها-وهذا دليل على استفحال الأمر فيها، وعدم أمانها للإقامة. وإذا كان الشراة قد تمّ إجلاؤهم فحتما لم يتم تعيين والِ فيها بعد مقتل الوالي السابق؛ فالعدد الكبير من العَتادِ الذي تمّ تسييره للجزيرة، ومقتل عدد من قادتها، يعدّ دليلاً على أنّها كانت حامية الوطيس فعلا، ولعلّ قرار الإمام الصلت كان رأيا صائبا في وقتها، فلم تعد الجزيرة آمنة للإقامة فيها.
إلا أن الثابت أن الجزيرة ظلت تخضع على فترات مختلفة للسيادة العمانية أو للنفوذ العماني، إذ ظلت تشكل بموقعها محطة مهمة في رحلات العمانيين التجارية نحو الشرق الأفريقي، ولعل انفصالها النهائي جاء بعد 1861م أي بعد تقسيم الإمبراطورية العمانية، ولهذا فالبعد التاريخي للنفوذ العماني هناك لا حدود له، وهي تشكل بالتالي جزء من العلاقات التاريخية بين عمان واليمن، أقدم كيانين سياسيين في شبه الجزيرة العربية.
المراجع:
الحارثي، أحمد بن عبدالله، السالمي، نورالدين عبدالله بن حميد. اليُسرى في إنقاذ سُقطرى. مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، السيب:1992م.
الحارثي، عبد الله بن ناصر. دراسات في تاريخ عمان وحضارتها في العصر الإسلامي. ب.د، مسقط: 2013م
ابن الحواري، الفضل. جامع الفضل بن الحواري، 3ج، وزارة التراث والثقافة، مسقط:1985، ص ص 207-208.
السالمي، نورالدين عبد الله بن حميد (ت:1332هـ/1913م). تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان. 2ج. مكتبة الإمام نورالدين السالمي، السيب، 2000.
الكندي، محمد بن ابراهيم. بيان الشرع الجامع للأصل والفرع. 71ج. وزارة التراث والثقافة، مسقط: 1982م، ص355.
النبهاني، بدرية بنت محمد. آل الرَّحِيل: قرنان من صياغة الحياة السياسية والفكرية في عمان 2هـ-4هـ. دار الوراق العمانية، السيب:2019م.
د.بدرية بنت محمد النبهانية – باحثة في التاريخ
(مقال منشور بموقع أثير ديسمبر2017م)