أثار في الأيام القليلة الماضية فيلم أخرجه عمر الزهيري بعنوان “ريش” وهو الفيلم الروائي الأول لهذا المخرج الطموح أثار الكثير من اللغط، ودبجت حوله العديد من المقالات، بعضها فني نتيجة لحصوله على جوائز وبعضها بسبب الرفض الذي أبداه طائفه من الممثلين للفيلم بسبب- حسب وجهة نظرهم- تضمنه مشاهد لا تمت للواقع المعاش بل تتعمد تشويهه؛ كما فعل الممثل شريف منير الذي غادر القاعة محتجا يوم عرضه في مهرجان الجونة السينمائي، الذي -للمفارقة- حصد الفيلم جائزته الكبرى كأفضل فيلم روائي عربي، كما حصل على الجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد الدولي في الدورة الرابعة والستين لمهرجان كان الدولي. وقد كان الرفض تحت حجج غير فنية تتعلق بأن تفاصيل الفيلم لا تمت للواقع المعاش بصلة.
ولكن لا يجب أن ننسى أن الفن -وكذلك الأدب- ليس دوره تلميع هذا الواقع وليس دوره كذلك التركيز على ما يعجب الساسة وما يعجب الشريحة المرفهة، وإلا لما خرجت تيارات أدبية واقعية في العالم، أحد هذه التيارات يحمل عنوانا مباشرا وهو تيار الواقعية القذرة في أمريكا واشتهر منه كتاب كبار على رأسهم الروائي الأمريكي ريتشارد فورد وصاحب رواية ثلاثية نيويورك بول أوستر وغيرهما؛ بل إن مصر تزخر بأعلام للواقعية بأنواعها، ليس على سبيل الحصر يوسف إدريس الذي ترك أدبا واقعيا هائلا جميع عوالمه تنتمي للهامش، ولنقرأ مثلا مجموعته القصصية “بيت من لحم” التي تعد من رموز القص العالمي.هناك أيضا يوسف الشاروني وقصصه التي تميل إلى التجريب الواقعي وبحرية تفرضها تناقضات الواقع ومفارقاته. دون أن ننسى أبا الرواية الواقعية نجيب محفوظ وتلك الروايات التي تزخر بمفارقات الواقع وتنوعه وتفاوته بين ثراء فاحش لم يتورع عن وصف أصحابه بالكلاب كما في رواية “اللص والكلاب” وأشخاص يصل بهم البؤس ويضطرهم لشراء العاهات بغرض امتهان الشحاتة من عند “زيطه صاحب العاهات” في رواية “زقاق المدق”. كما أن الأفلام والروايات المصرية في هذا السياق كثيرة ومتنوعة ولكن دون أن تسيس أو تتهم بأنها ضد الواقع أو تحاك حولها الاتهامات غير الفنية. بل يتم التعامل معها على أنها فن غير تسجيلي إنما أدب يستند إلى الواقع والخيال معا، وهذا الواقع بطبيعته ثري ومتنوع وطبقي وتدخل الخيال يعطيه غنى أكثر ويجمله نظرا لما يحتويه الأدب من بلاغة. وقد قرأت أخيرا رواية تصب في هذا السياق -سياق الواقعية القذرة_ للكاتب المصري البير قيصري تحمل عنوان ” ألوان العار ” وهي تصف حياة الهامش وتغوص عميقا في محنة الفرد الباحث عن أبسط شروط العيش في ظل فوارق طبقية، محروم فيها حتى من التفكير في تغيير واقعه، كما تعبر الفقرة البليغة التالية: (الوقت الوحيد الثمين، هو الوقت الذي يكرسه الإنسان للتفكير. إنها واحدة من الحقائق التي يمقتها التجار) لم أكن أعرف من قبل عن ألبير قصيري سوى ما يعرفه الكثيرون، وهو أنه هاجر من القاهرة صغيرا وعاش في غرفة بفندق وسط العاصمة الفرنسية ( مكث في هذه الغرفة حوالي سبعين عاما! ) ولكن بعد قراءة روايته ألوان العار. وهي رواية عميقة بتوغلها في قاع الحياة والهامش المصري، وذلك عبر شخوص تدفعهم الظروف إلى امتهان الرذيلة والعيش بين قبور الأموات، في ظل الفساد المؤسسي: ( رجل قادر على إبادة خمسين شخصا بغشه في مواد البناء، لا لشيء إلا ليكدس مزيدا من الأموال، ألا يمثل هذا الرجل نموذجا للعار الكوني؟) – مقطع من الرواية – وكذلك الرواية عميقة في رسمها للشخصيات وكشفها لجوانب غامضة من حياة الإنسان وشعوره.
ولغتها ساخرة وممتعة.
كان الكاتب إذن – في تلك الغرفة من فندق لويزيانا بمنطقة السان جرمان بباريس- معزولا عن كل شيء سوى عن هموم وطنه الذي عبر عنه تعبيرا جماليا بدون الحاجة لرفع الشعارات.

