للحديث عن النظام الرسمي العربي لا بد أن نعود للوراء قليلا أو السنوات الأخيرة قبل زوال الدولة العثمانية، وما حدث من إعدامات للوطنيين العرب عام ١٩١٥/ ١٩١٦م من قبل الوالي جمال باشا السفاح، ومحاولة العرب التخلص من الحكم العثماني ثم قيام الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين عام ١٩١٦م لمجابهة الوجود العثماني في الوطن العربي، حينها كانت هناك وعود مع بريطانيا للشريف حسين عبر مراسلات حسين – مكماهون من أجل إقامة الدولة العربية التي تشمل الشام والجزيرة العربية باستثناء الحجاز وعدن نظرا لاعتبارات دينية بالنسبة للحجاز مع بقاء عدن تحت الحماية البريطانية، هذه الوعود نكثتها بريطانيا من خلال (مؤامرة) سايكس بيكو ١٩١٦م الموقعة بين بريطانيا وفرنسا على تقسيم منطقة الهلال الخصيب بين البلدين وبمصادقة من روسيا القيصرية وإيطاليا، فأصبحت سوريا الطبيعية مقسمة بين الإنجليز والفرنسيين، ووضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني حتى يحين موعد تسليمها للصهاينة وفقا لما تم بالمؤتمر الصهيوني الأول في بازل سويسرا ١٨٩٧م وقد ثبت ذلك رسميا من خلال وعد بلفور عام ١٩١٧م لمنح اليهود وطنا قوميا في فلسطين، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وظهور ملامح المؤامرة على العرب، بدأت نواة تشكل أول النظم الرسمية العربية (سوريا) وذلك بعد المؤتمر السوري العام الذي أعلن فيصل بن الحسين ملكا على سوريا بسلطات دستورية ومجلس تشريعي ودولة لا مركزية مع وجود تقسيمات إدارية على المدن الرئيسية، وبذلك تم إعلان المملكة العربية السورية عام ١٩٢٠م وظهور أول دولة عربية في الشطر الآسيوي بقوانين وتشريعات وحكومة رسمية، إلا أن الفرنسيين لم يرق لهم قيام تلك المملكة رغم الاتفاق الأولي على قبول الانتداب الفرنسي في اتفاق فيصل كليمنصو، باعتماد العملة الفرنسية السورية وتسريح الجيش وإلغاء التجنيد الإجباري وتسليم الخطوط الحديدية، ما يعني إلغاء السيادة الوطنية السورية، ولكن هذا الاتفاق الأولي لم يتحقق عمليا نظرا لمعارضة بعض أقطاب السلطة الوطنيين وعدم ثقة الفرنسيين بالاتفاق والاعتماد على تفوقهم العسكري وانتهى الأمر بالزحف على العاصمة دمشق فاشتعلت المعارك وقدم السوريون ملاحم من النضال والمقاومة خصوصا في معركة ميسلون التي قادها وزير الحربية يوسف العظمة فقدم فيها الجيش السوري ملحمة كبيرة، إلا أن عدم التكافؤ بين الفريقين انتهى باحتلال العاصمة دمشق واستشهاد يوسف العظمة وعدد كبير من قواته ومغادرة الملك فيصل سوريا وإحكام فرنسا سيطرتها على سوريا ولبنان، والانتداب البريطاني على فلسطين وظهور إمارة شرق الأردن .
أما في العراق ومع اندلاع ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني فقد عقد في القاهرة عام ١٩٢٠م مؤتمر بحضور تشرشل وزير المستعمرات البريطاني للنظر في الوضع بالعراق فأعلن عن تغيير الحكومة البريطانية لسياستها بالتحول من استعمار مباشر إلى حكومة إدارة وطنية تحت الانتداب وذلك إثر تكبد القوات البريطانية في العراق خسائر فادحة، ومن خلال المؤتمر تم الاتفاق على تسمية الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق ومجلس يتألف من الشخصيات العراقية منهم نوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني وعدد آخر من الشخصيات العراقية، وبالتالي فقد أعلن مجلس الوزراء العراقي في يوليو ١٩٢١م فيصل بن الحسين ملكا على العراق تحت الانتداب البريطاني، وقد استمر الانتداب حتى معاهدة ١٩٣٠م التي أقرت فيها بريطانيا استقلال العراق عن التاج البريطاني وإنهاء حالة الانتداب، كما ضمنت الاتفاقية أيضًا عدد من التسهيلات لبريطانيا في مجال تسهيل مرور القوات أوقات العمليات والتعاون في مختلف المجالات .
وفي وادي النيل لم يكن الحال يختلف كثيرا بوجود قوات الاحتلال الإنجليزي مع استمرار أسرة محمد علي باشا في الحكم تحت إشراف بريطانيا، كما كان المغرب العربي بمختلف أقطاره تحت الاحتلال الإيطالي والفرنسي، أما منطقة الخليج العربي فكانت تحت النفوذ البريطاني، وفي الصومال مناصفة مع الإنجليز، وبذلك كان الوطن العربي مقسما بين القوى الاستعمارية، وهكذا كان الكثير من المستعمرات في آسيا وإفريقيا .
لقد برزت حقبة التحرر في الوطن العربي بعد احتلال فلسطين عام ١٩٤٨ وظهرت عمليا من خلال ثورة يوليو ١٩٥٢م التي أتت بالضباط الأحرار على رأس السلطة في مصر وتم توقيع اتفاقية الجلاء مع الإنجليز عام ١٩٥٤م، وأسهمت مصر عبدالناصر في دعم حركات التحرر في الوطن العربي عموما بدءا من دعم ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨م في العراق والوحدة مع سوريا ١٩٥٨/١٩٦١م، كما تم دعم استقلال الجزائر وتم استقلال تونس والمغرب وقيام الجمهورية في اليمن وظهور نظام عربي جديد تسوده روح القومية العربية، والذي أعاد للأمة العربية شخصيتها وتخلصت من الاستعمار القديم، فبدأ عهد من العزة والكرامة والاعتماد على الذات العربية وقيام نهضة عربية عمت عددا من الأقطار العربية في مجال التعليم والصحة والصناعة والزراعة وتشكيل جيوش عربية، وغياب بريطانيا عن المشهد العربي بعد حرب السويس أو العدوان الثلاثي ١٩٥٦م بل انتهاء امبراطوريتها الاستعمارية، وظهور أقطاب عالمية جديدة بظهور الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على صدارة المشهد الدولي ومدى تأثيرهما في المنطقة العربية، وارتباط الولايات المتحدة بشكل خاص بدعم المولود الصهيوني في قلب الوطن العربي وما أعقبه من حروب أخرى منها حرب عام ١٩٦٧م التي حقق فيها الاستعمار انتصارا جديدا على العرب نظرا لتفوقه العسكري وعدم وجود استعداد حقيقي على المستوى العسكري وكذلك بعض الانقسامات في الموقف العربي، إلا أن العرب خرجوا سريعا من تلك الهزيمة إلى حالة من التعاون الجماعي وتوحيد الموقف العام للعرب بنحو استعادة الحقوق العربية والاستعداد لحرب التحرير القادمة، فقامت حرب الاستنزاف وبدأ الدعم العربي وتسليح وتحديث الجيوش العربية وتنسيق جهود العرب لمصلحة جبهات القتال واستمرار حرب الاستنزاف التي أنهكت كيان الاحتلال الإسرائيلي وحاول تقديم تنازلات أكثر من مرة إلا أن العرب بقيادة جمال عبدالناصر رفضوا كل تلك المحاولات إلا بالانسحاب الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة وإعلان أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، في مشهد من العنفوان القومي العربي الذي لم يسبق له مثيل خلال القرن العشرين وبوجود قيادة رمزية عربية موحدة تمثلت في الزعيم جمال عبدالناصر، وبالفعل تحقق بعض ما يصبو إليه العرب بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م حيث كان العرب في وضع عربي جماعي موحد واستخدم النفط العربي كسلاح في دعم المجهود الحربي قبل الحرب واستخدم كسلاح سياسي بعد إيقاف تصديره عن الدول الغربية المساندة لكيان الاحتلال، وهو ما سجل موقفا عربيا رسميا عظيما أسهم في تقديم ملحمة في معركة العبور وتحقيق انتصار في الحرب ضد قوى الاستعمار، وظل الموقف الرسمي العربي حتى عام ١٩٧٥م في حالة تقدمية نوعية على صعيد العلاقات الدولية، إلا أن الحالة العربية والنظام الرسمي العربي عاد مجددا للتشظي والانقسام بعد زيارة السادات للقدس وانحراف بوصلة الاتجاه العربي وأدى ذلك إلى حدوث اختراق مجددا للمنطقة العربية فعاد الاستعمار مجددا إلى الوطن العربي بشكله الجديد، أعقبه حالة من الاختلافات العربية ومقاطعة عربية لمصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، ثم حدث احتلال عاصمة عربية أخرى وذلك بعد اجتياح بيروت عام ١٩٨٢م في وقت انشغال قوة عربية عظيمة كالعراق في الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استمرت حتى ١٩٨٨م وأخيرا حدثت كارثة احتلال العراق للكويت وما نتج عنه من تضعضع للموقف العربي ودخول الاستعمار بشكل قوي وعودة القواعد الأجنبية في المنطقة، ثم حانت الفرصة المواتية لاحتلال العراق عام ٢٠٠٣م في وقت لم يستطع العرب تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك وفي حالة غياب لميثاق التعاون العربي، واستمرت الأوضاع بشكل أكثر تراجعا مع استمرار سرطان التغول الاستعماري وفقدان الثقة المتبادلة بين العرب واتباع سياسة فرق تسد في المنطقة واستمرار تمادي همجية الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، فوصل بنا الحال إلى فقدان كل عوامل القوة بالانقسام وفقدان الثقة والاختلاف وتمكين الاستعمار من التواجد بقوة عبر عدد من القواعد العسكرية في المنطقة والسيطرة والنفوذ على الوطن العربي، وذهاب ثروات العرب في خزينة الغرب من خلال صفقات السلاح التي وقعت بالمليارات وفي حقيقتها لا تستطيع توفير الأمن العربي، وللأسف الأنظمة الرسمية العربية ترى المشهد العربي بهذا التراجع دون أي محاولة للخروج من هذا الواقع المرير والمأزوم، وبقيت قضية فلسطين متجردة من أي دعم عربي إلا في الخطب السياسية على منابر المؤسسات الدولية، ثم جاء ما يسمى الربيع العربي بمتابعة وإشراف من الاستعمار المتواجد أصلا في المنطقة لتزداد الحالة العربية سوءا، ولا نعلم متى سيستفيق العرب لاستعادة العزة والكرامة المسلوبة؟! لكن كل هذا الوضع الرسمي البائس يقابله تشكل موقف شعبي عربي مقاوم ما زال مرتبطا بثوابت الأمة ومبادئها بمقاومة قوى الاستعمار ودعم المقاومة المشروعة في فلسطين للتخلص من نير الاحتلال واستعادة الحقوق، وقد حققت المقاومة العربية في فلسطين ولبنان ملاحم من الصمود في مواجهة العدوان الإسرائيلي الذي فشل في تحقيق أي انتصار منذ بداية الألفية الثالثة حتى اليوم مما يقدم مؤشرات ودلائل مبشرة أن النهاية سيكتبها أبطال المقاومة بعون الله.
خميس بن عبيد القطيطي